- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
تحول استراتيجي بعد الهجوم الإسرائيلي على قطر
Also published in The Hill
تُظهر هذه الصورة المأخوذة من لقطات تلفزيون وكالة " فرانس برس" رجلاً يراقب تصاعد الدخان إثر سلسلة من الانفجارات في العاصمة القطرية الدوحة في 9 أيلول/سبتمبر 2025. وأفاد مسؤول عسكري إسرائيلي لوكالة الصحافة الفرنسية (AFP) بأن الجيش الإسرائيلي شن غارات جوية على الدوحة في ذلك اليوم، ضمن عملية استهدفت كبار قادة حركة "حماس" الفلسطينية المسلحة. (الصورة بعدسة جاكلين بيني عبر شركة "صور غيتي")
لفهم دلالات هذا الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق على مفاوضي "حماس" في الدوحة، يكفي الاطلاع على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتوقيع أمر تنفيذي يكفل أمن قطر - وهي خطوة لافتة تجاه دولة ليست عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي اليوم السابق، مارس ترامب ضغوطاً على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليقدم اعتذار نادر، ثم أبلغ نظيره القطري في أتصال هاتفي من المكتب البيضاوي بأنه تلقى وعداً بعدم تنفيذ مزيد من الهجمات المشابهة، وذلك في سياق متابعته الشخصية للموقف.
بالنسبة لدول الخليج العربية، شكّل الهجوم الإسرائيلي على قطر لحظة تخطت كل الخطوط الحمراء. فقد اعتبر كثير من المسؤولين والمواطنين الخليجيين أن الضربة الإسرائيلية في قلب الدوحة تشكل تهديداً مباشراً لأمن المنطقة ولأمنهم الشخصي أيضاً. وقد سارعت واشنطن إلى طمأنة شركائها العرب، إلا أن الهجوم الإسرائيلي ينطوي على مخاطر إحداث أضرار بعيدة المدى.
وقد فاقم عجز ترامب أو عدم رغبته في وقف الهجوم الإسرائيلي من مخاوف قادة الخليج المتجذرة آليات موثوقية المظلة الأمنية الأمريكية. ونتيجة لذلك، تعيد دول الخليج حاليا النظر في منظومتها الدفاعية والأمنية، ليس بهدف استبدال الولايات المتحدة، بل لسد الثغرات القائمة وتحديث الأليات التعاون الإقليمي.
كما أثار الهجوم الإسرائيلي تضامنا لافتاً بين الدول الأعضاء الست في مجلس التعاون الخليجي، وفي طليعتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، وأسهم في تسريع التحول الجذري في نظرة دول الخليج إلى الدولة اليهودية.
قبل خمس سنوات فقط، قامت الإمارات العربية المتحدة والبحرين بتطبيع علاقاتهما مع إسرائيل، وفي وقت لاحق، قبل عامين، كانت السعودية تجري محادثات مع الولايات المتحدة حول تبني المسار ذاته. غير أن هجوم حركة "حماس" على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والحرب في غزة، أبطأ مسار التقدم نحو مزيد من التطبيع. وقد أدت الخسائر البشرية الباهظة في غزة إلى توتر حاد في علاقات دول الخليج مع إسرائيل.
وقد تزايدت مخاوف دول الخليج من السياسات والإجراءات الإسرائيلية بالتزامن مع تراجع حدة التهديدات الإيرانية. فقد استفادت دول الخليج، بدرجات مختلفة، من العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد ايران و"حزب الله" و"حماس"، وعناصر أخرى من شبكة طهران الإقليمية خلال العامين الماضيين. ونتيجة لذلك، بات "محور المقاومة" الذي تتباهى به طهران في حالة من التشتت والإرباك، بينما تعرض برنامجها النووي لضربات موجعة من القنابل الإسرائيلية والأمريكية.
ومع ذلك، لا تزال إيران تشكل مصدر قلق أمني أساسي لدول الخليج. فقبل أشهر قليلة من هجوم الدوحة، كانت إيران هي الجهة التي تنتهك سيادة قطر، حيث شنت ضربة منسقة على قاعدة العُديد العسكرية الأمريكية رداً على الهجمات الأمريكية والإسرائيلية على منشآت طهران النووية.
لكن بينما يرى قادة الخليج أن التهديد الإيراني عموما قد تراجع، فإنهم يبدون قلقاً متزايداً من تحول إسرائيل إلى قوة تزعزع الاستقرار في المنطقة. وقد أسهم الخطاب المتشدد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة حول فكرة "إسرائيل الكبرى" في تعميق هذه المخاوف. وجاء الهجوم على قطر ليجسد أسوأ ما كان يخشاه قادة الخليج، إذ كشف عن إسرائيل كتهديد مباشر لأمن دولهم وطموحاتها في التحول الاقتصادي.
يخشى قادة الخليج حالياً أن تكون إسرائيل، التي لم تتردد في قصف الدوحة، مستعدة لشن هجمات في أماكن أخرى، وهو ما يتعارض مع رؤية دول الخليج لنفسها كمنطقة آمنة ومستقرة. وقد وصف أنور قرقاش، المستشار الإماراتي، الهجوم الإسرائيلي بـ"الغادر" وأشار بوضوح إلى أن "أمن دول الخليج العربي غير قابل للتجزئة".
أما تأثيرات هذا الحدث على البنية الأمنية الإقليمية فلا تزال غير واضحة. فقد أدان قادة الدول العربية والإسلامية في اجتماعهم بالدوحة الهجوم الإسرائيلي، لكن دون أن يتمخض ذلك الاجتماع عن ذلك أي إجراءات تنفيذية ملزمة. وفي المقابل، اعتبر مجلس التعاون الخليجي في اجتماعه أن الهجوم على قطر يمثل اعتداء على جميع الدول الأعضاء، ودعا إلى عقد اجتماع للمجلس الدفاعي المشترك، الذي أقر زيادة تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتسريع العمل على نظام إنذار مبكر للصواريخ الباليستية، وتحديث خطط الدفاع المشتركة.
لكن الأهم من تضامن مجلس التعاون الخليجي يتمثل في التحالف الاستراتيجي الناشئ بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر، المعروف غير الرسمي باسم "دول الخليج الثلاث". فقبل هجوم نتنياهو على الدوحة، كان التنسيق بين هذه الدول القوية والطموحة في تصاعد ملحوظ. ويبدو أن الإمارات والسعودية قد نسقتا مواقفهما العلنية التي اعتبرت أن ضم إسرائيل للضفة الغربية يمثل خطاً أحمر. كما لعبت الدول الثلاث دوراً محورياً في صياغة خطة ترامب لوقف إطلاق النار في غزة.
واليوم، تسعى هذه الدول إلى تعزيز منظومة الأمن الجماعي بالتعاون مع الولايات المتحدة، في مواجهة التهديدات القادمة من كل من ايران وإسرائيل. غير أنه من المبكر الجزم بما إذا كانت هذه الجهود ستفضي إلى إنشاء نسخة خليجية عربية من حلف شمال الأطلسي الذي طالما جرى الحديث عنه، أم أنها ستنتج شبكة أكثر تنوعاً ومرونة من الترتيبات الأمنية المكملة للشراكة مع الولايات المتحدة.
ولعل من الجوانب الإيجابية لهجوم الدوحة ذلك التحالف الجديد الذي تشكل بين دول الخليج الثلاث. فقد أدى التنافس بينها في مراحل سابقة إلى تأجيج النزاعات بدلاً من الحد منها أو احتوائها.
ومع ذلك، فإن الثقل الاقتصادي الكبير الذي تتمتع به المملكة العربية السعودية والأمارات العربية المتحدة وقطر، إلى جانب نفوذها الدبلوماسي الواسع وعلاقاتها المتينة مع إدارة ترامب، يضعها جميعا في موقع فريد يمكنها من الإسهام بفاعلية في تحقيق تقدم على جبهات متعددة، بدءا من وضع خطة لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، ومرورا باستقرار الأوضاع في سوريا، ووصولا إلى السعي نحو تسوية دبلوماسية مع ايران بشأن طموحاتها النووية وتدخلها الإقليمي. وفي ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، تغدو الحاجة ملحة إلى هذا المستوى من التنسيق بين القوى الإقليمية المتوسطة، بوصفه عاملاً أساسياً لبناء مستقبل أكثر استقراراً وسلاماً.