- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
"تحالف صمود"، الفاشر، ومعركة مستقبل السودان
سقطت مدينة تاريخية، لكن إذا أصغى العالم بعناية، فقد تنهض من جديد لتصبح محفزاً لمسار مختلف تنبع فيه السلطة من الشرعية لا من القوة.
في أواخر تشرين الأول/أكتوبر2025، سقطت مدينة الفاشر التاريخية، عاصمة ولاية شمال دارفور، تحت وطأة حصار قاس. فهذه المدينة، التي طالما كانت موطناً لمجموعة متنوعة من المجموعات العرقية وملاذاً هشاً لمئات الآلاف من النازحين داخلياً، تعرضت لهجوم من قبل "قوات الدعم السريع" (RSF) بعد أشهر من الحصار. ووفقاً لشهود العيان وتقارير المراقبين الإنسانيين، تلا ذلك إعدامات جماعيةوعنف عرقي ممنهج ونهب واعتداءات جنسية على نطاق مدمر.
لكن الفاشر أكثر من مجرد مأساة إنسانية. فقد باتت المدينة نقطة تحول في الحرب الدائرة في السودان، التي اندلعت في نيسان / أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع". كما أصبحت مسرحاً رئيساً لجهود دبلوماسية عالية المخاطر لإنهاء الحرب، بقيادة "الرباعية"، وهي مجموعة وساطة تضم الولايات المتحدة والسعودية والإمارات ومصر. وفي الوقت نفسه، يضغط "تحالف صمود"، وهو ائتلاف من القوى السياسية المدنية، لضمان أن تفضي أي هدنة إلى انتقال سياسي شامل، لا أن تكون مجرد توقف قصير بين مجازر متكررة.
يتناول هذا المقال تطوّرات المعركة الدائرة حول الفاشر، وأحدث مبادرات الهدنة التي طرحتها "الرباعية"، إضافة إلى تنامي دور "تحالف صمود". كما يؤكد أن أي حل حقيقي للحرب في السودان يجب أن يجمع بين الجوانب الأمنية والإنسانية والسياسية ضمن مسار واحد ومتزامن، وأن ما يحدث في الفاشر سيمثّل اختباراً مبكراً لنجاح هذا النموذج.
مدينة تحت الحصار
على مدى نحو ثمانية عشر شهراً، ظلت الفاشر آخر مدينة رئيسة في دارفور خارج سيطرة "قوات الدعم السريع". وكانت أهميتها الرمزية تضاهي قيمتها الاستراتيجية، إذ شكلت شريان حياة لوكالات الأمم المتحدة، ومركزاً للمجتمعات النازحة، والحلقة الأخيرة التي تربط وسط السودان بالمناطق الغربية التي تشهد صراعات. لكن هذا الوضع تبدل جذرياً في تشرين الأول/أكتوبر.
اتبعت قوات الدعم السريع في حملتها للسيطرة على الفاشر نهجاً مألوفاً ووحشياً تمثل في تطويق المدينة، وقصفها عشوائياً، وقطع الإمدادات، ثم اقتحام المراكز السكانية. وقد سقط آلاف المدنيين قتلى في "مرحلة جديدة من التطهير العرقي "، مع تسجيل حالات اغتصاب جماعي وإعدامات من منزل إلى آخر.
ورغم أن القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع" ارتكبتا فظائع منذ عام 2023، فإن سقوط الفاشر شكل نقطة تحول رئيسة. ويرى كثير من السودانيين اليوم أن الحرب لم تعد سياسية فحسب، بل باتت وجودية.
هدنة الرباعية: طموحة على الورق
رداً على تدهور الوضع، أطلقت "الرباعية" مبادرتها الأكثر طموحاً حتى الآن لوقف إطلاق النار. وتحدد الخطة، التي تم الكشف عنها في أيلول/سبتمبر وجرى التفاوض عليها طوال شهر تشرين الأول/أكتوبر في واشنطن العاصمة، هدنة إنسانية مدتها تسعين يوماً لتمكين تقديم المساعدة الحيوية وحماية المدنيين، وخلق مساحة للمحادثات السياسية. وتبدو آليات الخطة قوية على الورق، وتشمل:
- وقف الأعمال العدائية على مستوى البلاد.
- إنشاء ممرات إنسانية ثابتة.
- تشكيل لجنة لمراقبة الهدنة بقيادة "الاتحاد الأفريقي".
- وضع آليات للتحقق، وتوفير خط ساخن للإبلاغ عن الانتهاكات.
لكن التنفيذ مسألة مختلفة تماماً؛ فغياب الالتزامات الملزمة أو العقوبات على الانتهاكات يجعل الهدنة أقرب إلى طموح دبلوماسي منها إلى واقع قابل للتطبيق.
دخول تحالف صمود
على خلفية النزوح الجماعي وانهيار الدولة وفشل مفاوضات النخبة، برز "تحالف صمود" باعتباره التحالف المدني الأكثر مصداقية وتجذراً في المجتمع في السودان. تأسس "تحالف صمود" في منتصف عام 2025، ويضم لجان المقاومة (وهى مجموعات مؤيدة للديمقراطية في الأحياء السودانية) والنقابات العمالية والحركات النسائية ومنظمات الشباب، والعديد منها يعمل على الخطوط الأمامية للكارثة الإنسانية في السودان. ويتبنى التحالف مبدأ تأسيسيا واضحا مفاده أنه لا توجد حلول عسكرية لأزمة السودان، بل مسار سياسي يقوده المدنيون ويقوم على المساءلة والشمولية والشرعية الشعبية. ويحظى تحالف "صمود"، الذى يقوده رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، برؤية حيادية حاسمة وسجل ثرى في الحوار. وتنبع قدرة "صمود" الاستثنائية على الاستمرار من قبول الكتلتين المتحاربتين الرئيسيتين، تحالف "تقدم" (تأسيس) و"الكتلة الديمقراطية"، له بوصفه شريكاً تفاوضياً شرعياً، ما يجعله البديل المدني الوحيد الجدير بالثقة لأي عملية سياسية مقبلة.
وعلى خلاف الكتل المعارضة القديمة التي قادتها النخبة والتي انقسمت أو فقدت مصداقيتها بسبب التنازلات السابقة، يستمد "صمود" قوته من تنظيمه الشعبي ورفضه الانحياز لأي من الفصائل المسلحة. علاوة على ذلك، توفر مبادرات التحالف "المسارات الثلاثة"، التي أطلقها في حزيران/ يونيو، مساراً واقعياً يهدف إلى خفض التوتر وتحقيق انتقال سياسي يتضمن:
- إنشاء ممرات إنسانية فورية ومراقبة وقف إطلاق النار بمشاركة المدنيين.
- تشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية، يتم اختيارها من خلال حوار شامل، لا عبر تقاسم السلطة خلف الكواليس.
- وضع خارطة طريق شاملة للعدالة، بما في ذلك المساءلة عن الفظائع التي ارتكبت في دارفور والخرطوم
وفي حين لا يرفض تحالف "صمود" الوساطة الدولية، فإنه يشدد على ضرورة أن تراعي هذه الوساطة الأولويات التي يحددها السودان، بدلاً من فرض أطر خارجية لا تنسجم مع واقعه المحلي.
ولتحقيق هذه الغاية، دعي التحالف إلى تشكيل لجنة سياسية تحضيرية تحت رعاية "الاتحاد الأفريقي" لتنسيق حوار بقيادة السودان. كما دعا لاتباع استراتيجية تسلسلية تشمل وقف إطلاق النار أولاً، ثم المفاوضات - وليس العكس.
وفيما لم تعترف "الرباعية" رسميا بعد بـ"تحالف صمود"، بدأ مبعوثو الولايات المتحدة و"الاتحاد الأوروبي" و"الاتحاد الأفريقي" التواصل مع مندوبيه. ويؤدي التحالف الآن دوراً استشارياً في مشاورات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد)، وكان من بين المجموعات المدنية المدعوة إلى نيروبي وأديس أبابا لتقديم توصيات. وقد وجعلت مكانة "صمود" المتصاعدة داخل السودان، لا سيما لدى المجتمعات النازحة والشبكات الطبية ولجان المقاومة، منه الخيار المدني الأكثر وضوحاً في مواجهة هيمنة القوات المسلحة السودانية و"قوات الدعم السريع".
الرهانات في الفاشر
لماذا تحظى الفاشر بكل هذه الأهمية؟ بعيداً عن الكارثة الإنسانية، تمثل المدينة رمزاً لحرب السودان على جبهتين: الغزو العسكري في مواجهة الشرعية المدنية.
يكشف استيلاء "قوات الدعم السريع" على المدينة عن هشاشة الردع الدولي. فلم تفرض أي خطوط حمراء، ولم تطبق أي عقوبات. وفي الوقت نفسه، قوض غياب القوات المسلحة السودانية أثناء سقوط المدينة، وقصفها اللاحق للقرى المحيطة، ادعاءها بأنها تدافع عن السكان.
إذا عجزت القوتان عن حماية المدنيين، فمن سيتولى ذلك؟ هذا السؤال هو ما يدفع إلى دعم "تحالف صمود" ومطلبه بإجراء نزع للسلاح تحت قيادة مدنية.
علاوة على ذلك، قد يؤدي سقوط الفاشر إلى اندلاع موجات جديدة من العنف العرقي. فديناميات القبائل والمجتمعات في دارفور شديدة الحساسة؛ إذ تركت أعمال العنف التي وقعت في 2003– 2006 و2019– 2021 جراحاً مفتوحة. وبالفعل، يساور الأطراف الفاعلة الإقليمية قلق إزاء امتداد العنف إلى تشاد وجنوب السودان، حيث يعبر عشرات الآلاف من اللاجئين الجدد الحدود كل أسبوع.
أخيراً، فإن التداعيات الإنسانية مذهلة، ومن المرجح أن يؤدي تدمير المدينة إلى تعطيل عمليات الإغاثةفي جميع أنحاء دارفور لعدة أشهر، وربما لعدة سنوات. وقد أفادت منظمة "أطباء بلا حدود ) "بالاختصار الفرنسي (MSF أن آخر مستشفى تعمل به في الفاشر قد أُغلق. كما تعرضت شبكات المياه للتخريب، وتنتشر الكوليرا في مخيمات النازحين القريبة. وتصف "منظمة أطباء بلا حدود" هذه الأزمة بكونها أكبر أزمة إنسانية على وجه الأرض. هذه ليست مجرد كارثة محلية. إن هذه الأزمة تقوض ركناً حيوياً من أركان المنظومة الإنسانية في السودان.
رسم مسار للمضي قدماً
لكي تغدو هدنة "الرباعية" فاعلة، يجب أن تتحول من خطوة رمزية إلى إجراء ملموس. ويتطلب ذلك تنسيقاً بين وقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية والعملية الانتقالية، بدلاً من التعامل معها كمسارات منفصلة.
يجب على اللجنة الرباعية و"الاتحاد الأفريقي" الاعتراف رسمياً بتحالف "صمود" وإشراك مندوبيه في مراقبة وقف إطلاق النار، والحوار التحضيري، والإحاطات الاستراتيجية. فتجاهل دور "صمود" والجهات المدنية الأخرى لن يكون فقط غير عادل، بل سيكون أيضاً قصير النظر من الناحية الاستراتيجية. فغالباً ما تكون شبكات التحالف الشعبية هي القنوات الوحيدة الفعالة في المناطق التي يصعب الوصول إليها. ويجب أن ترتبط معايير الهدنة بتقدم قابل للقياس يشمل، فتح الممرات، وإطلاق سراح المعتقلين، ووقف القصف في مناطق النزوح. وينبغي أن تفضي الانتهاكات لعواقب فورية، سواء كان حظر السفر أو تعليق المساعدات أو فرض عقوبات.
ووفقا لـ"صمود"، فإن "خلايا تخفيف حدة النزاع المحلية" في المدن المتنازع عليها، التي تدير الوصول اليومي للمساعدات وتراقب الانتهاكات استنادا إلى نماذج سابقة في جنوب السودان وسوريا، قادرة على إعادة ترسيخ الوجود المدني في العمليات الإنسانية وتوفير نموذج تجريبي لتوسيع نطاق الحماية المنسقة.
أخيراً، يجب على "الاتحاد الأفريقي" أن يقود إطاراً إقليمياً لاحتواء التداعيات، ولا سيما مع تدفق اللاجئين إلى تشاد وانتشار عدم الاستقرار عبر المناطق الحدودية. ولن يَحول دون اتساع رقعة الحرب في السودان إلى أزمة أكبر إلا اعتماد استراتيجية إقليمية شاملة يقودها المدنيون.
الخلاصة: السلام كعملية وليس كورقة
لم يعد النزاع في السودان مجرد حرب بين جنرالات، بل صراع على مستقبل البلاد، وما إذا كان هذا المستقبل يحكمه الرصاص أم صناديق الاقتراع. ويشكل سقوط الفاشر عاراً إنسانياً وتحذيراً جيوسياسياً، ففي غياب وقف إطلاق نار قابل للتنفيذ وحماية للمدنيين وعملية سياسية شاملة، يخاطر السودان بالتحول لدولة ممزقة بصورة دائمة.
وفى هذا السياق، تُعد نوايا "الرباعية" جديرة بالثناء، لكن يجب أن يقترن نفوذها بالتنسيق والمشروطية. وقد أظهر "تحالف صمود" أن المدنيين السودانيين ليسوا ضحايا سلبيين، بل فاعلون سياسيون لديهم الفاعلية والرؤية.
سقطت الفاشر، لكن إذا أصغى العالم بعناية، فقد تنهض من جديد محفزاً لمسار مختلف، مسار لا تستمد فيه السلطة من القوة، بل من الشرعية.