
- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
توجه ترامب نحو الخليج
Also published in "كارافان"

قد يكون الخليج هو "الشرق الأوسط الجديد"، لكن على واشنطن ألاّ تنسى أن مشاكل "الشرق الأوسط القديم" لا تزال تُشكّل معظم الأجندة الإقليمية، الأمر الذي يزيد الحاجة إلى انخراط أمريكي أكثر اتساقاً.
خُصصت أول رحلة رسمية للرئيس ترامب إلى الخارج بالكامل لقضايا الاستثمار. ووفقاً للبيت الأبيض، حقق الرئيس اتفاقات بقيمة إجمالية بلغت تريليوني دولار خلال زياراته في أيار/ مايو 2025 إلى الرياض والدوحة وأبو ظبي. ولا شك أن بعض هذه الاتفاقات – وبخاصة المتعلقة بتصدير التقنيات المتقدمة في صناعة الرقائق الدقيقة – كانت مثيرة للجدل. إلا أن الجولة، من حيث النتائج الملموسة، اعتُبرت نجاحاً باهراً. بيد أن أهمية هذه الزيارة تجاوزت كثيراً المكاسب الاقتصادية المباشرة للولايات المتحدة، إذ حملت في طياتها دلالات استراتيجية وسياسية لا تقل وزناً عن نتائجها الاستثمارية.
على الرغم من المخاطرة بإضفاء طابع "استراتيجية كبرى" على توجهات إدارة ترامب، فإن هذه الزيارة تمثل تحولاً جذرياً عن تركيز واشنطن التقليدي على المشرق العربي، باتجاه الخليج العربي. ففي حين كان الخليج الغني بالطاقة دائماً يشكّل المركز الاقتصادي للمنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، ظلّت واشنطن تركز إلى حد كبير رأس مالها الدبلوماسي والسياسي على الهلال الخصيب لما يقرب من نصف قرن. إن التركيز المتزايد على الخليج يحمل مزايا واضحة، لكنه في الوقت نفسه ينطوي على مخاطر محتملة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
وتعكس إعادة توجيه السياسة هذه – التي تتماشى مع النهج الذي اتبعه ترامب خلال ولايته الأولى – بوضوح ميل الرئيس ترامب إلى نهج قائم على المعاملات، وإلى تفضيله الصريح للدول القادرة على تقديم مكاسب مباشرة للولايات المتحدة، على حساب الدول الأخرى المهمة والمفيدة لكنها تعتمد بشكل أكبر على الدعم الأمريكي. وفي الوقت نفسه، يعكس التحول في مركز الثقل تصاعد النفوذ وتنامي الأهمية الاقتصادية والدبلوماسية لكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مقابل التراجع الملحوظ في مكانة مصر. كما أن التركيز المتزايد على الخليج يجسّد ابتعاد ترامب عن مصر والأردن، واتجاهه نحو تعزيز الشراكة مع الدول المنخرطة في اتفاقيات "أبراهام" مع إسرائيل.
يبدو أن ثمة عاملاً آخر يدعم التحول في المحور الإقليمي للولايات المتحدة، يتمثل في تقدير ترامب لمشروع "التغيير" الجاري في الخليج. وقد ناقش الرئيس هذه التحولات باستفاضة خلال خطابه في الرياض في 13 أيار/ مايو، حيث وصف "جيل جديد من القادة يتجاوز صراعات الماضي وانقساماته المرهقة، ويؤسس لمستقبل يُعرف فيه الشرق الأوسط بالتجارة لا الفوضى، ويُصدر فيه التكنولوجيا بدلاً من الإرهاب، وتبني فيه الشعوب من مختلف الأديان والمعتقدات مدناً معاً بدلاً من أن تقصف بعضها البعض ".
والأهم بالنسبة لترامب، الذي يفخر بكونه من دعاة النزعة الشعبوية القومية، أن هذه التغييرات كانت منسجمة مع الخصوصيات والعادات المحلية. فقد أشار إلى أن "السلام والازدهار والتقدم لا يتحققون من خلال الرفض الجذري للتراث، بل عبر احتضان التقاليد الوطنية." وبالنسبة لترامب، يُمثّل الخليج نموذجاً للمنطقة بأسرها في كيفية بناء مجتمعات ذات اقتصادات مزدهرة، ومستويات معيشية أرفع، ومزيد من الحرية. كما أكد ترامب بارتياح أن ميلاد هذا الشرق الأوسط الجديد والحديث لم يكن ثمرة تدخل الولايات المتحدة، بل "جاء بفضل شعوب المنطقة نفسها."
من المؤكد أن ترامب محق فيما يتعلق بالتقدم الملحوظ الذي أحرزته دول الخليج، إذ باتت هذه المنطقة اليوم من أكثر مناطق العالم ديناميكية على صعيد التقدم التكنولوجي، والتنويع الاقتصادي، والتطور الاجتماعي. وبالمثل، فقد تجاوزت دول الخليج في السنوات الأخيرة مصر والأردن كوجهة رئيسية للمبادرات الدبلوماسية وجهود الوساطة الأمريكية، سواء تلك المرتبطة بحركة "حماس" أو إيران أو الحوثيين أو حتى أوكرانيا. وعلى وجه الخصوص، فإن المقترح الذي تقدمت به مصر في آذار/مارس 2025 لإعادة إعمار غزة – والذي افتقر إلى آليات واضحة للحوكمة والأمن – لم ير النور بسبب فتور اهتمام دولتي السعودية والإمارات.
غير أنه من الجدير بالذكر أنه في حين تستحق السعودية والإمارات وقطر والبحرين وعُمان الثناء على إنجازاتها، فإن هذه الدول لا تمثل نموذجاً تنموياً عملياً بالنسبة لمعظم دول المنطقة. فقد كان التقدم الذي لا يمكن إنكاره في هذه الدول ممكناً إلى حد كبير بفضل الاحتياطيات الضخمة من النفط والغاز الطبيعي، فضلاً عن صناديق الثروة السيادية الهائلة المرتبطة بها.
وفي حين أن جاذبية الخليج بالنسبة لترامب أمر مفهوم، فإن أي تحول مفاجئ قد تكون له انعكاسات مباشرة على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وتتمثل الأهداف الرئيسية للإدارة الأمريكية هناك في تعزيز السلام والاستقرار، ومنع إيران من امتلاك سلاح نووي، والحد من نفوذ وكلاء طهران الإقليميين، وتوسيع نطاق اتفاقيات "أبراهام"، فضلاُ عن تنمية الفرص التجارية للولايات المتحدة. ويركّز العديد من هذه الأهداف بطبيعة الحال على الخليج، غير أنها تظل مرتبطة أيضاً بالدول العربية في بلاد المشرق العربي والمناطق المجاورة لها. والواقع أن حرب غزة أظهرت أن عدم الاستقرار في بلاد المشرق العربي لا يزال قادراً على زعزعة استقرار المنطقة بأسرها والتأثير حتى في مصالح وأهداف دول الخليج نفسها.
لقد أثَّر تحول الولايات المتحدة نحو الخليج على شركاء واشنطن الإقليميين الآخرين بشكل متفاوت. فعلى الرغم من المخاوف من أن مشروع القانون الخاص بالإلغاء الذي قدمته الإدارة قد يؤدي إلى تقليص التمويل الموجَّه إلى الأردن ومصر، فإن الدولتين خرجتا في النهاية سالمتين من عملية تخصيص الموازنات. ففي عام 2026، ستتلقى كل من الأردن ومصر الدعم العسكري والمالي ذاته الذي حصلت عليه في عام 2025، أي ما قيمته 1.65 مليار دولار و1.45 مليار دولار على التوالي.
لم تكن الدول الشريكة الأخرى المهمة للولايات المتحدة محظوظة بالدرجة ذاتها. فلبنان، الذي يمر بعامه السادس من أزمة اقتصادية كارثية، والذي تقوم قواته المسلحة حالياً بخطوات أولية نحو نزع سلاح "حزب الله"، المنظمة الإرهابية المدعومة من إيران، قد يشهد انخفاض المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية من 239 مليون دولار في العام الماضي إلى الصفر. وفي الوقت نفسه، يبدو أن العراق، الذي يعاني من نفوذ الميليشيات المدعومة من إيران إلى جانب بقايا "تنظيم الدولة الإسلامية"، قد خسر هو الآخر التمويل العسكري الأمريكي. وباستثناء الدعم المخصص لقوات البيشمركة الكردية، يُتوقع أن تتوقف المساعدات الأمريكية تماماً في عام 2026.
تمتلك بغداد علاقة معقدة مع الميليشيات المحلية المدعومة من إيران، كما أنها تتمتع باحتياطيات نفطية وموارد مالية كبيرة، إلا أنها تبددها على اقتصاد حكومي يقاوم الإصلاح. أما لبنان فحالته مختلفة؛ فبناءً على إصرار واشنطن، يبدو أن بيروت على وشك تكليف القوات المسلحة اللبنانية بمواجهة "حزب الله"، وهي مهمة جسيمة لقوة تعاني من نقص الموارد. وفي الوقت الراهن، تقوم قطر بتزويد هذه القوات بالوقود وزيادة رواتبها، التي تضررت بشدة جراء انخفاض قيمة العملة بنسبة 98٪. والحقيقة أن غياب التمويل الأمريكي لدعم هذه المهمة التي ترعاها واشنطن يؤدي في الواقع إلى نتائج عكسية.
بيد أن التحدي الأكبر في بلاد المشرق العربي يتمثل في غياب دبلوماسية أمريكية فاعلة ومتواصلة. إذ يبدو أن العديد من قادة دول الخليج يكتفون بالمكالمات الهاتفية الدورية مع ترامب، والزيارات العرضية لمستشاره الأقرب ستيف ويتكوف. كما التقى ترامب بملك الأردن عبد الله الثاني وتحدث معه – ومع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي – عبر الهاتف. وفي حين زار مبعوثون رئاسيون آخرون لبنان ومصر، واجتمع وزير الخارجية ماركو روبيو بكبار المسؤولين في بلاد المشرق العربي وتحدث معهم، فإنه لا يبدو أن ثمة اتصالات أخرى منتظمة ورفيعة المستوى بين الحكومة الأمريكية ودول المنطقة بشأن قضايا مهمة إن كانت أقل إلحاحاً، رغم مرور ما يقرب من ثمانية أشهر على تولي الإدارة الجديدة مهامها.
وقد أدّت عمليات التسريح في وزارة الخارجية، إلى جانب نقص المسؤولين المعتمدين والمعيّنين في الصفوف العليا بمكتب شؤون الشرق الأدنى، إلى تقليص نطاق عمل الوزارة. وربما يكون تركيز سياسة الشرق الأوسط في البيت الأبيض أمراً مقصوداً، غير أن المشكلة تكمن في أن المبعوثين الخاصين يتعاملون مع ملفات منفصلة، في حين يتولى كبار مسؤولي وزارة الخارجية إدارة الطيف الأوسع من العلاقات الثنائية، وهي ملفات لا تستوجب بالضرورة اهتمام الرئيس المباشر.
وتحظى سوريا باهتمام خاص من أحد المقربين من ترامب، المبعوث توم باراك، في حين تحظى بقية دول بلاد المشرق العربي بقدر أقل من الاهتمام. فالأردن يعاني من تداعيات حرب غزة المستمرة منذ عامين، ويواجه تحديات اقتصادية جسيمة. أما مصر فتراهن على الإصلاحات الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي، على الرغم من أزمتها المالية. وفي المقابل، لا يزال لبنان متردداً في تنفيذ الإصلاحات التي التزم بها لإنقاذ دولته من الانهيار. أما العراق، فيتجه نحو الاعتراف القانوني بالميليشيات المدعومة من إيران، بما يشبه إنشاء نسخة عراقية من الحرس الثوري الإيراني. وقد زار أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، بغداد في آب/أغسطس، بينما لم يقم أي من كبار الدبلوماسيين أو المسؤولين المدنيين الأمريكيين بزيارة العراق خلال إدارة ترامب.
من المرجح أن تتفاقم هذه المشاكل المزمنة دون مشاركة أمريكية أكثر اتساقاً. كما قال مؤخراً قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال إريك كوريلا، الذي يزور المنطقة بشكل متكرر على خلاف كبار الدبلوماسيين الأمريكيين المقيمين في واشنطن: "لا يمكن فهم تعقيدات وتحديات وفرص الشرق الأوسط بصورة كاملة... من دون التواجد في المنطقة وزيارتها فعلياً."
قد يؤدي تحول إدارة ترامب نحو الخليج إلى تعزيز موقع ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة، غير أنه من المهم في الوقت نفسه مواصلة إيلاء الاهتمام لبلاد المشرق العربي. قد يكون الخليج العربي هو "الشرق الأوسط الجديد"، غير أن مشكلات "الشرق الأوسط القديم" ما زالت قادرة على تحديد أجندة المنطقة. وللحد من نفوذ وكلاء إيران، ولبناء قوة عربية تتولى تنفيذ خطة ما بعد الحرب في غزة، أو لتوسيع نطاق اتفاقيات "أبراهام"، سيتعين على واشنطن العمل مع شركائها الأكثر تعرضاً للتحديات في بلاد المشرق العربي.