
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4020
تجنّب المواجهة بين "إسرائيل" و"سوريا" (الجزء الأول): مخاطر "الاحتلال"

العملية العسكرية "الإسرائيلية" التي تجاوزت الحدود "السورية" قد تكون مفهومة في ظل الاعتبارات الأمنية، لكنها على الأرجح تخطت الحدود المقبولة، ما يفرض ضرورة تدخل "أمريكي" سريع. على "واشنطن" أن تتحرك لجمع القوى "السورية" المتفرقة، وتخفيف العقوبات المفروضة على "دمشق"، وتنسيق الجهود مع "تركيا"، واتخاذ خطوات إضافية ضرورية لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، ظهرت لوحة إعلانية في "تل أبيب" تهنئ الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب" وتطلب منه المساعدة في "جعل إسرائيل عظيمة من جديد". وفي الآونة الأخيرة، بدا واضحاً في أماكن غير متوقعة أن رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" عازم على تحقيق هذه "العظمة" لـ"إسرائيل" من جديد – كما يتضح من التحركات العسكرية التي قادت إلى سيطرة "إسرائيل" على مساحات شاسعة من الأراضي "السورية" بعد سقوط نظام "بشار الأسد". ورغم أن بعض هذه التحركات قد تكون مبررة أمنياً، فإن اتساع نطاق التدخل "الإسرائيلي" يبعث على القلق، بل ويُعد خطوة استفزازية قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار على المدى الطويل.
مبررات التوغل "الإسرائيلي"
منذ عام 2013، أي بعد عامين من اندلاع الحرب الأهلية "السورية"، بدأت "إسرائيل" باستهداف الوجود "الإيراني" في "سوريا"، من خلال غارات جوية مركّزة على شحنات الأسلحة "الإيرانية"، والمواقع العسكرية، وقواعد "حزب الله" الناشئة قرب الحدود. طوال عقد من الزمن، حافظت "إسرائيل" على هذا النمط من العمليات، مقتصرة في الغالب على الهجمات الجوية.
ولكن في أيلول/سبتمبر 2024، قبل شهرين من الهجوم المفاجئ الذي قادته قوات المعارضة بقيادة "أحمد الشرع" وأطاح بنظام "الأسد"، نفذت "إسرائيل" عملية جوية وبرية مشتركة استهدفت "مركز الدراسات والبحوث العلمية" – وهو منشأة سرّية لتطوير الصواريخ الدقيقة – ودمرته بالكامل. ومع تصاعد المخاوف من انهيار النظام، بدأت "إسرائيل" في تشرين الأول/أكتوبر بنشر قواتها البرية في منطقة فصل القوات التابعة للأمم المتحدة ("UNDOF")، وهي منطقة منزوعة السلاح تم إنشاؤها عام 1974 للفصل بين القوات "السورية" و"الإسرائيلية" في "الجولان". كما قامت وحدات من الجيش "الإسرائيلي" ببناء طرق جديدة وتحسين التحصينات على طول السياج الحدودي، ودفعَت بلواءين مدرّعين إلى داخل المنطقة.
عقب سقوط "دمشق"، دخلت "إسرائيل" مرحلة جديدة من عملياتها في "سوريا". فمع تفكك جيش النظام وازدياد الخشية من وقوع الأسلحة في أيدي مجموعات معادية، شنت "إسرائيل" حملة جوية لتدمير ما تبقى من القدرات الاستراتيجية للنظام، (راجع الجزء الثاني لمزيد من التفاصيل) وسيطرت على مواقع مهجورة تتيح مراقبة تحركات قوات "الشرع" في "دمشق"، بالإضافة إلى معاقل "حزب الله" في "سهل البقاع" اللبناني. في نهاية المطاف، أنشأ الجيش "الإسرائيلي" تسعة مواقع عسكرية داخل منطقة الفصل، ووسّع انتشاره إلى خارجها من خلال تنفيذ غارات جوية قرب "دمشق" (في مناطق مثل "الكسوة" و"معربة") وكذلك في مدينة "درعا" القريبة من الحدود "الأردنية". كما نفذ عمليات لنزع سلاح القرى الحدودية، واستولى على أسلحة ثقيلة في عمق الأراضي "السورية" لمسافة تصل إلى عشرة أميال، وأقام وجوداً دائماً شمال منطقة الفصل بمحاذاة الحدود "اللبنانية ".
هذا التصعيد جاء بدافع الخوف من تكرار سيناريو هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، ولكن هذه المرة من الجبهة الشمالية. ترى "إسرائيل" أن "أحمد الشرع"، الذي كان في السابق عضواً في "القاعدة" و"تنظيم الدولة"، ومعه الجماعات الإسلامية التي دعمته في إسقاط النظام، يمثلون تهديداً متصاعداً. كما تخشى "إسرائيل" من حالة الفوضى التي تعمّ "سوريا"، في ظل غياب سلطة مركزية قادرة على ضبط الأمن. ومن منظورها القانوني، ترى "إسرائيل" أن "اتفاق فصل القوات" الموقّع عام 1974 مع "حافظ الأسد" لم يعد سارياً بعد انهيار حكم "بشار"، إلى حين عودة حكومة مستقرة.
وبصورة عامة، يبدو أن "إسرائيل" تعمل على إنشاء منطقة عازلة داخل الأراضي "السورية". ففي 23 شباط/فبراير، حذّر "نتنياهو" من أن "إسرائيل" لن تسمح لأي ميليشيات أو قوات حكومية "سورية" بالتحرك جنوب "دمشق"، وسرعان ما ترجم هذا التحذير إلى سلسلة من الغارات الجوية. بالتوازي، سعت حكومته إلى تعزيز العلاقات مع الطائفة "الدرزية" في منطقة الفصل، وحاولت فتح قنوات تواصل مع قيادات "درزية" في مناطق شمالية، خصوصاً في "جرمانا" قرب "دمشق". وفي 1 آذار/مارس، لمح "نتنياهو" إلى احتمال تدخل عسكري لحماية الأقلية "الدرزية" من الجماعات الإسلامية. وخلال الأسبوع الأخير، عبّر وزير الدفاع "الإسرائيلي"، "إسرائيل كاتس"، عن أسفه للمجازر التي تعرّض لها "العلويون"، ما أثار تكهنات بأن "إسرائيل" ربما تعرض حمايتهم أيضاً. ومع ذلك، فإن هذا التعاطف لا يعني بالضرورة نية حقيقية للتدخل، خاصة أن "إسرائيل" لم تتحرك لحماية "الدروز" طوال سنوات الحرب رغم ما تعرضوا له من قمع واضطهاد.
أما "أحمد الشرع"، فقد تخلّى عن اسمه الحركي "أبو محمد الجولاني" بعد دخول قواته إلى "دمشق"، وارتدى بدلة مدنية بدلاً من الزي العسكري. وفي غضون أسابيع، أصدرت حكومته المؤقتة عدة بيانات تؤكد أنها لا تنوي الدخول في مواجهة مع "إسرائيل"، بل وتعهد "الشرع" في 16 كانون الأول/ديسمبر بأن الأراضي "السورية" لن تُستخدم كنقطة انطلاق لأي هجمات ضد دول الجوار.
لكن رغم هذه الرسائل المطمئنة، لا تزال نوايا "الشرع" طويلة المدى غير واضحة. صحيح أنه نأى بنفسه عن "القاعدة" و"تنظيم الدولة" منذ فترة، إلا أن حكومته تضم عناصر معروفة بعدائها لـ"إسرائيل"، من الجهاديين والمقاتلين الأجانب. وحتى لو كانت رغبة "الشرع" في بناء علاقات ودية مع "إسرائيل" صادقة، إلا أنه لا يملك السيطرة الكاملة على الأراضي "السورية" أو على مختلف الفصائل المسلحة المنتشرة فيها.
ومع استمرار حالة عدم الاستقرار، والغموض الذي يحيط بمستقبل "سوريا"، تبدو الخطوات الاستباقية التي تتخذها "إسرائيل" لإنشاء منطقة نفوذ في جنوب "سوريا" مفهومة من زاويتها. لكن السؤال الأهم يبقى: هل هذا التهديد، بكل أبعاده، يبرر التوسع "الإسرائيلي" الحالي داخل الأراضي "السورية"؟ ومهما كانت الإجابة، على "الولايات المتحدة" وحلفائها أن يضعوا في اعتبارهم سبباً إضافياً لهذا التوسع "الإسرائيلي": القلق المتزايد من تعاظم النفوذ "التركي" في "دمشق ".
التوصيات السياسية
حين سُئل الرئيس "ترامب" في كانون الثاني/يناير عن التعامل مع "سوريا" بعد "الأسد"، قال: "سوريا غارقة في فوضاها وهم لا يحتاجون لتدخلنا." وتشير التقارير إلى أن إدارته تخطط لسحب القوة العسكرية الأمريكية الصغيرة في شرق سوريا، والتي كانت تقدم الدعم لشركاء "قسد" (قوات سوريا الديمقراطية) في احتواء تنظيم "الدولة الإسلامية"، وضمان أمن مراكز الاحتجاز التي تضم آلاف المقاتلين والمؤيدين وعائلاتهم.
ورغم هذا الانسحاب، لا تزال لدى "واشنطن" مصلحة ملحّة في تحقيق الاستقرار وضمان قدرة الحكومة السورية الجديدة على فرض سيادتها، وحماية الحدود، ومحاربة الإرهاب، والتخلي عن سجلّها الطويل في تهديد جيرانها – وإلا فإن العديد من أهداف الإدارة الأمريكية الأخرى في الشرق الأوسط ستكون عرضة للخطر.
لتحقيق هذه الغاية، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين التعاون مع شركائهم لتحسين الأوضاع الاقتصادية، وذلك من خلال إيجاد توازن دقيق بين الحاجة العاجلة لتخفيف العقوبات (ولو بشكل مؤقت) وبين الضغط السياسي. كما يتعين عليهم دعم جهود دمج الفصائل المسلحة ضمن الجيش السوري الجديد – وهي مقاربة أثمرت بالفعل الأسبوع الماضي عندما توصلت "قوات سوريا الديمقراطية" بقيادة الأكراد إلى اتفاق مبدئي للاندماج مع حكومة "الشرع ".
الأهم من ذلك، تحتاج إدارة "ترامب" إلى حوار مباشر مع "إسرائيل" لفهم استراتيجيتها طويلة الأمد في "سوريا". فعلى سبيل المثال، رغم أهمية تعزيز الشراكات الحدودية لتحسين الأمن، إلا أن أي محاولة لـتشكيل قوة وكيلة جديدة في جنوب "سوريا" ستكون خطوة غير حكيمة – كما أظهرت تجربة "جيش لبنان الجنوبي" التي دعمتها "إسرائيل" في الماضي. يجب أن تكون "إسرائيل" قادرة على الدفاع عن نفسها من مواقعها داخل منطقة "UNDOF" و"جبل الشيخ"، بالإضافة إلى تنفيذ ضربات جوية عند الحاجة. أما في حال استمر وجود قواتها خارج المنطقة المنزوعة السلاح، فقد يؤدي ذلك إلى تنامي التطرف وتهديدات إرهابية مستقبلية، مما يقوّض أمن "إسرائيل" واستقرار "سوريا" على حد سواء.
رغم تصريحات "الشرع" حول تجنّب الصدام مع "إسرائيل"، فإن حكومته المحاصَرة بدأت تشتكي من تمركز قوات الجيش "الإسرائيلي"، وهناك تقارير عن تشكيل مجموعات "مقاومة" جديدة مدعومة من "إيران" لمواجهة "الاحتلال الإسرائيلي ".
على المدى البعيد، قد تحتاج "القدس" و"دمشق" إلى اتخاذ خطوة صعبة – لكنها قد تكون ضرورية – وهي التفاوض على نظام أمني جديد على الحدود، لتعديل أو استبدال اتفاق فصل القوات لعام 1974. وبدعم من "واشنطن"، ينبغي أن يأخذ الاتفاق الجديد بعين الاعتبار التحديات الأمنية الفريدة في "سوريا ما بعد الأسد"، وكذلك ضعف أداء قوات حفظ السلام الأممية في مناطق الصراع العربي – الإسرائيلي.
وأخيراً، يجب على "واشنطن" الانخراط بفعالية مع "تركيا" بشأن تدخلها في شمال "سوريا" وصلاتها بالفصائل الإسلامية هناك. فإذا تحولت "سوريا" إلى دولة ضعيفة ذات مناطق نفوذ دائمة لكل من "تركيا" و"إسرائيل"، فإن الوضع سيصبح حافلاً بنقاط التوتر واحتمالات التصعيد بين حليفين أساسيين للولايات المتحدة. تشير التقارير إلى أن قلق "إسرائيل" من تزايد النفوذ التركي بلغ حدّ مطالبتها "واشنطن" بتسهيل عودة الجيش "الروسي" إلى "سوريا" – رغم أن انسحاب "موسكو" كان يُعدّ من أبرز نجاحات "واشنطن" بعد سقوط "الأسد ".
صحيح أن "ترامب" قال إن "سوريا فوضى"، لكن غياب الدبلوماسية الأمريكية سيجعل هذه الفوضى أسوأ بكثير، مع تداعيات واسعة على أولويات الرئيس في الشرق الأوسط.
تمت ترجمة المقال في 22 نيسان/ أبريل.