- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4148
الاحتجاجات المتصاعدة في تونس تفتح المجال أمام مبادرات أمريكية منخفضة التكلفة
في ظل تصاعد الضغوط الداخلية على الرئيس قيس سعيد، ينبغي على إدارة ترامب اتخاذ خطوات متواضعة لكنها مفيدة واستشرافية للمستقبل، مثل رفع الرسوم الجمركية، ودعم المشاريع التجارية الأقل تسيساً، فضلاً عن مساندة رؤية الشعب لمستقبل أكثر ازدهاراً.
تشهد تونس ارتفاعاً تدريجيا لكنه ملحوظاً في حركات الاحتجاج، سواء أكانت ناجمة عن مشاكل اقتصادية، أو قضايا سياسية، أو مظالم محلية، أو مخاوف أخرى. وفي بيئة تشهد تدهوراً في الحريات المدنية والمؤسسات، تسترعي مثل هذه الأحداث الانتباه. ونظرا لازدراء الرئيس قيس سعيد الواضح لشراكات تونس القوية التقليدية مع الغرب، فإن تزايد السخط العام قد يوفر فرصاً لاستعادة مسار أكثر إشراقاً.
عام من الاضطرابات
من المظاهرات والإضرابات إلى أشكال التعبئة عبر الإنترنت، سُجل نحو خمسة آلاف احتجاج منذ بداية هذا العام، وفقاً لـ "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، وهو ما يعكس ارتفاعاً بنسبة 84 في المئة مقارنة بالعام الماضي. وقد شهد النصف الثاني من عام 2025 حركات احتجاجية لافتة بشكل خاص.
في أواخر آب/أغسطس، وضمن مواجهة أوسع مع الرئيس، حشد "الاتحاد العام التونسي للشغل (UGTT) " آلاف المؤيدين احتجاجاً على الإجراءات الاقتصادية والسياسية للحكومة. وقد فقدت النقابة مصداقيتها في السنوات الأخيرة جراء فشلها في نقد سعيد باستمرار، إضافة إلى التباعد المتزايد بين قيادتها وقاعدتها. ومع ذلك، أشارت مظاهرات آب/أغسطس إلى أن الرئيس يشعر بتهديد "الاتحاد العام التونسي للشغل"، الذي لا يزال أكبر منظمة شعبية في البلاد.
في منتصف تشرين الأول/أكتوبر، أطلق مواطنون من مدينة قابس الساحلية احتجاجات إثر نقل العشرات إلى المستشفى بسبب التلوث الجوي الشديد الناتج عن مصنع كيماويات محلي. وبعد أن قوبلت المظاهرات الأولية بقمع عنيف من الأجهزة الأمنية، تحولت إلى حركة أوسع نطاقاً تطالب بإغلاق مجمع الفوسفات. وبحلول نهاية الشهر، نظم العمال إضراباً عاماً نجح مؤقتاً في شل حركة معظم محافظة قابس.
وتدير المصنع شركة "المجمع الكيميائي التونسي" (GCT)، وهي شركة حكومية تعالج الفوسفات من المنطقة الوسطى وتحوله إلى أسمدة للتصدير والاستخدام الزراعي المحلي. وقد أدت التداعيات البيئية والصحية الناجمة عن المنشأة إلى حدوث مواجهات في الماضي، وفي عام 2017، وعدت الحكومة بنقل المصنع. لكنها لم تفي بهذا الوعد بعد مرور ثماني سنوات.
وقد لفت الحراك في مدينة قابس الانتباه على وجه الخصوص لسببين. أولاً، يرى المراقبون أن التعبئة المدفوعة بدوافع بيئية أمر جديد نسبياً في تونس وقد تتزايد. ثانياً، تقع قابس على تخوم منطقة تعدين تاريخية مضطربة تضم "شركة القفصة للفوسفات"، وهي شركة كيميائية أخرى حكومية. وطالما ترددت الحكومة في إصلاح هاتين الشركتين، جزئياً بسبب دورهما المركزي كرافعة للاقتصاد ومصدر رئيسي للوظائف، وكذلك بفعل المصالح الخاصة للنخبة التي قد تتضرر من مثل هذه التغييرات.
ورداً على حركة تشرين الأول/أكتوبر، تواصل سعيد مع الحكومة الصينية بشأن إمكانية مساعدة تونس على إعادة تأهيل مصنع قابس. وفي الوقت ذاته، وكما كان متوقعا، حمل المتآمرين والفساد المحلي مسؤولية المشاكل التي أثارت الاحتجاجات. ومن الجدير بالذكر أنه، على عكس رد فعله تجاه المظالم في محافظات أخرى، لم يزر سعيد قابس، رغم أن ظهور نائب وزير الداخلية سفيان بسادوك بدا أنه خفف التوتر إلى حد ما. وحتى الآن، اقتصرت الاحتجاجات على قابس وبعض التحركات التضامنية في تونس العاصمة، إلا أن الحكومة تبدو قلقة من احتمال انتشارها.
وفي تلك الأثناء، ظهرت مؤخراً سلسلة من التحركات السياسية في العاصمة التونسية عقب اعتقالات وأحكام قضائية تتعلق بقضية ما يسمى "التآمر ضد الدولة". وأدين أربعين سياسياً وشخصية معارضة بارزة بتهمة تهديد أمن الدولة، وحُكم على العديد منهم بالسجنلفترات طويلة، تجاوزت في بعض الحالات ستين عاما. كما وجهت الحكومة إلى المتهمين تهم انتهاك قانون العقوبات التونسي وقانون مكافحة الإرهاب، غير أن منظمات حقوق الإنسان ترى أن القضية تحمل دوافع سياسية. وبناءً على ذلك، تعرضت طريقة الحكومة في معالجة الملاحقات القضائية لانتقادات إجرائية متعددة. ورداً على هذا الجدل، شهدت تونس مظاهرات متتالية كل يوم سبت منذ منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، ما يثير احتمال حدوث حركة أكثر استدامة موجهة ضد القطاع القضائي.
وفي مكان آخر، اشتبك المتظاهرون وقوات الأمن في مدينة القيروان الوسطى نهاية الأسبوع الماضي بعد أن قتلت الشرطة على ما يبدو رجلاً. وعلى نطاق أوسع، أفاد "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" أن عدد الاحتجاجات "السياسية/المدنية" خلال الشهر الماضي تجاوز عدد الاحتجاجات الاقتصادية/الاجتماعية.
سواء كانت المطالب الديمقراطية في ازدياد أم لا، لا يزال معظم التونسيين قلقين بشأن الاقتصاد، كما يتضح من موجة الإضرابات الأخيرة التي قام بها الأطباء والمصرفيون وعمال النقل وغيرهم من الموظفين. وفى هذا الأسبوع، أعلن "الاتحاد العام التونسي للشغل" عن إضراب عام على مستوى البلاد مقرر الشهر المقبل، بالتزامن مع ذكرى ثورة 2011، وهو تاريخ شهد مظاهرات كبيرة في الماضي. وتحدث كل هذه التطورات على خلفية قيود متزايدة على المجتمع المدني.
وضع غير مستدام على المدى الطويل؟
رغم أن مظاهر السخط التونسية تبدو متزايدة، يتعين عدم المبالغة في تقدير احتمال حدوث انهيار سياسي أو اقتصادي في المدى القريب. فمن ناحية، باتت حركات الاحتجاج الواسعة النطاق بما في ذلك حركات نشطاء "جيل زد" بمثابة ظاهرة عالمية، مع تحقيق نتائج متفاوتة. في تونس، كانت المظاهرات شائعة منذ الربيع العربي في عام 2011، وبات الشعور الحالي بالإحباط الشامل موجوداً منذ عام 2022 على الأقل، عندما نفذ سعيد العديد من عمليات الاستيلاء على السلطة. واليوم، هناك قلة فقط ممن يظنون أن الإطاحة بسعيد وشيكة.
بدلاً من ذلك، يفضل العديد من التونسيين الهجرة بدل الانخراط في الحراك. ومن بين الذين يغادرون بأعداد كبيرة العمال المهرة، ما يثير مخاوف بشأن نزيف الكفاءات. ولا تفعل الحكومة لمواجهة هذا الأمر سوى تعزيز جهود حراسة الحدود، ما يشير إلى أن الآفاق الاقتصادية قد تستمر بالتدهور.
وفي الوقت ذاته، تشير المواجهات الشعبية المتزايدة مع الحكومة مؤخراً إلى أنه ينبغي على شركاء تونس الغربيين أن يظلوا حذرين من حدوث اضطرابات غير متوقعة أو انهيار اقتصادي مفاجئ، فضلا عن التغييرات المحتملة الناتجة عن سوء الحالة الصحية للرئيس. وبوجه خاص، يتعين على المسؤولين تقدير المدة التي قد تستمر خلالها هذه الحالة، التي تبدو غير قابلة للاستدامة، فضلًا عن استشراف التداعيات المحتملة لحدوث فراغ في السلطة.
الآثار المترتبة على سياسة الولايات المتحدة
في ظل تلك المشاكل، يتعين على واشنطن أن تنظر في كيفية المساعدة في تلبية الاحتياجات الملحة لتونس، مع تجاوز نهجها القائم على إدارة القضايا الأمنية والتصدي لمحاولات سعيد للتواصل مع خصوم مثل إيران. ورغم صغر حجمها وسياساتها التي غالباً ما تكون إشكالية، لا يزال في وسع تونس أن تقدم الكثير لدعم أهداف الولايات المتحدة الرامية إلى تعزيز الاستقرار والازدهار في الشرق الأوسط وأفريقيا. فعلى غرار المغرب، فإن قربها الجغرافي وعلاقاتها الوثيقة مع أوروبا يجعلانها مرشحاً جيداً للمساهمة في سلاسل التوريد العالمية، ولا سيما إن قامت تونس بإصلاحات لتوسيع الإنتاج في القطاعات عالية القيمة. علاوة على ذلك، لا يزال لدى البلاد عدد من السكان في سن العمل أكبر من عدد المعالين، ما قد يمكنها من أداء دور رائد بتوسيع ريادة الأعمال والإنتاجية في أفريقيا مع التخفيف من البطالة والمخاوف المرتبطة بالميزانية داخليا في الوقت ذاته.
ويرى المراقبون أيضا أن سعيد لا يزال عرضة للضغوط الغربية، رغم الإجراءات الجريئة التي اتخذها مثل رفض حزمة قروض صندوق النقد الدولي. فقبل أن تفكك إدارة ترامب "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" وترفع الرسوم الجمركية على الواردات التونسية، كان التعاون الثنائي قوياً نسبياً. مؤخراً، يبدو أن النداءات الصادرة من المشرعين في واشنطنوبروكسل قد أثرت في نتائج محددة، مثل الإفراج عن الناشطة الحقوقية سونيا دهماني.
ومستقبلاً، يمكن للحكومة الأمريكية أن تساعد تونس كثيراً من دون استثمار موارد كبيرة. ومن ثم، قد يسهم تشجيع الإصلاحات بشكل هادئ في المجالات الأقل تسيساً، مثل دعم مشاريع البنية التحتية التجارية الحيوية، في منع التدهور الاقتصادي وطمأنة الجمهور التونسي إلى أن واشنطن لم تتخل عنه تماماً. وعلى أقل تقدير، ينبغي للولايات المتحدة دعم الجهود التي يبذلها المانحون الآخرون في قطاع الطاقة وبقية القطاعات في البلاد. كما أن إلغاء الرسوم الجمركية البالغة 25% على السلع التونسية سيكون خطوة منخفضة التكلفة لكنها ذات قيمة.
وأخيراً، تستطيع الولايات المتحدة بذل مزيد من الجهود لدعم التونسيين في بناء رؤية مشتركة لمستقبل مزدهر. ففي عام 2011، دعمت إدارة أوباما جهود الديمقراطية المحلية عبر تدابير جريئة مثل إنشاء " الصندوق التونسي الأمريكي لتمويل المؤسسات " واتفاقية "مؤسسة تحدي الألفية"، مما أكسب المواطنين ثقة أكبر في سعيهم لإحداث قطيعة جوهرية مع الماضي. ولاستئناف هذا المسار المفعم بالأمل، يحتاج التونسيون إلى إجراءات جريئة مماثلة من إدارة ترامب، تمنحهم وزناً رمزياً، وفي أفضل الأحوال دعماً ملموساً لمساعيهم نحو اقتصاد أكثر شمولا.