
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4066
إعادة صياغة العلاقات العراقية-الأمريكية وتعزيزها عبر بوابة الطاقة والأمن

على الرغم من أن العراق أصبح أكثر استقراراً مما كان عليه منذ عقود، إلا أنه لا يزال يواجه تحديات أمنية وطاقية هائلة، بما في ذلك خطر تمدد الصراع بين إيران وإسرائيل، والاعتماد على الغاز الإيراني غير الموثوق به رغم وجود فرص محلية غير مستغلة، وحكومة سورية لم تثبت كفاءتها بعد، وتهديد تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي لا يهدأ.
تحدث التحديات الأمنية والاقتصادية الجسيمة التي يمر بها العراق في وقت تسعى فيه البلاد إلى فك ارتباطها من مهمة "التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش) وإعادة هيكلة علاقتها مع الولايات المتحدة. إن الشراكة مع الولايات المتحدة في مبادرات الطاقة والأمن لا يمكن أن تعزز الأهداف العراقية فحسب، بل يمكن أن تخدم أيضاً أهداف سياسة الرئيس ترامب، وتواجه النفوذ الإيراني والصيني في العراق، وتخلق مزيداً من الفرص الاقتصادية، وتُسهل الجهود الأوسع نطاقاً لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.
تقدم "بطيء، ولكن ثابت" في قطاع الغاز.
تُعد علاقة بغداد مع واشنطن في قطاع الطاقة، بما في ذلك الغاز الطبيعي، من أهم الشراكات التي تسعى الحكومة العراقية إلى تعزيزها. فالولايات المتحدة تُعد أكبر منتج للغاز في العالم، وقد ساعدت صادراتها الضخمة من الغاز الطبيعي المسال (الغاز الطبيعي المُسال) أوروبا على استبدال الإمدادات الروسية خلال الحرب في أوكرانيا. تحتل احتياطيات العراق من الغاز، التي تصنف في المرتبة الثانية عشرة عالمياً، مكانة مهمة لكنها تُعد بمعظمها غازاً مصاحباً يُنتج بوصفه منتجاً ثانوياً لاستخراج النفط الخام، ولا سيما في الجنوب. ومع ذلك، لا يزال يتم حرق كميات كبيرة من هذا الغاز بشكل مهدور بدلاً من جمعه واستغلاله. ويُصنَّف العراق ضمن أسوأ خمس دول في العالم من حيث معدلات حرق الغاز؛ إذ أحرق في عام 2023 نحو 1200 مليون قدم مكعب قياسي يومياً، في الوقت الذي استورد فيه نحو 1000 مليون قدم مكعب من الغاز من إيران. وفي ذلك العام، فقدت شبكة الكهرباء العراقية 5000 ميغاواط بسبب انخفاض الإمدادات الإيرانية، التي تُعد غير موثوقة بطبيعتها. وقد تتكرر المشكلة نفسها هذا العام. والأخطر من ذلك أن هذه الواردات معرضة لخطر الانقطاع إلى أجل غير مسمى بسبب الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل.
بينما تأمل بغداد في الوصول إلى معدل صفر في حرق للغاز بحلول عام 2028، إلا أنه من غير الواضح كيف ستوازن بين هذا الهدف وطموحها في زيادة إنتاج النفط إلى أكثر من 6 ملايين برميل يومياً في وقت لاحق من هذا العقد (العراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك). في السنوات الأخيرة، أحرزت البلاد تقدماً مطرداً، وإن كان بطيئاً، في معالجة تحديات قطاع الغاز، وفي مقدمتها مسألة حرق الغاز، حيث سعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى جذب المزيد من الشركات من الولايات المتحدة ودول أخرى للاستثمار في هذا المجال. ومع ذلك، لا تزال هناك عقبات تقنية وسياسية، بما في ذلك التدخلات السياسية، والفساد، والبيروقراطية، التي أدت إلى تأخير العديد من المشاريع.
ومع ذلك، بدأت بعض مشاريع احتجاز الغاز تتقدم تدريجياً، بما في ذلك "مشروع غاز النمو المتكامل" (GGIP) الضخم، بقيادة شركة "توتال إنرجي" الفرنسية. ويشمل هذا المشروع الرباعي تطوير محطة "أرطاوي" للغاز، التي من المتوقع أن تعالج 600 مليون قدم مكعب قياسي يومياً من الغاز المصاحب من عدة حقول نفطية في جنوب العراق. في كانون الثاني/يناير، أطلقت شركة "توتال إنرجي" وشركاؤها، "شركة نفط البصرة" و"قطر للطاقة"، أعمال بناء أول منشأة لمعالجة الغاز المصاحب من حقل "أرطاوي" في محافظة البصرة. ويُتوقع أن تُعالج المنشأة، التي تُعد جزءاً من "مشروع غاز النمو المتكامل"، نحو 50 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز الذي كان يُحرق سابقاً في الهواء، على أن يُستخدم لاحقاً في توليد الطاقة محلياً.
وقد فازت شركات صينية ببعض العقود الخاصة بأعمال بناء "مشروع غاز النمو المتكامل"، كما تشارك بكين في مشاريع غازية رئيسية أخرى في العراق، بما في ذلك محطة معالجة الغاز في حلفاية، التي بدأت عملياتها في حزيران/يونيو 2024. وفي الوقت نفسه، كانت شركة غاز البصرة، وهي مشروع مشترك بين شركة الغاز الجنوبية العراقية وشركتي شل وميتسوبيشي، تُعد أكبر مشروع منفرد لمعالجة الغاز المصاحب في العراق حتى العام الماضي، حيث كانت تعالج إنتاج حقول الرميلة وغرب القرنة 1 والزبير، وهي ثلاثة من الحقول النفطية العملاقة في الجنوب.
ومع ذلك، لا يزال قطاع الطاقة في العراق هشًا. ففي أيار/مايو، فقد حوالي 4000 ميغاواط بسبب انخفاض إمدادات الغاز الإيراني، وأيضاً بسبب إنهاء واشنطن الإعفاءات على استيراد الكهرباء الإيرانية في وقت سابق من هذا العام. كل هذه التحديات يجب أن تدفع بغداد إلى إعطاء الأولوية لحل مشاكل الغاز والكهرباء.
الشراكة الأمنية
يتطلب تعزيز التعاون في مجال الطاقة بين الولايات المتحدة والعراق ليس فقط مناخًا استثمارياً إيجابياً، بل أيضاً أمناً ومستداماً. ولجذب المستثمرين، يجب على العراق أن يثبت استقراره وأمنه من خلال معالجة المشاكل طويلة الأمد، المتمثلة في تدخل الجهات الخارجية والصراعات الداخلية. بالنسبة لواشنطن، يعني هذا أن على بغداد أن تواصل التركيز أولاً على مكافحة "تنظيم الدولة الإسلامية"، وثانياً على تقليل التهديد الذي تشكله الميليشيات المدعومة من إيران، والتي قد تتوسع في حال استئناف الاشتباكات بين إيران وإسرائيل.
منذ عام 2014، تتمركز القوات الأمريكية في العراق بدعوة من بغداد كجزء من "التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية". بعد الهزيمة الجغرافية لتنظيم "داعش" في العراق عام 2017، ركزت واشنطن على تقديم المشورة والمساعدة لـ"بغداد" وتمكينها من مواصلة مكافحة التنظيم، وذلك من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية وتقديم التمويل. في عام 2023، وفي ظل المزيد من النجاحات ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" والضغوط الإيرانية لتقليل نفوذ الولايات المتحدة، بدأ العراق في إنهاء مهمة التحالف وسعى إلى وضع العلاقات الأمريكية العراقية على أساس ثنائي أكثر.
منذ ذلك الحين، تغيرت الأوضاع الإقليمية بشكل جذري، حيث تزامنت ظروف جديدة وغير مؤكدة في سوريا المجاورة مع جهود إدارة ترامب للحد من الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط. ومع ذلك، لا يزال من الممكن أن تستند العلاقات الثنائية إلى المصالح الأمنية المشتركة.
بالنسبة للعراق، تظل مهمة مكافحة "تنظيم الدولة الإسلامية" حاسمة وستحظى بدعم أمريكي مستمر. على الرغم من أن التنظيم قد أُضعف بشكل كبير، حيث لم يعلن مسؤوليته سوى عن خمسة هجمات في العراق حتى الآن في عام 2025، إلا أنه لا يزال يسعى إلى استغلال الانقسامات في البلاد. علاوة على ذلك، يعاني العراق من اكتظاظ السجون بالمسجونين المنتمين إلى "تنظيم القاعدة" و"تنظيم الدولة الإسلامية"، إلى جانب التزامه بإعادة جميع العائلات العراقية المنتمية إلى "تنظيم الدولة الإسلامية" من سوريا بحلول عام 2026. يأتي كل هذا في الوقت الذي يتم فيه خفض التمويل الأمريكي لعمليات الإعادة إلى الوطن وتحقيق الاستقرار. وفي غياب الاستثمار في هذه البرامج، ستتضرر بشدة قدرة العراق على إعادة إدماج الأفراد الذين أعيدوا إلى الوطن وأطلق سراحهم من السجن بنجاح.
بالإضافة إلى ذلك، أثر التدخل الإيراني بشكل كبير على اقتصاد العراق وأمنه. فعلى سبيل المثال، تهدد الميليشيات المدعومة من إيران بتقويض الحكومة، وإضعاف قوات الأمن العراقية، واستهداف القوات والقواعد الأمريكية بشكل مباشر. وخلال الصراع الأخير بين إيران وإسرائيل، هددت هذه الميليشيات مرة أخرى بمهاجمة المصالح الأمريكية في المنطقة إذا تدخلت واشنطن في الحرب. وفي الوقت الذي تسعى فيه بغداد إلى إقامة علاقات اقتصادية وأمنية إيجابية مع واشنطن، يجب عليها العمل على الحد من نفوذ هذه الجهات الفاعلة.
التوصيات
تُظهِر الضربات الإسرائيلية على إنتاج الغاز المحلي في إيران الحاجة المُلحّة أمام العراق لتوسيع تعاونه مع الولايات المتحدة في مجال الطاقة، واستغلال الفرص الاقتصادية غير المُستثمرة في قطاع الغاز. وينبغي أن تركز بعض هذه الجهود الثنائية على الحد من حرق الغاز وتطوير حقول الغاز، كما هو الحال في حقل عكاس، أكبر حقل غاز غير مرتبط بالنفط الخام في العراق، حيث يُقال إن شركة خدمات النفط الأمريكية "إس إل بي" تشارك الآن في هذا المشروع. ويمكن لجهود أخرى أن تعالج هذه المشاكل ذاتها مع العمل على تنويع الاقتصاد العراقي في الوقت نفسه. على سبيل المثال:
- يمكن أن تستفيد بغداد من نجاحات المملكة العربية السعودية في معالجة مشكلة حرق الغاز. في سبعينيات القرن الماضي، قررت الرياض البدء في التقاط الغاز المصاحب من خلال نظام غاز رئيسي، وهو شبكة من خطوط الأنابيب تربط مواقع الغاز في جميع أنحاء البلاد. وقد أسهم هذا الجهد في دعم عملية التصنيع داخل المملكة. واليوم، لا يزال النظام الموسع، الذي بدأ تشغيله في أوائل الثمانينيات، يستخدم تقنيات من شركات رائدة مقرها الولايات المتحدة، من بين دول أخرى.
- أشار تقرير صادر عن وزارة النفطالعراقية إلى إمكانية إشراك شركة "كيه بي آر" الأمريكية في مشروع "نبراس" للبتروكيماويات في الجنوب، الذي تأخر تنفيذه لفترة طويلة. ومن الجدير بالذكر أن الغاز المصاحب في العراق غني بالإيثان، وهو سائل غاز طبيعي يستخدم لإنتاج الإيثيلين، الذي سيكون مدخلاً رئيسياً في أي صناعة بتروكيماوية مستقبلية. هذا مجال يمكن أن تستكشفه بغداد بجدية مع الشركات الأمريكية.
- على المدى القريب، يمكن أن يشمل التعاون العراقي مع القطاع الخاص الأمريكي استئجار وحدات تخزين وإعادة تغويز عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، الذي يعمل العراق حالياً بوتيرة سريعة على إنشاء البنية التحتية اللازمة له في الجنوب. ونظراً لأن الولايات المتحدة دولة رائدة عالمياً في مجال الغاز الطبيعي المسال، يمكن أن تكون هذه فرصة أخرى للتعاون.
- أظهرت الزيارة الأخيرةلوفد تجاري أمريكي رفيع المستوى إلى بغداد أن توسيع التعاون الثنائي في مجال الطاقة أمر ممكن. لكن لكي ينجح ذلك، من الضروري تحقيق الأمن والاستقرار في العراق، لا سيما في ظل المخاطر الجيوسياسية التي يشكلها الصراع بين إيران وإسرائيل. وبشكل أكثر تحديداً:
- يجب على واشنطن وبغداد مواصلة التصدي للتهديدات المتعددة الأوجه التي يشكلها "تنظيم الدولة الإسلامية"، ومواجهة التهديدات من الميليشيات المدعومة من إيران، وضمان عدم تمكن أي جهة فاعلة حكومية أو غير حكومية من زعزعة استقرار الوضع الأمني الداخلي.
- يجب على المسؤولين الأمريكيين والعراقيين مواصلة التخطيط والتنفيذ للانتقال إلى مرحلة ما بعد التحالف. ويشمل ذلك توقيع اتفاقية بشأن وضع القوات أو أي تفاهم ثنائي آخر يحدد الوضع القانوني المستمر للقوات الأمريكية في العراق. إلى جانب السماح لواشنطن بمواصلة دعم العراق في محاربة "تنظيم الدولة الإسلامية"، فإن مثل هذا الاتفاق سيظهر لإيران وشركائها من الميليشيات أن بغداد أعطت الأولوية لعلاقتها مع واشنطن. كما سيظهر للمستثمرين من القطاع الخاص أن كلا الحكومتين تعطيان الأولوية لأمن العراق، مما يجعل البلاد جاهزة للاستثمار.
في الوقت الذي تسعى فيه بغداد إلى إعادة تعريف علاقتها مع واشنطن، فإن التأكيد على التعاون في مجالي الطاقة والأمن يمكن أن يخدم بشكل مباشر أهداف الولايات المتحدة المتمثلة في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني، وخلق فرص اقتصادية جديدة، وتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وتقليص المساحات غير الخاضعة للحكم التي غالباً ما تستغلها الجهات المعادية.