- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الميليشيات الموالية لإيران هي الفائزة الكبرى في الانتخابات العراقية
بالنسبة للعديد من العراقيين الذين حلموا بدولة تستند إلى سيادة القانون ومؤسسات راسخة، تبدو نتيجة انتخابات هذا العام بمثابة نكسة واسعة النطاق.
في مشهد يجسد مأساة الحياة السياسية الحديثة في العراق، لم تعد صناديق الاقتراع تعبر عن إرادة الشعب، بل تحولت إلى واجهة قانونية لمشروع مدعوم من إيران يهدف إلى إدامة انقسام البلاد واستنزاف مؤسساتها عبر توجيه الموارد السياسية والاقتصادية والأمنية نحو الميليشيات والقوى السياسية الموالية لها، الأمر الذي يعزز نفوذها على حساب الدولة العراقية.
وتكشف النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية لعام 2025 أن الميليشيات المسلحة وحلفاءها من القوى السياسية قد رسخوا نفوذهم بشكل أعمق، ونجحوا في تحويل هيمنتهم الميدانية إلى نفوذ برلماني أوسع. وتمهد هذه النتيجة الطريق لما يوصف بـ"غسل الشرعية "، حيث باتت الميليشيات تعمل داخل الهياكل السياسية الرسمية، ما سمح لها بالتأثير على تشكيل الحكومة وتوجيه السياسات بما يخدم مصالحها ويوسع سيطرتها على المؤسسات السياسية والأمنية في العراق.
تكشف الأرقام واقعاً مقلقاً، إذ حصل "الإطار التنسيقي" (CF) – المظلة السياسية التي تضم الأذرع البرلمانية للميليشيات المتحالفة مع إيران - على نحو 119 مقعداً. غير أن الخطر الحقيقي لا يكمن في هذا العدد، بل في طبيعة هذا التكتل، إذ لا يعتبر "الإطار التنسيقي" تحالفاً سياسياً تقليدياً فقط، بل تجمع لجماعات مسلحة يمارس قادتها تأثيرأ مباشرأ في صنع القرار الوطني عبر صناديق الاقتراع وعبر السلاح في آن واحد. وهؤلاء أمراء الحرب – مثل قيس الخزاعلي وهادي العامري وحتى نوري المالكي – يشغلون مناصب رسمية في البرلمان، لكنهم يهيمنون في الوقت نفسه على قوات الميليشيات وبعض المؤسسات الأمنية، مما يتيح لهم تحويل نفوذهم العسكري إلى قوة سياسية مؤثرة.
حصلت كتلة "الصادقون"، الجناح السياسي لجماعة "عصائب أهل الحق"، على سبعة وعشرين مقعداً، بينما فازت "منظمة بدر" بـ ثمانية عشر مقعداً. وحصلت حركة "حقوق"، التي تمثل "كتائب حزب الله"، على ستة مقاعد. وهذا يعني أن أكثر من خمسين مقعداً برلمانياً يشغلها اليوم ممثلون مرتبطون مباشرة بجماعات مسلحة تمتلك ترسانات سلاح مستقلة وتنفذ عمليات خارج الإطار القانوني للدولة.
هذا بالإضافة إلى "ائتلاف قوى الدولة الوطنية"، بقيادة عمار الحكيم وحيدر العبادي، الذي حصل على ثمانية عشر مقعداً. وعلى الرغم من أن هذا الائتلاف ليس جهة مسلحة بحد ذاته، إلا انه يظل عضواً رسمياً في "الإطار التنسيقي"، حيث تهيمن الأحزاب المتحالفة مع الميليشيات على رسم الاستراتيجيات وصنع القرار. ويتيح له موقعه داخل " الإطار التنسيقي" بالمطالبة بـ "تمثيل الدولة"، في الوقت الذي يتحالف فيه مع فصائل تعمل خارج السلطة القانونية للدولة. وفي المحصلة، يوفر هذا الوضع للجماعات المسلحة طبقة إضافية من الشرعية السياسية، ويضمن لتحالفها الحفاظ على النفاذ إلى السلطة المؤسسية من خلال كتلة الأغلبية الشيعية التي لطالما كانت أداتها المركزية لترسيخ النفوذ.
في قلب هذا التحالف يقف نوري المالكي، إذ حصل تحالف "دولة القانون" الذي ينتمي إليه على تسعة وعشرين مقعداً، من بينها أربعة مقاعد مرتبطة بـ"كتائب سيد الشهداء"، ممثلة في البرلمان عبر كتلة "منتصرون "، بقيادة أبو علاء الوالي. وقد وضع المالكي، الذي لا يستطيع تحقيق الأغلبية بمفرده، نفسه في موقع المهندس السياسي والدرع البرلماني لهذه الميليشيات، مانحاً إياها الحماية من المساءلة عن الانتهاكات السابقة، بما في ذلك الخطف والاغتيالات وقمع الحركات الاحتجاجية. ويكشف هذا الدور عن مفارقة عميقة، إذ أن الأحزاب والتحالفات التي تقدم نفسها بوصفها "وطنية" أو تكنوقراطية لا تزال متشابكة مع شبكات الميليشيات.
ومن جهة، أعلن "ائتلاف الأساس العراقي" بقيادة محسن المندلوي، الذي حصل على ثمانية مقاعد، انضمامه لـ"الإطار التنسيقي". وبالمثل، فإن تحالف "أبشر يا عراق" بقيادة همام حمودي ينتقل إلى نفس المعسكر بعد فوزه بأربعة مقاعد.
كما برز تحالف "خدامات"، بقيادة قائد "قوات الحشد الشعبي" شبل الزيدي، قائد "كتائب الإمام علي"، كقوة صاعدة داخل "الإطار التنسيقي"، بعد حصوله على خمسة مقاعد. وإلى جانبه تقف كتلة "واسط أجمل" بقيادة محمد جميل المياحي، التي فازت بأربعة مقاعد. وقد انضمت الكتلتان معاً، بمقاعدهما التسعة، رسمياً إلى معسكر المالكي، مما عزز التماسك البرلماني للفصيل الموالي لإيران.
وحصل تحالف "إعادة الإعمار والتنمية" بقيادة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على ستة وأربعين مقعداً. ويضم التحالف حركة "عطاء" بقيادة قائد "قوات الحشد الشعبي" فالح الفياض، التي حصلت على عشرة مقاعد، بالإضافة إلى تجمع "بلاد سومر"، المعروفة باسم تجمع "سند الوطني"، بقيادة قائد "كتائب جند الإمام أحمد الأسدي"، التي حصلت على ستة مقاعد.
ويتضح بصورة متزايدة أن المالكي استخدم موقعه المهيمن داخل "الإطار التنسيقي" لاستقطاب كل من حركة "عطاء" وتجمع "بلاد سومر" بقوة إلى فلكه من خلال التوسط في مناصب القيادة، وإدارة تعيينات اللجان، وحماية التشريعات التي تعزز "قوات الحشد الشعبي". ويدعم هذا التوحيد تماسك الفصيل الموالي لإيران، ويعزز وزنه البرلماني وقدرته على تشكيل الحكومة ونتائج السياسات.
ولعل التطور الأكثر إثارة للجدل كان التحول المفاجئ لتحالف "إعادة الإعمار والتنمية" نحو الانضمام إلى "الإطار التنسيقي"، وهو ما حدث في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر عقب الانتخابات البرلمانية. وفي تصريحات أدلى بها في منتدى الشرق الأوسط للسلام والأمن في دهوك، برر السوداني هذه الخطوة بوصفها توجهاً براغماتياً يهدف إلى تشكيل أكبر كتلة برلمانية وتسهيل المفاوضات المتعلقة بالحكومة المقبلة، مؤكداً أنها ليست سعياً شخصياً للنفوذ، بل مسؤولية يتحملها في سبيل استكمال المشروع الذي يتصوره للعراق.
كما أكد السوداني أن القرار منسجم مع استقلال العراق، موضحاً أن البلاد لن تكون ساحة لتكريس النفوذ الأجنبي. وقد شكل هذا التحول صدمة لقطاعات واسعة من الرأي العام العراقي، كما جاء مفاجئاً للولايات المتحدة، ولا سيما أن السوداني كان قد تعهد مراراً بتقليص نفوذ الميليشيات واستعادة سلطة الدولة.
وبهذا التحالف، قفزت كتلة "الإطار التنسيقي" البرلمانية من 119 مقعداً إلى 165 مقعداً، مما منحها ثقلاً سياسياً غير مسبوق وأعاد تشكيل ميزان القوى داخل البرلمان. ولم يكن هذا التطور مجرد ترتيب تقني، بل مثّل مؤشراً واضحاً على تعمق الهيمنة السياسية للقوى المتحالفة مع طهران في المرحلة المقبلة.
ويزيد العدد الإجمالي للمقاعد المرتبطة مباشرة بالفصائل المسلحة الآن عن ستة وستين مقعداً، أي ما يزيد على ثلث الكتلة الحاكمة، الأمر الذي يؤكد مدى اتساع نفوذ الميليشيات داخل البرلمان. ولا يشمل هذا الرقم الأحزاب التقليدية المتحالفة مع "إيران"، بل يضم ايضاً التحالفات الصاعدة مثل "تحالف خدامات" وتجمع "بلاد سومر"، وهو ما يعكس مدى تغلغل الجماعات المسلحة في صلب العملية التشريعية. ومع انتقال هذه الفصائل إلى معسكر المالكي، يزداد تماسك الكتلة الموالية لإيران، مما يعزز قبضتها على مسار صنع القرار السياسي.
والأهم من ذلك أن "الإطار التنسيقي" أعلن نفسه في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر أكبر كتلة برلمانية بعد اندماج تحالف "إعادة الإعمار والتنمية" بقيادة السوداني مع مجموعات شيعية أخرى ونواب مستقلين . وهذا التطور يضع "الإطار التنسيقي" في موقع حاسم لترشيح رئيس الوزراء المقبل وتشكيل الحكومة الجديدة.
وعلى الرغم من أن هذا الواقع يعمق نفوذ الجهات الفاعلة المتحالفة مع إيران، فإنه يفتح في الوقت ذاته نافذة للكتل السنية والكردية للتفاوض حول الوزارات الأساسية وتوجهات السياسة العامة، ومواجهة الإجراءات التي تعزز سيطرة الميليشيات، مما يجعل التفاوض بين الطوائف عاملاً مركزياً في كيفية توزيع السلطة فعلياً. وستتيح هذه المرحلة من المفاوضات للقوى غير الشيعية فرصة للتأثير في أولويات الحكومة، وتأمين حقائب وزارية مؤثرة، وتعزيز الرقابة التشريعية. وبحسب تقرير "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات"، لا يوجد تحالف واحد يتمتع بأغلبية، الأمر الذي يجعل المفاوضات بين الطوائف عاملاً حاسماً في تحقيق التوازن بين السلطة المؤسسية وتوجهات السياسة.
يكشف هذا التداخل بين الأحزاب والفصائل المسلحة مدى ترسخ الميليشيات في البنية السياسية العراقية. وقد تتعدد الأسماء، إلا أن الحقيقة الجوهرية تبقى أن أغلب الفاعلين الرئيسيين يتحركون ضمن فلك جدول أعمال طهران الإقليمي، الذي يسعى إلى توسيع النفوذ السياسي، وتوجيه صنع القرار الاستراتيجي، وضمان السيطرة على المؤسسات الأمنية والاقتصادية في العراق. ويقود هذا التمركز لمزيد من اختلال ميزان القوى لمصلحة الجهات التي تعمل خارج سلطة الدولة، وهو ما يضعف المؤسسات بصورة منهجية ويقوض أسس الحكم والمساءلة والسيادة الوطنية.
ولا تقتصر تداعيات هذا التوسع في تمثيل الميليشيات داخل البرلمان على المناورات السياسية، بل تمس جوهر الدولة العراقية. فمع دخول عشرات النواب المرتبطين بفصائل مسلحة إلى المؤسسة التشريعية، تتراجع فرص بناء دولة مدنية، فيما تصبح الأدوات التشريعية التي يفترض أن تعزز المؤسسات العامة عرضة لإعادة توظيفها في اتجاه إضفاء الشرعية على هياكل الميليشيات وتمويلها، تحت عناوين مثل "دعم قوات الحشد الشعبي" أو "تمويل المقاومة".
ستوفر الحصانة البرلمانية غطاء يحمي المشرعين الموالين للميليشيات من المساءلة عن الانتهاكات السابقة، بما في ذلك الخطف والاغتيالات وقمع حركات الاحتجاج. وفي المقابل، ستواجه قوات الأمن الحكومية، بما فيها الجيش الوطني والشرطة، عملية إضعاف ممنهجة لضمان بقاء الميليشيات الجهة المسلحة الأكثر نفوذاً في البلاد. وبذلك سيجري تفكيك احتكار الدولة لاستخدام القوة، وهو الاحتكار الذي يفترض أن يكون حكراً على المؤسسات الرسمية، ليعاد توزيعه عملياً على هياكل موازية ترتبط برعاة خارجيين.
وعلى الصعيد الدولي، تشكل هذه النتائج الانتخابية تحدياً بارزاً. إذ باتت الحكومات، ولا سيما الولايات المتحدة، مُطالبة بتحديد كيفية التعامل مع إدارة عراقية يتمتع فيها إفراد مرتبطون بجهات مصنفة أميركياً كـ "منظمات إرهابية" بنفوذ برلماني واسع. وستصبح الاتفاقات الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية أكثر تعقيداً، إذ لا يمكن للحلفاء الأجانب العمل بسلاسة مع حكومة تتشكل كتلتها التشريعية من فاعلين مرتبطين بـ"الميليشيات" التي تعمل خارج سيطرة الدولة وتستهدف في بعض الحالات مصالح هؤلاء الشركاء الأجانب أنفسهم.
وفي الواقع، ستكون تداعيات هذه الانتخابات محسوسة في مختلف أنحاء المنطقة. فقد حققت طهران انتصاراً مؤسسياً لم يُنجز عبر الدبابات أو الصواريخ التي تطلقها وكلاؤها، بل عبر صناديق الاقتراع نفسها. وعلى مدى سنوات، اعتمدت إستراتيجية إيران في العراق على زرع حلفائها داخل مؤسسات الدولة، بما يسمح بإعادة تشكيل بنية الحكم من الداخل. وتشكل انتخابات عام 2025 ذروة هذا المسار؛ إذ أن الجماعات المسلحة التي كانت تعمل في الظل أصبحت اليوم تمارس التشريع علناً، متدثرة بعباءة الشرعية الديمقراطية.
ولا يمكن فصل هذه النتيجة عن الانسحاب الجماعي لـ"للتيار الصدري"، الذي خلّف فراغاً سياسياً سارعت الميليشيات لملئه. لقد كان الهدف المعلن لمقاطعة الصدريين هو الاحتجاج على الفساد واختلال النظام السياسي، لكن أثرها العملي تجسد في منح الفصائل الموالية لإيران نفوذاً غير مسبوق. ومع غياب قوة موازِنة قادرة على تعبئة ملايين الناخبين، أصبحت الساحة الانتخابية غير متكافئة، ما سمح لأقلية تتمتع بشبكات تنظيمية منضبطة وموارد مالية واسعة أن تبسط سيطرتها على المشهد السياسي.
أما السؤال الأوسع الذي يواجه العراقيين الآن فواضح لا لبس فيه: إلى أين يتجه البلد؟ وتكمن الإجابة في هذه التحالفات والأرقام، التي لا تشير إلى تحول ديمقراطي، بل لمرحلة جديدة من الاحتلال الداخلي، ليس هذه المرة من خلال الجيوش الأجنبية، بل من خلال الميليشيات التي تجلس تحت قبة البرلمان وتحميها مظلة الشرعية الانتخابية.
بالنسبة لكثير من العراقيين الذين حلموا بدولة قائمة على سيادة القانون ومؤسسات قوية، تبدو انتخابات 2025 بمثابة إنتكاسة تاريخية. فالبرلمان، الذي كان يُنظر إليه في السابق على أنه ساحة للتمثيل الوطني، يواجه خطر التحول لساحة للصراعات الإقليمية على السلطة. ويقترب البلد من نموذج تكون فيه الدولة موجودة شكلياً، ولكنها غير فعالة، عالقة بين جماعات مسلحة متنافسة ولاءها يتجاوز حدود العراق.
لكن قصة العراق لم تنته بعد، فلا يزال ثمة مخزون من الوعي الوطني بين المواطنين والنشطاء والمثقفين والقوى السياسية التي ترفض تطبيع حكم السلاح. والصراع القادم ليس صراعاً تقليدياً بين الأحزاب والبرامج السياسية، بل مواجهة بين فكرة الدولة ذات السيادة ومشروع هيمنة الميليشيات الدائمة. ويقف مستقبل العراق الآن على ميزان دقيق، معلقا بين رؤيتين: إحداهما وطنية والأخرى انقسامية.