
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4069
لحل الصراع في السودان، يجب دمج مسارَي جدة والرباعية

أفضل وسيلة لتعزيز مبادرة الرباعية التي أعادت إدارة ترامب تفعيلها، تتمثل في توحيدها مع منبر جدة، المنصة السعودية–الأمريكية التي تحظى بثقة وقبول الأطراف المتحاربة.
في 3 حزيران/يونيو، اجتمع ممثلون عن مصر والسعودية و الإمارات العربية المتحدة مع نائب وزير الخارجية الأميركي "كريستوفر لاندو" والمستشار الأول لشؤون أفريقيا مسعد بولس، في خطوة تُعد بمثابة انطلاقة جديدة لإدارة ترامب نحوإنهاء الصراع في السودان. وقد أضفت محادثات "الرباعية من أجل السودان" زخماً دبلوماسياً ملحوظاً، تُرجم لاحقاً بزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أبوظبي للقاء الرئيس الإماراتي محمد بن زايد ومواصلة النقاشات. ومع بروز هذا التوافق بين أطراف الرباعية بشأن ضرورة معالجة الأزمة، تبرز الحاجة الآن إلى دمج العناصر الفعّالة من منصة جدة - المبادرة السعودية – الأميركية المدعومة من الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية للتنمية (إيغاد) - ضمن هذا الجهد الجديد لتحقيق تقدم حقيقي.
الاهتمامات الاستراتيجية المشتركة
اندلعت الحرب الأهلية الحالية في السودان في 15 نيسان/أبريل 2023، نتيجة تصاعد التوتر بين القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق "عبد الفتاح البرهان"، وقوات الدعم السريع بقيادة "محمد حمدان دقلو" "حميدتي". جاء هذا التصعيد بعد مفاوضات حول الاتفاق الإطاري لعام 2022، والذي انهار وكان من المفترض أن يمهّد الطريق لانتقال ديمقراطي في البلاد. سرعان ما امتدت الاشتباكات المسلحة من العاصمة الخرطوم إلى دارفور ومناطق أخرى، لتتسبب في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم، حيث تجاوز عدد القتلى 150، 000، فيما اقتُلع نحو13 مليون شخصمن منازلهم. وقد ارتكبتالقوات المتحاربة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، شملت الهجمات العشوائية، والعنف الجنسي، وأعمالاً ترقى إلى الإبادة الجماعية.
ومع دخول الصراع عامه الثالث، لا تزال القوات المسلحة السودانية تفرضسيطرتها في الخرطوم، بينما تحتفظ قوات الدعم السريع بقبضتها على غرب البلاد، وسط محاولاتلبناء سلطة موازية في الشرق. ويزيد التدخل الخارجي من تعقيد المشهد؛ إذ تفيد تقارير بوجود دعمإماراتي لقوات الدعم السريع، مقابل دعم مصري للعسكر وبعض عناصرالنظام السابق برئاسة "عمر البشير" – مع أن كل من القاهرة وأبوظبي تنكران هذه المزاعم.
جميع أطراف "الرباعية" – مصر، والسعودية، والإمارات، والولايات المتحدة – لديها مصلحة استراتيجية في كبح هذا التدهور، نظراً لما يخلّفه من تهديدات متصاعدة على الأمن الإقليمي. فالحرب السودانية أسفرت عن موجات نزوح ضخمة، وانتشار غير مشروع للأسلحة، وتنامي النشاطات الإرهابية، فضلاً عن احتمالات انتقال العنف إلى مناطق مثل الساحل والبحيرات العظمى. كما أدى الصراع إلى عودة رموز من نظام "البشير" وجماعة الإخوان المسلمين إلى الواجهة، إذ لا يزال لهم نفوذ في البنية العسكرية، ويعملون على الترويج لأفكارهم الأيديولوجية عبر الإنترنت.
وتتقاطع مخاوف واشنطن مع شركائها من الرباعية حيال استغلال قوى خارجية معادية – وفي مقدمتها روسيا وإيران – للفراغ المتزايد في السودان لتعزيز حضورها الأمني والاقتصادي. فمع تآكل مؤسسات الدولة، تزداد فرص هذه القوى لفرض نفوذها، سواء عبر وكلاء محليين أومن خلال ترتيبات عسكرية ومالية مباشرة في البحر الأحمر والمناطق المجاورة.
ففي آذار/مارس 2024، وقّعت موسكواتفاقية مع القوات المسلحة السودانية لإنشاء قاعدة بحرية في البحر الأحمر. لكنها دعمت في الوقت نفسه قوات الدعم السريع، مما مكّن موسكومن الاستفادة بغض النظر عن نتيجة الصراع.
وبالمثل، كثّفت إيران مشاركتها بعد تشرين الأول/أكتوبر 2023، مستأنفة العلاقات مع الخرطوم وموفرة طائرات "مهاجر – 6" المتقدمة بدون طيار عبر رحلات شركة قشم فارس للطيران، وهي شركة نقل مرتبطة بالحرس الثوري الإسلامي. كما أرسلت طهران طائرات "أبابيل" بدون طيار، والتي عدّلتهاالقوات المسلحة السودانية وأعادت تسميتها "زاغل – 3". وحدثت هذه التحويلات مراراً في مطار بورتسودان الدولي بين كانون الأول/ديسمبر 2023 وكانون الثاني/يناير 2024.
كان دافع مشاركة إيران في السودان إلى حد كبير تراجع نفوذها الإقليمي وسط ضغوط اقتصادية داخلية وانخفاض قدرات الوكلاء عبر الشرق الأوسط. هذه وغيرها من النكسات دفعت إلى بحث عن موطئ قدم جديد في شرق أفريقيا لتعويض الخسائر الاستراتيجية لطهران في أماكن أخرى.
القادة العرب – ناهيك عن الولايات المتحدة وإسرائيل – لديهم مصلحة قوية في منع السودان من أن يصبح نقطة محورية لمحور إيران – روسيا. الهدف الأسمى للقاهرة والرياض وأبوظبي هومنع بقايا عهد "البشير" والقوى الإسلامية الأخرى من العودة إلى السلطة – جزئياً بسبب القلق من الصعود المحتمل للحركات الإسلامية في بلدانهم، ولكن أيضاً لأن هذه العناصر حافظتعلى علاقات وثيقة مع إيران وسمحت باستخدام السودان كأرض تدريب لعناصر حزب الله وحماس والقاعدة. هذا الالتزام العربي المشترك يتجاوز خلافاتهم الثنائية والأولويات الإقليمية المتنافسة في كثير من الأحيان، مما يخلق أساساً دبلوماسياً نادراً للعمل المنسق. وللبناء على هذا الأساس، ينبغي لواشنطن أن تأخذ زمام المبادرة في دمج آليتَي جدة والرباعية، وتحويل الجهود الدبلوماسية المجزأة إلى نهج أكثر توحيداً وفعالية.
ترتيب المسارات الدبلوماسية الموجودة
أُطلقت منصة جدة للمرة الأولى في أيار/مايو2023، وجمعت الأطراف على الطاولة لمفاوضات غير مباشرة تركز على القضايا الإنسانية. افتقرت المنصة لآليات تنفيذ ملزمة، وكانت نتائجها محدودة (بالدرجة الأولى التزامات بوقف إطلاق النار الإنساني) لكنها تحتفظ بالشرعية بين الفاعلين السودانيين الرئيسيين، خاصة القوات المسلحة السودانية.
في أواخر 2024، أطلق المبعوث الأمريكي الخاص "توم بيرييلو" إطاراً دبلوماسياً آخر مقره في جنيف. لكن المحادثات التي نتجت عن ذلك استبعدت فاعلين سودانيين رئيسيين وقد قاطعتهاالقوات المسلحة السودانية، التي اعترضت على مشاركة دولة الإمارات العربية المتحدة. وبينما هدفت عملية جنيف إلى إشراك أصحاب المصلحة الإقليميين وتوسيع المشاركة الدولية، فشلت في جلب الأطراف المتحاربة الرئيسية إلى الطاولة.
في المقابل، لم يُبدِ أي من الطرفين المتحاربين اعتراضاً على منصة جدة، التي تتمتع بقرب جغرافي وسياسي منهما، مما منحها درجة من القبول يصعب تجاهلها. في الوقت نفسه، يتميز مسار الرباعية الجديد بثقل دبلوماسي وقدرة أكبر على فرض الالتزامات. لذا، فإن دمج المسارين من شأنه أن يخلق آلية مشتركة تجمع بين الشرعية الميدانية والضغط الدولي – وهي المعادلة المطلوبة لإحداث تقدم فعلي في مسار التسوية.
التوصيات السياسية
لتحقيق هذا الدمج وتعزيز وحدة الموقف الإقليمي وزيادة فعاليته، ينبغي أن تقود واشنطن حزمة من الإجراءات العملية، على النحوالتالي:
- إعلان سياسي مشترك: على دول الرباعية، إلى جانب الاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، والشركاء الدوليين المعنيين، إصدار إعلان رسمي يؤكد اعتماد منصة جدة كالإطار الرئيسي والوحيد لتسوية الصراع في السودان، مع ضمان مشاركة فاعلة لدول الرباعية.
- إنشاء هيكل إداري موحد: ينبغي تأسيس أمانة تنفيذية مشتركة في جدة، تضم ممثلين عن الرباعية، والأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، إضافة إلى شخصيات سودانية من المجتمع المدني
- سلطة ملزمة قانونياً: يجب تحويل مخرجات جدة إلى اتفاق سياسي ملزم عبر قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، يمنح المنصة شرعية دولية ويعزز قدرتها على تنفيذ مخرجاتها. ولتحقيق ذلك، لا بد من التنسيق المباشر مع مبعوث الأمم المتحدة، رمطان لعمامرة، لضمان مشاركة الأطراف الإقليمية وتخطيط جماعي ضمن إطار دولي أوسع.
- دمج المجتمع المدني: لمنع القوات العسكرية المحلية أوالقوى الأجنبية من الهيمنة على العملية السياسية، ينبغي إشراك المجتمع المدني السوداني بتمثيل واسع، يشمل منظمات غير حكومية، وممثلي القبائل والأقليات، والفصائل السياسية. ويتماشى هذا مع الرؤية الأميركية التقليدية الداعية إلى حكم مدني ديمقراطي كشرط أساسي لتقديم المساعدات والدعم.
من الجدير بالذكر أن هذه التوصيات تأتي في لحظة إقليمية استثنائية وفريدة. فتراجع نفوذ إيران فتح نافذة استراتيجية نادرة تتيح اتخاذ خطوات حاسمة تجاه الملف السوداني – لكن هذه النافذة لن تبقى مفتوحة إلى الأبد.
فإلى جانب الضرورة الإنسانية المتمثلة في الاستجابة للتدهور الداخلي المأساوي في السودان، فإن البلاد تبدومرشحة لأن تصبح لاعباً محورياً في عملية إعادة تشكيل سياسي وجيوسياسي ناشئة في المنطقة. وهنا يجب التذكير بأن الخرطوم، قبل اندلاع الحرب الأهلية، كانت تسير بخطى ثابتة نحوتطبيع العلاقات مع إسرائيل ضمن إطار "اتفاقيات إبراهيم"، وكان هذا المسار يسير بالتوازي مع تقدم سياسي نحوسودان مستقر وديمقراطي.
تحقيق هذا المسار سيوفّر مجموعة واسعة من المكاسب الاستراتيجية للمنطقة والغرب على حد سواء، من أبرزها: إضعاف نفوذ إيران بشكل إضافي؛ المساعدة في مواجهة التحديات الأمنية المعقدة المرتبطة بتأمين ممرات الشحن في البحر الأحمر؛ دعم وتعزيز الاندماج المتنامي لإسرائيل مع الدول العربية؛ المساهمة في تطوير الهيكل الأمني الإقليمي؛ وأخيراً، تعزيز محور الدول الموالية للغرب والموجهة نحوالاستقرار، الممتد من شبه الجزيرة العربية حتى القرن الأفريقي.
أما إذا فشلت واشنطن وشركاؤها في التعامل مع أزمة السودان، فإنهم يغامرون بتوسيع فراغ في ميزان القوى الإقليمي، يمكن لإيران أوأطراف معادية أخرى أن تملأه بسهولة. وباختصار، فإن استقرار السودان لا يُعد مجرد أولوية إنسانية أودبلوماسية، بل هوضرورة استراتيجية.
"أريج الحاج" هي محررة المحتوى العربي في معهد واشنطن ومنتجة سابقة للبرنامج التلفزيوني الحائز على جائزة بين النيلين*، الذي يركز على المشهد السياسي السوداني وحقوق الإنسان والدبلوماسية الإقليمية. *