- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4103
مع بدء تشغيل سد النهضة: أين تقف الوساطة الأمريكية؟
لم تتمكّن إثيوبيا ومصر والسودان من التوصل إلى اتفاق حول حقوق تقاسم المياه خلال السنوات التي سبقت تدشين "سدّ النهضة الإثيوبي الكبير"، وهو ما ينذر بتصاعد التوترات ما لم تنخرط إدارة ترامب بدور أكثر فعالية.
في التاسع من أيلول/سبتمبر الماضي، افتُتح "سد النهضة الإثيوبي الكبير" رسمياً بعد فشل مفاوضات دامت أكثر من عقد في وقف هذا المشروع الجدلي أو إبرام اتفاقات لتقاسم المياه مع جارتي النيل مصر والسودان. وبتكلفة 5 مليارات دولار وقدرة إنتاجية تصل إلى 5 آلاف ميجاوات، يستطيع السد تلبية حاجة إثيوبيا من الكهرباء وتصدير الفائض أيضاً. لكن مع دخوله مرحلة التشغيل الكامل، بات مصدر قلق حقيقي للقاهرة والخرطوم اللتين تواجهان مخاطر نقص المياه أو الفيضانات نتيجة التحكم الإثيوبي المنفرد في تصريف المياه. في المقابل سارعت مصر لإرسال رسالة تحذيرية لمجلس الأمن الدولي، مؤكدة أنها "لن تقبل بهيمنة إثيوبيا المنفردة على الموارد المائية المشتركة". إلا أن القاهرة والخرطوم تجدان نفسيهما اليوم في موقف أضعف بعد اكتمال المشروع.
أما على الصعيد الأمريكي، فقد أشار الرئيس "ترامب" للسد في تصريح حزيران/يونيو ضمن النزاعات التي تسعى إدارته لحلها، غير أن جهود الوساطة الفعلية تبدو متواضعة منذ ذلك الحين. فإذا كان الرئيس جاداً في التعامل مع أزمة "سد النهضة الإثيوبي الكبير" كملف يستدعي التدخل الأمريكي، فعليه وضع استراتيجية دبلوماسية شاملة لحل الخلافات المعلقة، لا سيما بين القاهرة وأديس أبابا.
تباين الرؤى حول حقوق مياه النيل
عقب استقلال السودان مباشرة، أبرم اتفاقية لتقاسم المياه مع مصر عام 1959. لكن أديس أبابا رفضت هذا الترتيب منذ البداية، مؤكدة حقها السيادي في بناء "سد النهضة الإثيوبي الكبير"، خاصة أن النيل الأزرق يحصل على 85% من مياهه من الأراضي الإثيوبية، وهو الرافد الشرقي الرئيسي والمصدر الأكبر لمياه النهر.
تنظر مصر للسد كتهديد مباشر لأمنها القومي، إذ تعتمد على النيل في أكثر من 90% من احتياجاتها المائية، برغم أن الدراسات تؤكد هدر البلاد لنحو 20-25% من مواردها المائية بسبب سوء الإدارة. ومع النمو السكاني المتسارع وتأثيرات التغير المناخي، ستزداد أزمة المياه حدة في السنوات المقبلة. تخشى القاهرة من تراجع نصيبها بسبب التشغيل الإثيوبي المنفرد للسد وملء خزانه الهائل، مما يهدد القطاع الزراعي وإمدادات المياه العذبة والاستقرار الاجتماعي برمته. وتزداد هذه المخاوف حدة عند التفكير في السيناريوهات المحتملة خلال فترات الجفاف. لذا تطالب القاهرة بصياغة اتفاقية قانونية ملزمة تنظم عمليات ملء الخزان وتشغيل السد بما يحمي المصالح المصرية الحيوية.
في المقابل، رأى السودان السد في البداية فرصة مثالية لتنظيم تدفق المياه والحد من الفيضانات المدمرة. لكن مع مرور الوقت، ظهرت تحديات تقنية وأمنية تتعلق بسلامة السد وانعكاساته على البنية التحتية المائية السودانية. هذه المشاكل، إضافة لغياب التنسيق مع أديس أبابا، دفعت الخرطوم للاقتراب من الموقف المصري.
طوال سنوات البناء منذ 2020، وملء الخزان تدريجياً، وبدء تشغيل التوربينات الأولى في 2022، لم تبرز تأثيرات سلبية ملموسة على مصر أو السودان، ويُعزى ذلك جزئياً لانتظام الأمطار خلال تلك المرحلة. لكن مع تغير الظروف المناخية حتماً، قد تضطر أديس أبابا لتعديل إدارتها للسد بصورة تؤثر على تدفق مياه النيل.
من مفاوضات الأمس إلى تحديات اليوم
مرت جهود الوساطة في نزاع "سد النهضة الإثيوبي الكبير" بمحطات عديدة، بدءاً من إعلان المبادئ المشترك في 2015، مروراً بالمساعي الأمريكية عام 2019 بقيادة وزارة الخزانة والبنك الدولي، وصولاً للمبادرات المتجددة من الاتحاد الأفريقي. وحين انسحبت إثيوبيا من المفاوضات الأمريكية عام 2020، أكد مسؤولو الخزانة ضرورة عدم "إجراء الاختبارات النهائية أو ملء الخزان دون التوصل لاتفاق".
لبعض الوقت، تراجعت أولوية هذا الملف بسبب اندلاع الحرب الأهلية في السودان والاضطرابات الإقليمية الناجمة عن أزمة غزة. لكن مع التشغيل الكامل للسد، عادت القضية بقوة للمقدمة. جدد كبار المسؤولين المصريين تأكيدهم أن بناء السد يمثل "خطاً أحمر" وتهديداً وجودياً، بينما طرح وزير الخارجية "بدر عبدالعاطي" الموضوع أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن، دون الحصول على ضمانات أمريكية واضحة.
وعلى الجانب الإثيوبي، تعاظمت المشاعر الوطنية مع اكتمال المشروع، الذي كان الرئيس ترامب قد ادّعى في وقت سابق أنّ الولايات المتحدة هي من موّلت بناءه. وخلال حفل الافتتاح، أشاد رئيس الوزراء آبي أحمد بإنجاز بلاده، مؤكداً أن السد "ليس مطلقاً لإلحاق الأذى بالأشقاء"—وهو تصريح يظل مفتوحاً لتفسيرات متباينة، إما كإشارة إلى الاستعداد لحوار جديد أو كمحاولة لامتصاص الانتقادات الدولية.
التحرك الأمريكي المطلوب
تناول الرئيس "ترامب" أزمة "سد النهضة الإثيوبي الكبير" في عدة مناسبات هذا العام. ففي منتصف تموز/يوليو، صرح قائلاً: "لو كنت في مكان مصر، لحرصت على ضمان تدفق مياه النيل... نحن نعمل على حل هذه المسألة... وستُحل حتماً". كما وصف السد بأنه "يحجب المياه عن النيل"، ونعت النهر بـ"المصدر الحيوي للرزق والحياة"، معرباً عن ثقته في إيجاد حل "سريع جداً".
غير أن الواقع العملي يشير لعدم انخراط كبار مسؤولي الإدارة جدياً في حل النزاع. فالبيان الرسمي للقاء وزير الخارجية "ماركو روبيو" مع نظيره المصري في 30 تموز/يوليو تجاهل السد تماماً، مكتفياً بالحديث عن "الانتقال للحكم المدني" في السودان وتعزيز "السلام والأمن" الإقليميين. وكذلك بيان مكالمة "روبيو" الهاتفية مع رئيس الوزراء الإثيوبي في 22 تموز/يوليو أغفل "سد النهضة الإثيوبي الكبير"، مما اعتبره محللون إقليميون تجنباً أمريكياً للوساطة. وحتى اللقاء المطول بين الرئيس السوداني "عبدالفتاح البرهان" والمبعوث الأمريكي "مسعد بولص" في جنيف منتصف آب/أغسطس ركز على إنهاء الحرب الأهلية دون التطرق لأزمة السد.
كما أثبتت سياسة التهديدات ضد إثيوبيا عدم جدواها في معالجة المشكلة. فحين انسحبت أديس أبابا من المحادثات الأمريكية عام 2020، قطعت إدارة "ترامب" الأولى 300 مليون دولار من المساعدات، لكن البناء تواصل دون توقف. والمفارقة أن المساعدات الأمريكية لإثيوبيا ارتفعت لاحقاً لتتجاوز المليار دولار بكثير. وهذا العام، خصصت واشنطن 340 مليون دولار على الأقل كـمساعدات غذائية لشمال إثيوبيا رغم التقليصات الكبيرة في المساعدات الخارجية وإغلاق وكالة التنمية الدولية الأمريكية. أما تهديد مصر السابق بقصف السد، فلم يعد خياراً واقعياً نظراً للفيضانات الكارثية التي ستلحق بها، فضلاً عن التداعيات السياسية لمهاجمة دولة ذات سيادة.
مستقبلاً، يُعتبر اهتمام الرئيس "ترامب" المعلن بمعالجة النزاع تطوراً إيجابياً، خاصة في ضوء التأثيرات المحتملة لـ"سد النهضة الإثيوبي الكبير" على المصالح الأمريكية، وأبرزها نقص المياه الذي قد يفاقم الأزمات الاقتصادية المصرية ويهدد الاستقرار. وكما في المفاوضات السابقة، يتطلب حل المشكلة الخطوات التالية:
- إعداد نسخة محدثة من إعلان المبادئ لعام 2015، تتضمن اتفاقات حول الاستخدام المنصف وإدارة تصريف المياه.
- وضع آليات شفافة لتبادل البيانات حول استعمال المياه.
- تقديم ضمانات تقنية بشأن عمليات ملء الخزان والتصريف.
بدون هذه الخطوات، سيظل السد مصدراً للتوتر المستمر.
قد يستلزم حل نزاع "سد النهضة الإثيوبي الكبير" أيضاً معالجة مزيج معقد من القضايا الدبلوماسية والأمنية الأخرى. فكونها دولة حبيسة، تعتبر إثيوبيا الوصول للموانئ مسألة وجودية، لكنها عجزت عن تحقيق ذلك عبر المفاوضات الثنائية مع إريتريا أو الصومال أو صوماليلاند؛ بل إن مقديشو رفضت وأحبطت أي اتفاقات إثيوبية مع صوماليلاند. لكن في كانون الثاني/يناير، استأنف المسؤولون الصوماليون علاقاتهم مع أديس أبابا بوساطة تركية، مما قد يفتح المجال أمام اتفاق حول الموانئ. في الوقت نفسه، تستعد مصر لنشر 10 آلاف جندي في الصومال لدعم مهمة الاتحاد الأفريقي هناك ومكافحة جماعة "الشباب" الإرهابية المصنفة أمريكياً. ويعتبر البعض في إثيوبيا هذا النشر تهديداً، كما أن الوجود العسكري المصري قد يعيق المزيد من التقارب بين أديس أبابا ومقديشو.
تستطيع إدارة "ترامب" المساعدة في حل هذه التعقيدات من خلال ضمان الوصول الإثيوبي للموانئ عبر الصومال مقابل حل تفاوضي لإمدادات مياه النيل لمصر والسودان. كما يمكن منح الصومال وإثيوبيا تمويلاً تنموياً لتطوير شبكات توزيع الكهرباء، سواء عبر ضمانات القروض الأمريكية المباشرة أو تشجيع البنك الدولي ومجموعة بنك التنمية الأفريقي على إطلاق برنامج لهذا الغرض. (والجدير بالذكر أن الأخيرة استثمرت بالفعل في عدة مشاريع لتحديث الكهرباء في البلدين.) وفي جميع الحالات، ينبغي لواشنطن التعاون الوثيق مع مفوضية الاتحاد الأفريقي، التي دعا رئيسها الحالي "محمود علي يوسف" مصر وإثيوبيا والسودان للعودة إلى المفاوضات في خطابه بحفل افتتاح السد. وبدون التدخل الدبلوماسي الأمريكي، يبقى النزاع مرشحاً للتصعيد.