
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4108
الشرع يتوجه إلى الأمم المتحدة

عقب لقائه بالشرع وعودته من جولة بحثية في سوريا، يستعرض خبير من معهد واشنطن خطاب الرئيس في الأمم المتحدة وخططه القريبة ورؤيته لدور الولايات المتحدة.
يُعد خطاب الرئيس أحمد الشرع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الأسبوع تتويجاً لعودة بلاده الرسمية إلى المجتمع الدولي. وباعتباره أول رئيس سوري يلقي خطاباً أمام الجمعية العامة منذ عام 1967، يرى الشرع ومؤيدوه في هذه المناسبة فرصة لإعادة تعريف العالم بـ"سوريا الجديدة". وبالنسبة إليهم، تُعد سوريا المتغيرة نجماً صاعداً يحمل إمكانات كبيرة بعد سنوات الحرب الأهلية. ومع ذلك، تبقى التحديات التي أعقبت الحرب جسيمة، ولا يُبدي جميع السوريين رضاهم عن المسار الحالي للبلاد، وهو ما يدركه الشرع وحكومته ويناقشونه بصراحة.
أما بالنسبة لواشنطن، فقد أصبح فهم هذه الفروق الدقيقة أكثر أهمية، خاصة وأن الحكومة الانتقالية تبنت موقفاً جيوسياسياً معادياً لإيران وأكثر انسجاماً مع الولايات المتحدة ونظام تحالفاتها. ويفضل كثيرون النظر إلى الوضع في سوريا من منظور ثنائي بسيط (أبيض أو أسود)، لكن الواقع أكثر تعقيداً بكثير. واستناداً إلى لقاء الكاتب المباشر مع الرئيس الشرع الأسبوع الماضي، وإلى رحلة بحثية واسعة النطاق داخل سوريا، يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على الاتجاه الذي تسلكه البلاد بعد نحو عشرة أشهر على سقوط النظام، بدءًا بمحتوى خطاب الشرع التاريخي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وتداعياته على السياسة الأميركية.
خطاب الشرع
استناداً إلى الحوار مع الرئيس أحمد الشرع، ومستشاريه، وعدد من المسؤولين في الحكومة السورية، من المتوقع أن يتسم معظم خطابه بطابعٍ تطلعي يركز على الفرص الجديدة مع العالم بدلاً من الانشغال بالماضي ـ وهو ما يراه فريقه اختلافاً جوهرياً عن نهج نظام الأسد. وتشمل أبرز الموضوعات المطروحة ما يلي:
الاستثمار وإعادة الإعمار. سيكون الموضوعان الرئيسيان للشرع هما الانتعاش الاقتصادي بعد الحرب وإعادة بناء البلاد. ولهذا السبب، التقى هو وفريقه بشخصيات تجارية في قمة المستثمرين "كونكورديا" و"غرفة التجارة الأمريكية" منذ وصولهم إلى نيويورك. ويهدفون بشكل خاص إلى جذب المزيد من الاستثمارات للتخفيف من المعاناة الإنسانية في وطنهم. ومع ذلك، يشعر العديد من السوريين بالقلق من أن فتح البلاد أمام استثمارات أجنبية واسعة النطاق من دون إنشاء آليات حماية محلية قد يؤدي إلى تدمير الشركات الوطنية، إذا لم تتمكن من منافسة الواردات الأقل تكلفة، مما يفاقم معاناة الطبقة الوسطى المتعثرة أصلاً.
كما يأمل الشرع أن يُظهر تركيزه الاقتصادي للعالم أن سوريا ليست مجرّد مسرحٍ للعنف الطائفي الذي تصدّر عناوين الصحف خلال الأشهر الماضية. ومن وجهة نظره، فإن الاكتفاء بالتركيز على تلك المشكلات يغفل الصورة الأوسع لما حققته حكومته حتى الآن، بما في ذلك: إبرام صفقات بمليارات الدولارات مع شركات ووكالات حكومية في الخليج العربي وتركيا والغرب؛ طرد عناصر حزب الله والنظام الإيراني من سوريا؛ مكافحة مهربي الكبتاغون وإرهابيي "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش)؛ وبدء عملية إعادة بناء المدارس والمرافق الصحية والمصانع.
قضايا العدالة الانتقالية. بصرف النظر عن هذه الإنجازات، إذا حاول الشرع التخفيف علناً من حجم الفظائع التي وقعت في المنطقة الساحلية ومحافظة السويداء هذا العام، فإنه يخاطر بتكريس الفجوة بينه وبين السوريين الذين ما زالوا متشككين في حكمه داخل بلد منهك اقتصادياً. وينطبق الأمر ذاته إذا استمر في رفض حتى المقترحات المعقولة لحوكمة أكثر لامركزية، باعتبارها مجرد نزعات "انفصالية" خطيرة - رغم أن بعض الأطراف في شمال شرق سوريا والسويداء تسعى بالفعل إلى الانفصال.
سيكون حل هذه القضايا المعقدة أمراً حاسماً للمضي قدماً. وللمساعدة في هذه المهمة، يُرجح أن يشير خطاب الشرع إلى ما حققته دمشق من تقدم في مجال العدالة الانتقالية، بما في ذلك عمل اللجنة التي حققت في أحداث العنف على الساحل، وتقرير لجنة تقصي الحقائق الجديدة الذي سيصدر قريباً بشأن أحداث السويداء، بالإضافة إلى تشكيل هيئة وطنية للعدالة الانتقالية ولجنة وطنية للمفقودين.
ومع ذلك، فإن كثيراً من السوريين خارج أطر الحكومة لا يدركون أن مثل هذا التقدم يُحرز خلف الكواليس، مما يخلق انطباعاً بأن فريق الشرع يفتقر إلى خطة جادة وطويلة الأمد للمساءلة بعد الحرب. ويبدو أن هذا الغموض مقصود؛ فبحسب مسؤولين سوريين، تجنبت الحكومة إطلاع الرأي العام على تفاصيل العملية قبل اكتمالها، خشية أن يؤدي ذلك إلى تقويض التحقيقات. لكن النتيجة غير المقصودة لهذا النهج هي إبعاد الجمهور وزيادة منسوب العنف، حيث يلجأ بعض السوريين إلى تحقيق العدالة بأنفسهم من خلال قتل مسؤولين سابقين في النظام.
الأسلحة ودمج الميليشيات. من المرجح أن يتناول الشرع قضية احتكار الدولة للسلاح ومدى اهميتها، بما يعني تكرار موقفه القاضي بضرورة دمج "قوات سوريا الديمقراطية (SDF) “بقيادة الأكراد، وقوات "الحرس الوطني" الدرزية المدعومة من رجل الدين حكمت الحجري، في الجيش السوري الجديد. غير أن الحوادث الأخيرة على الساحل وفي السويداء جعلت هذه الجهود أكثر تعقيداً.
الموقف تجاه إسرائيل. سيشير الشرع بلا شك إلى استمرار الغارات الجوية الإسرائيلية والتوغلات عبر الحدود، مؤكداً أن هذه الأعمال غير مُبررة، وأن حكومته دعت مراراً إلى التمسك باتفاقية فض الاشتباك لعام 1974. كما سيشدد على أن دمشق لا تريد سوى أن تُترك وشأنها لتتمكن من إعادة بناء البلاد. وفي أعقاب رد الفعل الدولي الواسع تجاه الغارة الجوية الإسرائيلية على قطر، سيكون هناك الكثير من التعاطف داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة مع ملاحظات الشرع حول هذا الموضوع.
الآثار المترتبة على سياسة الولايات المتحدة
مع الاعتراف بأولويات الشرع السياسية المفهومة، وسعيه إلى تعزيز العلاقات الثنائية الناشئة، ينبغي على واشنطن أن تستغل فرصة خطابه وزيارته لتكرار تأكيد المصالح الأمريكية الرئيسية. ويشمل ذلك تذكير دمشق بأن الضغط الأمريكي - سواء كان حقيقياً أو متصوراً - غالباً ما يرتبط بالمخاوف بشأن رفاهية الشعب السوري، وبنجاح بلاده الاقتصادي والسياسي في المستقبل. والجدير بالذكر أن وزير الخارجية ماركو روبيو والسيناتور جين شاهين (ديمقراطي عن ولاية نيوهامشاير) التقيا أمس بالفريق الدبلوماسي السوري، بينما اجتمع الرئيس ترامب مع الشرع في وقت سابق اليوم، ومن المحتمل أن تُعقد اجتماعات ثنائية إضافية في وقت لاحق من هذا الأسبوع.
في الأشهر التي سبقت انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، تركزت سياسة إدارة ترامب تجاه سوريا في الغالب على رفع العقوبات، والتعاون في القضايا الأمنية (مثل الحرب المستمرة ضد "تنظيم الدولة الإسلامية"، والبحث عن الأمريكيين المفقودين (رغم غياب أي مستجدات بشأن الصحفي المفقود أوستن تايس على الرغم من استمرار التحقيقات التي تجريها الحكومة السورية)، إضافةً إلى تسهيل الاندماج مع "قوات سوريا الديمقراطية"، ومحاولة تحديث اتفاقية الحدود مع إسرائيل لعام 1974. ومع ذلك، لا تزال القضيتان الأخيرتان تنطويان على مخاطر كبيرة، في حين لم تُعالج القضية الانتقالية الثالثة بالقدر الكافي:
1- الانتقال إلى الخطوات التالية مع "قوات سوريا الديمقراطية". مع اقتراب الموعد النهائي لدمج "قوات سوريا الديمقراطية" مع الجيش الوطني بحلول نهاية العام، لا توجد مؤشرات واضحة على إمكانية تحقيق هذا الهدف، ويخشى كثيرون أن يتخلى الطرفان عن المحادثات الجوهرية ويسعيا إلى تعزيز مواقعهما استعداداً لمواجهة صراع محتمل في المستقبل. ومن ثم، ينبغي على الولايات المتحدة التصرف بحكمة للحيلولة دون اندلاع هذا الصراع، ليس فقط لأنه قد يعرقل عملية الانتقال في سوريا، بل أيضاً لأنه قد يفضي إلى حرب بالوكالة بين تركيا وإسرائيل وبعبارة أخرى، تحتاج واشنطن إلى دفع دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية" إلى تقديم تنازلات متبادلة، بحيث يكون كل طرف أكثر ارتياحاً للاتفاق، حتى وإن لم يكن راضياً عنه تماماً. ويجب أن يتمثل الهدف الرئيسي في اللامركزية الإدارية لا اللامركزية السياسية. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي للسلطات الأمريكية أن تسعى إلى إنشاء غرفة عمليات مشتركة بين دمشق و"قوات سوريا الديمقراطية" لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، من أجل تحسين الأداء العملياتي وبناء علاقات أكثر إيجابية. كما يجب التفكير في إبرام اتفاق مؤقت ومُحدث لنقل النفط من المناطق الغنية بالهيدروكربونات التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية"، إذ يمكن أن يساهم ذلك في تخفيف التوترات الناجمة عن التجارة غير الرسمية القائمة حالياً.
2. تخفيف التوتر مع إسرائيل. ناقش بعض المسؤولين إبرام اتفاق معدل "1974+" بين دمشق واسرائيل، لكن على جميع الأطراف أن تدرك التعقيدات التي ينطوي عليها التوصل إلى مثل هذا الاتفاق. ورغم أن الشرع أبدى استعداده للعمل على هذه المسألة في أي وقت، إلا أنه يخشى ألا تلتزم إسرائيل بالاتفاق حتى لو تم توقيعه. وبالتالي، يجب على إدارة ترامب أن تدرك أنها ستحتاج إلى التدخل وتكون الضامن لأي اتفاق من هذا القبيل. على سبيل المثال، يمكنها نقل بعض الأصول العسكرية الأمريكية المحدودة الموجودة بالفعل في سوريا إلى محافظة درعا الحدودية، مما قد يحقق فائدة مزدوجة تتمثل في تهدئة مخاوف إسرائيل بشأن تلك الحدود ووضع حد لعمليات الاغتيال المحلية التي يقوم بها "تنظيم الدولة الإسلامية" والتي ازدادت في الأشهر الأخيرة. ومن الناحية القانونية، يمكن تصنيف مثل هذه الخطوة باعتبارها جزءاً من مهمة التحالف العالمي ضد تنظيم "داعش"، مما يسلط الضوء على سبيل آخر لتطور جهود مكافحة الإرهاب الأمريكية بعد أن أقامت واشنطن علاقات عمل مع الحكومة السورية. ومن الناحية المثالية، يمكن التوصل هذا الأسبوع إلى نوع من الاتفاق بين إسرائيل وسوريا، بما قد يسهم في تحسين الأوضاع المحلية والإقليمية في فترة تتسم بالتوتر.
3. معالجة مشاكل الإسكان والأراضي والممتلكات (HLP). ينبغي على واشنطن أن تبذل مزيداً من الجهود لمساعدة الحكومة الجديدة في حل هذه القضايا، التي ازدادت حدة مع تزايد أعداد اللاجئين السوريين العائدين إلى بلادهم. فعلى سبيل المثال، صادر نظام الأسد عدداً لا يُحصى من الممتلكات خلال الحرب الأهلية وحتى قبلها، كما استولت ميليشيات مدعومة من تركيا (الجيش الوطني السوري) على ممتلكات في المناطق الكردية. ومن دون وجود آلية تسمح للأفراد باستعادة منازلهم أو أعمالهم، يلجأ البعض إلى الابتزاز، بينما يقوم آخرون بتهجير السكان الذين أقاموا في تلك الممتلكات لعقود طويلة (في بعض الحالات أربعة أو خمسة عقود). ولمعالجة ذلك، يتعين على واشنطن الاستعانة بالمنظمات الدولية ذات الصلة لمساعدة دمشق في تبسيط إجراءات حفظ السجلات الخاصة بقضايا الملكية، وإنشاء سجل مدني مُحدث. ولن يسهم هذا الجهد في تحسين أوضاع الإسكان والأراضي والممتلكات فحسب، بل سيتيح أيضاً بيانات أكثر موثوقية لدعم التخطيط للانتخابات الوطنية بحلول نهاية المرحلة الانتقالية - وهو هدف أعلن الشرع رغبته في تحقيقه.
وعلى الرغم من أن سوريا ما تزال تواجه العديد من التحديات الأخرى، فإن إحراز تقدم ملموس في هذه القضايا الثلاث قد يساعد في تهيئة البلاد للنجاح مع اقتراب الذكرى السنوية لإطاحة بشار الأسد. ومن اللافت أن الشرع يرى أن التحديات التي يواجهها اليوم أسهل من تلك التي واجهها عندما كان يدير منطقة المتمردين في إدلب خلال الحرب، وربما يعود ذلك إلى اعتباره سقوط النظام معجزة بحد ذاتها. ومهما كان السبب، ينبغي على واشنطن أن تنظر إلى هذا الحماس باعتباره فرصة نادرة لدعم - بل والمساهمة في تشكيل - سوريا الجديدة، بما يضمن نجاحها بعد عقود من التهميش تحت حكم آل الأسد.