
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4122
"نزع التطرف" في غزة: التحديات والحلول ومقاييس النجاح

لكي تحقق خطة السلام الأميركية هدفها بعيد المدى، المتمثل في قيام غزة لا تحكمها "حماس" ولا تشكّل خطراً على جيرانها، تحتاج السلطات إلى الجمع بين إنجازات واقعية يمكن قياسها، وبين جهود متوازية لنزع السلاح وإعادة الإعمار المدني وتغيير الأجندة العامة.
تبدأ خطة الرئيس "ترامب" المكوّنة من عشرين نقطة لإنهاء حرب غزة بالتأكيد على أن الهدف هو تحويل القطاع إلى "منطقة خالية من الإرهاب والتطرف، لا تشكّل خطراً على جيرانها". لكن معظم بنود الخطة تتركز على شروط وقف إطلاق النار وما يتبعه من ترتيبات سياسية وعسكرية واقتصادية بين الأطراف. وفي شكلها الحالي، لا توضّح الخطة بشكل واضح المقصود عملياً بـ"نزع التطرف"، ولا تطرح استراتيجية واضحة لتفكيك النفوذ الفكري والمؤسسي لحركة "حماس" بعد ما يقارب العقدين من سيطرتها على الحكم. كما أنها لا تعالج بشكل جوهري الجذور الاجتماعية والتعليمية والثقافية التي تغذي التطرف العنيف.
لهذا السبب، فإن الخطوة الأولى يجب أن تكون إعادة تعريف مفهوم "نزع التطرف"، بحيث ننتقل من هدف غامض ومعقد إلى غاية أكثر واقعية وقابلة للتطبيق، وهي: تقليص الرغبة الشعبية في دعم "حماس" أو المشاركة في أعمال إرهابية. هذا التعريف الجديد يتيح وضع معايير واضحة يمكن قياسها، ما يمكّن صانعي السياسات من متابعة التقدم وتقييم النجاحات والتعامل مع النكسات بطريقة منظمة. وفي هذا الإطار، من المفترض أن تركز الجهود على خلق بيئة اقتصادية واجتماعية وسياسية مناسبة لهذا التحول – بيئة تقلل من جاذبية الإرهاب، وتحد من الحوافز التي تدفع الشباب الفلسطينيين إلى الانضمام إلى أنشطة "حماس" العنيفة أو تأييدها.
نزع التطرف أم فك الارتباط؟
تشير معظم الدراسات الأكاديمية حول نزع التطرف إلى أن العملية لا تقتصر على وقف السلوك العنيف فحسب، بل تحتاج أيضاً إلى إحداث تغيير فكري وقيمي لدى الأفراد. لكن لا يوجد اتفاق على عمق هذا التغيير الفكري المطلوب، كما أن قياس النجاح في مهمة تقوم على تغيير القناعات الفردية يبدو بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً.
ومن هذا المنطلق، يفرّق الباحثون عادةً بين "نزع التطرف المعرفي"، أي رفض الأفكار التي تبرر العنف الإرهابي، وبين فك الارتباط السلوكي، أي الامتناع عن ممارسة العنف. ويرى كثيرون أن التحول الفكري الكامل أمر نادر الحدوث، وغالباً غير ضروري؛ ففي كثير من الحالات، قد يكفي تبنّي نسخة أكثر واقعية من الفكر المتطرف – نسخة تبتعد عن العنف لأسباب عملية بحتة.
دروس من أماكن أخرى
تقدم التجارب من مناطق مختلفة حول العالم دروساً متنوعة حول كيفية استخدام برامج نزع التطرف في معالجة العنف المتطرف، خاصة في مراحل ما بعد الحرب مثل الوضع الراهن في غزة. ففي "اليمن" على سبيل المثال، جرى إطلاق برنامج "الحوار"، وفي "السعودية" ظهرت مبادرات لإعادة التأهيل مطلع العقد الأول من الألفية، وقد ارتكز كلاهما على الحوار الديني وإعادة التثقيف. أظهرت هذه البرامج في بداياتها نتائج مشجعة، لكنها سرعان ما واجهت صعوبات كبيرة في إحداث تحول فكري دائم؛ إذ غالباً ما قيس النجاح بمعدلات العودة إلى النشاط العنيف، والتي انخفضت في البداية لكنها عادت وارتفعت لاحقاً، ما أثار الكثير من الأسئلة حول جدواها على المدى الطويل.
في المقابل، تكشف تجربة نزع النازية في "ألمانيا" بعد الحرب العالمية الثانية عن نجاح أكبر لسياسات أكثر واقعية. فقد اعتمدت تلك التجربة على إنشاء سلطة خارجية محايدة لإدارة الحكم، وتسهيل تعافٍ اقتصادي واسع، وتفكيك مؤسسات النظام السابق، إلى جانب إصلاحات عميقة في التعليم والإعلام، وفتح أفق سياسي جديد يتمتع بالمصداقية. هذه التدابير مجتمعة أظهرت أن معالجة جذور التطرف لا تتحقق فقط من خلال إعادة التثقيف، بل من خلال إعادة بناء شاملة للنظام السياسي والاجتماعي.
وعلى صعيد آخر، أوضحت الجهود التي قادتها "الولايات المتحدة" في "أفغانستان" و"العراق" أهمية أن تكون هناك "ملكية محلية" لعملية نزع التطرف، حتى لا يُنظر إليها على أنها فرض خارجي يفتقر إلى الشرعية. وتؤكد الأبحاث الحديثة على أن إعادة تأهيل الشباب المنخرطين سابقاً في الجماعات المتطرفة أمر مهم، لكنها ليست كافية وحدها. فلا بد من أن ترافق هذه الجهود برامج أوسع لمعالجة المشاكل الجذرية التي تستغلها الأفكار المتطرفة، مثل الفقر والفساد والتمييز، وهي العوامل التي تغذي دوامة العنف وتعيد إنتاجها جيلاً بعد جيل.
الخطوات التالية لغزة
تؤكد التجارب التاريخية، سواء من النجاحات الجزئية في نزع النازية أو من محاولات معالجة العنف الإسلاموي، على أن أي فك ارتباط ناجح لا يمكن أن يقتصر على استهداف المتطرفين الأفراد فحسب، بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى معالجة البيئة الاجتماعية والسياسية والمجتمعية الأوسع التي تترعرع فيها الأفكار المتطرفة. وكما تشير الباحثة "أودري كورث كرونين"، فإن النجاح في غزة يتطلب إعادة صياغة حسابات المكاسب والخسائر لدى مؤيدي "حماس"، بل وحتى لدى بعض عناصرها، بحيث يصبح الاستمرار في دعم الحركة أقل فائدة وأكثر كلفة من الانفصال عنها. الخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي بناء بديل حكومي يتمتع بفعالية وشرعية وجاذبية أكبر من "حماس" في نظر السكان. وعندها يمكن توفير مسارات جديدة لأعضاء الحركة – رجالاً ونساءً – تمنحهم حياة شخصية كريمة خارج التنظيم، ضمن بيئة اجتماعية قادرة على استيعابهم ودعمهم.
لكن، وللتوضيح، لا يمكن أن تنجح جهود فك الارتباط هذه بمعزل عن عمليات سياسية واقتصادية واجتماعية متوازية. ففي غزة اليوم، يتطلب ذلك تنسيقاً معقداً بين جهات خارجية متعددة تختلف في مصالحها وأولوياتها. على سبيل المثال، ستصر "إسرائيل" على جعل تفكيك البنية العسكرية لـ"حماس" ونزع سلاح القطاع شرطاً أساسياً لأي إعادة إعمار، بينما يرى آخرون أن إعطاء أفق سياسي واضح يشكل أساساً لبناء الثقة وتعزيز فك الارتباط. كذلك، قد تنشأ خلافات بشأن أدوار منظمات ودول بعينها: فـ"إسرائيل" تنظر بشك إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وإلى دول مثل "قطر" و"تركيا"، بينما تعتبر "الولايات المتحدة" وعدة أطراف دولية أخرى أن إشراك بعض هؤلاء الفاعلين أمر لا غنى عنه لتحقيق إعادة الإعمار ونزع التطرف على المدى البعيد.
في تنسيق استراتيجية موحدة لبرامج فك الارتباط في غزة، يجب على "الولايات المتحدة" إعطاء الأولوية للركائز الأربع التالية:
فك الارتباط الأمني. يعد التفكيك الكامل للقدرات العسكرية لـ"حماس" أمراً لا بد منه، بما في ذلك المصادرة المنظمة للأسلحة من أعضاء الحركة والفصائل المسلحة الأخرى تحت إشراف دولي، إلى جانب حوافز مدنية لمنع إعادة التسلح. يجب الرجوع إلى مجموعة واسعة من الدراسات حول نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج لضمان النجاح، بالإضافة إلى التطبيق العملي للأمم المتحدة لهذه المفاهيم في مناطق نزاع متعددة. يجب أن تشمل الخطوات المحددة في هذه العملية إنشاء مواقع مركزية لجمع الأسلحة، ونشر قوات أمن فلسطينية تم فحصها وتدريبها، وسن قوانين تكرس مبدأ "سلطة واحدة، قانون واحد، سلاح واحد"، واستعادة البنية التحتية المدنية بشكل تدريجي. بالتوازي مع ذلك، يجب تطبيق ضوابط حدودية وآليات مراقبة - خاصة على طول الحدود المصرية الغزية - لمنع تهريب الأسلحة وتعزيز الثقة العامة في عملية نزع السلاح. ستكون العمليات الاستخباراتية لتحديد مخابئ الأسلحة المخفية وشبكات الأنفاق أمراً حاسماً أيضاً، وكذلك الإصلاحات القانونية التي تجرّم الجماعات المسلحة غير المصرح بها وتضمن التطبيق المستمر للقانون.
فك الارتباط الإقليمي والمؤسسي. يعتمد نزع سلاح "حماس" أيضاً على تفكيك بنيتها التحتية للحكم والأمن والاتصالات في غزة. الخطوة الرئيسية الأولى في هذا الجهد هي التمييز بين مقاتلي "حماس" الذين لهم أدوار عسكرية والموظفين المدنيين الذين تلقوا رواتب من الحركة. يجب أن يخضع المقاتلون لنزع السلاح، وإذا لزم الأمر، الاحتجاز أو المشاركة في برامج فك الارتباط. أما الموظفون المدنيون غير المشاركين في العنف (مثل المعلمين والعاملين في مجال الرعاية الصحية) فيمكن إعادة دمجهم بسرعة أكبر من خلال برامج إعادة التأهيل المدني، بشرط الفحص الأمني. في جميع الحالات، يجب دعم إعادة الإدماج بالمساعدة الاقتصادية والتدريب المهني والدعم النفسي والاجتماعي.
ثانياً، يجب على السلطات إغلاق القنوات الإعلامية التي تسيطر عليها "حماس"، وإنشاء سلطة اتصالات مستقلة تحت إشراف دولي، والبدء في جهود لإصلاح المحتوى الديني والتعليمي. يجب إطلاق عمليات استخباراتية لتحديد البنية التحتية التي تمكّن التحريض المنظم، كما يجب أن تهدف القوانين الفلسطينية إلى حظر الرسائل المتطرفة. يمكن أن تكون اللجنة الفلسطينية التقنية غير السياسية المقترحة في الخطة المكونة من عشرين نقطة - التي يدعمها فاعلون دوليون مثل "توني بلير" - إطاراً مناسباً لإدارة الاتصالات المدنية الموثوقة، ودمج الخبراء المحليين والدوليين، وضمان تدفق المعلومات الخالية من التأثير المتطرف. في الوقت نفسه، يجب أن يُتوقع من الحكومات الأجنبية تقديم ضمانات بأنها لن توفر منصة لـ"حماس"، ما يضمن أن السلطة الانتقالية الجديدة لديها السيطرة الكاملة على الحكم والأمن والاتصالات.
إعادة الإعمار المدني والاجتماعي. لإضعاف الدعم الشعبي للتطرف ووضع الأساس لحكم شرعي، يجب أن تمتد إعادة الإعمار إلى ما هو أبعد من الخدمات الأساسية والأمن، لتشمل تفكيك نفوذ "حماس" داخل المؤسسات الحكومية، وبناء اقتصاد عادل، وإنشاء نظام قضائي مستقل. على المدى القريب، يعد إغراق غزة بالمساعدات الإنسانية أمراً ضرورياً لكسر سيطرة الحركة على السوق السوداء، لكن يجب أن ينتقل التركيز بسرعة إلى الاستقرار: أي الاستثمار في البنية التحتية والتوظيف والتعليم والمجتمع المدني.
في الواقع، ستُقاس عملية تطهير "حماس" من مؤسسات الحكم بالأشهر أو السنوات، وليس الأسابيع، وذلك حسب التنسيق الدولي والدعم المحلي ووجود سلطة انتقالية ذات مصداقية. يجب أن تكون العملية تدريجية، تبدأ بالقطاعات الأكثر هشاشة وتمتد إلى الجهاز القضائي والأمني. بدون ذلك، لن يكون هناك أساس حقيقي للتغيير.
تحويل الأجندة. في نهاية المطاف، يجب أن يكون هناك جهد مشترك لإعادة تشكيل الأجندة العامة لسكان غزة. يجب أن يكون التركيز الرئيسي على تقليص الرغبة الشعبية في دعم "حماس" أو المشاركة في أعمال إرهابية مستقبلية تطلقها أو منظمات مسلحة أخرى. يجب أن تعمل قيادة بديلة - تتكون من شخصيات محلية موثوقة - على تعزيز قيم المصالحة وحقوق الإنسان وسيادة القانون. يمكن أن يساعد الواقع الذي تكون فيه إعادة الإعمار والأمن الشخصي والرفاه الاجتماعي في صميم الحياة العامة على خلق لغة جديدة من الأمل والانتماء والنظر إلى المستقبل.
أظهرت التجربة الدولية في مكافحة تنظيم "الدولة الإسلامية" أن الروايات الفعالة لا تُبنى على الخوف، بل على الهوية والمعنى. لتفكيك الأفكار السامة، لا يكفي دحضها - يجب على "الولايات المتحدة" وشركائها تقديم بديل أكثر إقناعاً. في حالة غزة، يجب أن تركز مقاييس النجاح على استعداد الجمهور لدعم بديل حكومي عن "حماس"، واستعدادهم للمشاركة في جهود إعادة الإعمار ونزع السلاح، ورفضهم الموازي لمساعدة "حماس" في إعادة بناء قدراتها العسكرية أو تجنيد أعضاء جدد.
قد تكون "السعودية" و"الإمارات العربية المتحدة" في موقع مميز لقيادة هذا التحول، من خلال الاستفادة من شرعيتهما الإقليمية الواسعة وبنيتهما الإعلامية القوية وخبرتهما المثبتة في مكافحة التطرف. من المهم بشكل خاص أن تؤكد هذه البرامج على القيم الإنسانية العامة بدلاً من إعادة التثقيف الديني. سيكون الصبر أيضاً ضرورياً - فإن تحويل الأجندة بشكل عميق هو عملية طويلة الأمد تتطلب المثابرة والعمل المنسق عبر أنظمة متعددة. فقط النهج الواضح والمستمر والمتعدد الطبقات يمكن أن يحقق تغييراً حقيقياً ويضع الأساس لغزة مستقرة بعد "حماس".