
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4105
نحو سياسة أمريكية أكثر شمولاً (وفعالية) تجاه اليمن

يشكّل الحوثيون خطراً متزايداً على مصالح الولايات المتحدة ودول الخليج مقارنة بما كانوا عليه قبل حرب غزة، لذا يتعين على واشنطن وشركائها الإقليميين اعتماد نهج أكثر واقعية ومناسب للظروف الراهنة.
تتسم سياسة الولايات المتحدة تجاه اليمن بالارتباك والتذبذب. فبعد أن أوقفت الهدنة التي توسطت فيها سلطنة عمان حملةً أمريكية استمرت قرابة شهرين ضد الحوثيين في أيار/مايو، سرعان ما حولت إدارة ترامب اهتمامها إلى أولويات أخرى، رغم أن اسرائيل كثّفت حملتها الجوية للحد من هجمات الصواريخ والطائرات المسيرة التي يشنها التنظيم. وإذا كان الماضي دليلاً على المستقبل، فإن مثل هذه العمليات الجوية لن تردع الحوثيين أو تقضي عليهم، بل قد تصب في مصلحتهم.
إن رغبة الإدارة في الابتعاد عن اليمن مفهومة ظاهرياً، لكنها قصيرة النظر وربما تنطوي على مخاطر كبيرة. قد يكون الرئيس ترامب قد أنهى اهتمامه بالحوثيين، غير أن الحوثيين لم ينهوا عداءهم للولايات المتحدة أو حلفائها. والمطلوب سياسة أكثر شمولية تجاه اليمن، تُبنى بالتنسيق مع شركائها الخليج.
التحولات في سياسة الولايات المتحدة.
تبدل نهج واشنطن تجاه اليمن بشكل ملحوظ خلال السنوات القليلة الماضية. ففي بداية إدارة بايدن، تقدّمت الدبلوماسية إلى الواجهة بهدف إنهاء الحرب الأهلية في البلاد ووضع حد للأعمال العدائية التي استدرجت تحالفاً إقليمياً تقوده السعودية. وشمل ذلك التراجع عن قرار الرئيس ترامب في ولايته الأولى بتصنيف الحوثيين منظمةً إرهابية أجنبية (FTO)، في خطوة هدفت إلى تجنب التداعيات الإنسانية المحتملة ودعم جهود الوساطة التي تقودها الأمم المتحدة. كما مارست الإدارة ضغوطاً إضافية على الرياض لإنهاء الحرب من خلال تعليق مبيعات الأسلحة الهجومية الأمريكية إلى المملكة.
لكن الظروف تغيرت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 عندما شن الحوثيون حملة منسقة ضد سفن الشحن التجاري في البحر الأحمر بذريعة دعم الفلسطينيين خلال حرب غزة. عندها، عدلت إدارة بايدن موقفها إذ استأنفت بيع الأسلحة الهجومية للسعوديين، وأعادت إدراج الحوثيين على قائمة المنظمات الإرهابية العالمية، وشنت ضربات محدودة على أهداف عسكرية داخل اليمن، وجمدت المسار الدبلوماسي. وفي نهاية المطاف، أوضحت الإدارة أنه إذا استمرت الحملة ضد السفن ، فإن الولايات المتحدة ستعارض أي اتفاق قد يتيح للحوثيين جني أي مكاسب مالية.
عندما تولى الرئيس ترامب منصبه مجدداً هذا العام، تبنى نهجاً أكثر صرامة، على الأقل في بدايته. ففي 4 أذار/مارس، أعادت الإدارة إدراج الحوثيين على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية (FTO)، وهو تصنيف أشدّ صرامة يجرّم أي دعم مادي لهم. وفي 15 أذار/مارس، أطلقت عملية "راوف رايدر" (Rough Rider)، وهي حملة جوية مكثفة ومستمرة تهدف إلى استعادة حرية الملاحة، واستهداف العناصر العسكرية الحوثية، وتقويض قدرات الجماعة.
لكن في 6 أيار/مايو، انتهت العملية فجأة كما بدأت، منهية حملة باهظة التكاليف ومفتوحة على احتمالات متزايدة، كانت تستنزف الموارد اللازمة في جبهات أخرى. وتشير المحادثات مع مسؤولين في الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً في عدن إلى أن هذا التوقف كان مفاجئاً، وكشف عن محدودية قدرة الحوثيين على التحرك حتى في ظل هجوم أمريكي مباشر.
أما بالنسبة للسعودية والإمارات، وهما الطرفان الفاعلان الرئيسيان في الخليج المعنيان بالملف اليمني، فقد عزز القرار التصور القائم على عدم موثوقية السياسة الأمريكية وتقلبها. وفي المقابل، خرج الحوثيون منهكين لكن غير مهزومين، حيث روج قادتهم لبقائهم بعد الهجوم العسكري الأمريكي باعتباره انتصاراً سياسياً ومعنوياً، بل ربما شعروا بالارتياح لخروج واشنطن من المشهد بما يتيح لهم إعادة تنظيم صفوفهم وتركيز جهودهم على مهاجمة إسرائيل.
يبدو أن النهج الحالي للإدارة الأمريكية يقتصر على إبقاء الحوثيين تحت السيطرة من بعيد، من دون انخراط جاد في الملف. فقد حافظت واشنطن على الهدنة الثنائية، مع ممارسة الضغط من خلال آلية تصنيف المنظمات الإرهابية الأجنبية (FTO)، إلا أن غياب مبعوث أمريكي خاص في اليمن يشير بوضوح إلى تراجع أولوية القضية في أجندتها. علاوة على ذلك، أنهت الإدارة الأمريكية تقريباً جميع برامج المساعدات الخارجية الموجهة إلى اليمن، بما في ذلك تلك المخصصة للمناطق الخاضعة للحكومة الشرعية التي تواجه توسع الحوثيين.
مجموعة مشاكل متطورة
قبل تصعيد الحوثيين خلال حرب غزة، كانت السعودية وسلطنة عمان والأمم المتحدة قد أحرزت تقدّماً ملموساً نحو التوصل إلى اتفاق لخارطة طريق في اليمن، بدعم كامل من الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن. وقد تضمنت هذه الخارطة وقفاً لإطلاق النار، وإجراءات لبناء الثقة الاقتصادية، وبدء عملية سياسية تهدف إلى إنهاء الحرب الأهلية. قامت الفكرة الأساسية على احتواء الحوثيين عبر الدبلوماسية، وقبولهم كجزء من النظام السياسي اليمني، وإشراكهم في اتفاق يحظى بدعم دولي. وفي إطار هذه العملية، سعت السعودية والولايات المتحدة إلى المزج بين الحوافز والضغوط لإبعاد الجماعة عن راعيها الأكبر، إيران، وربطها بدول الخليج العربي بدلاً من ذلك. ورغم أن المسؤولين الحكوميين اليمنيين كانت لديهم تحفظات جدية، فإن داعمهم الرئيسي في الرياض كان مصمماً على إنهاء حرب طويلة ودامية، ما جعل الاتفاق يبدو قريب المنال.
اليوم، بات التحدي الذي يشكله الحوثيون أكثر خطورة وتعقيداً. فبعد أن كان تركيز الجماعة ينصب أساساً على الداخل اليمني، أصبحت الآن تُركز على تعزيز نفوذها الإقليمي على المدى الطويل. إلى جانب تعطيل الشحن التجاري في ممر البحر الأحمر ــ الذي يمر عبره نحو 12 في المئة من التجارة العالمية ــ أثبت الحوثيون قدرتهم على مهاجمة إسرائيل من مسافة تتجاوز ألفي كيلومتر. وقد منحتهم هذه المواجهة تحديدا شعبية إقليمية أوسع، وعدداً أكبر من المجندين، فضلاً عن خبرة عسكرية لا تُقدر بثمن. وعلى الصعيد المحلي، صبّت هذه المعركة في مصلحتهم عموماً، إذ يؤيد كثير من السكان استعداد الجماعة لمواجهة إسرائيل. وحتى أولئك الذين قد يعترضون على تفضيل الحوثيين للأهداف الإقليمية على حساب الاحتياجات المحلية، لا يجرؤون على المجاهرة بمواقفهم في ظل حملة قمع وحشية مدفوعة بالبارانويا ضد كل من تصفه الجماعة بالجاسوس.
بوجه عام، عززت تجربة العامين الماضيين الطابع الأيديولوجي ذي النزعة الدينية والتوسعية في حركة الحوثيين، في حين جرى تهميش العناصر القومية الأكثر براغماتية. وقد أدلى زعيم الحركة، عبد الملك الحوثي، بسلسلة من التصريحات يصور فيها نفسه باعتباره رأس الحربة للتغيير الإقليمي، في مواجهة ما يصفه بـ"الهيمنة" الغربية/الإسرائيلية والحكومات العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة.
وسيكون من الصعب للغاية إعادة هذا "الجني" إلى القمقم. فرغم أن الحوثيين وعدوا بإنهاء حملتهم الصاروخية وهجماتهم بالطائرات المسيرة إذا توصلت إسرائيل والأطراف الأخرى إلى وقفٍ لإطلاق النار في غزة ورفع الحصار عنها، إلا أنّه لا يوجد ما يضمن زوال التهديد في البحر الأحمر على المدى البعيد. والآن، بعد أن اختبر الحوثيون قوة هذا النفوذ واستفادوا منه، من العسير تصوّر أنهم سيتخلون عنه. ومن المرجح أن يعاودوا استخدامه، سواء رداً على اندلاع نزاع جديد بين إسرائيل والفلسطينيين، أو كوسيلة لانتزاع تنازلات مستقبلية من السعودية أو من دول أخرى.
علاوة على ذلك، ورغم أن الحوثيين ما زالوا يعتمدون على إيران في بعض القدرات المتقدمة مثل الصواريخ الباليستية متوسطة المدى والصواريخ المضادة للسفن، فإنهم يعملون بسرعة على توسيع إنتاجهم المحلي وتنويع سلاسل التوريد الخاصة بهم لتشمل مكونات صينية مزدوجة الاستخدام. كما يسعون إلى تطوير علاقاتهم مع حركة "الشباب" المسلحة عبر خليج عدن، من خلال تزويدها بالأسلحة مقابل تكثيف أعمال القرصنة وتعطيل الملاحة البحرية قبالة السواحل الصومالية. بالإضافة إلى ذلك، أسهمت حملة البحر الأحمر في توطيد العلاقة بين موسكو وبكين، حيث سُمح لسفنهما بالمرور دون مضايقة إلى حد كبير. وبحسب ما ورد، أرسلت روسيا مستشارين عسكريين إلى الحديدة التي يسيطر عليها الحوثيون، بل ودرست تزويدهم بصواريخ ومعدات عسكرية أخرى قبل أن تتدخل الرياض وواشنطن العام الماضي لوقف ذلك. وباختصار، يسعى الحوثيون إلى بناء نظام بيئي شبه معزول عن العقوبات الأمريكية، يتوحد حول رغبة مشتركة في تحدي النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
ومما يثير القلق بشكل خاص التهديد المتصاعد الذي يشكله الحوثيون على دول الخليج الأخرى، وخاصة المملكة العربية السعودية التي تقف في قلب خطط إقليمية طموحة للانتقال من اقتصاد قائم على النفط إلى مسار تحول اقتصادي واجتماعي مستقر (ولو بطابع استبدادي). وقد أكدت إدارة ترامب مراراً اهتمامها بمساعدة هذه الدول على تحقيق الاستقرار والاندماج في الشرق الأوسط، بما يعزز النفوذ الأمريكي ويدعم ازدهار واشنطن. ومع ذلك، فإن القدرات والطموحات المتنامية للحوثيين تمثل تهديداً مباشراً لهذا الهدف المركزي للولايات المتحدة. وقد توصلت الجماعة إلى قناعة بأن الرياض تسعى إلى التهدئة بأي ثمن، مما يجعل المملكة أكثر عرضة لمطالب متزايدة. كما أثار ذلك قلق العديد من اليمنيين المناهضين للحوثيين، الذين يخشون من أن السعودية لن توظف بعد الآن سلاحها الجوي للدفاع عن الخطوط الأمامية، مثل المناطق الخاضعة للحكومة في محافظة مأرب.
توصيات سياسية
بات النهج الأمريكي الحالي تجاه اليمن غير ملائم للواقع. فالحوثيون يشكلون اليوم خطراً أكبر على مصالح الولايات المتحدة مما كانوا عليه قبل حرب غزة. ورغم أنهم قد يوفون بوعدهم بوقف الهجمات في البحر الأحمر إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، إلا أن استدامة هذا التوقف تبقى موضع شك، ويبدو أنهم يميلون إلى مواصلة التصعيد على جبهات أخرى. وفي الوقت نفسه، قد تأخذ معركتهم مع إسرائيل مساراً أكثر خطورة، كما لوحوا بذلك عبر تهديد صادرات الطاقة الحيوية في شمال البحر الأحمر، حين استهدفوا سفينة مرتبطة بإسرائيل بالقرب من ينبع في وقت سابق من هذا الشهر. قبل أن تتطور الأزمة إلى ما هو أسوأ، يتعين على إدارة ترامب وضع سياسة أكثر شمولية تجاه اليمن بالتنسيق مع شركاء الخليج.
وتتمثل الخطوة الأولى في تشكيل "فريق لليمن" لتحديث السياسة الأمريكية داخلياً، والشروع في مناقشة الخيارات على مستوى رفيع مع المسؤولين الخليجيين. وسواء كان الخيار هو الاحتواء، أو المواجهة، أو تسويات محدثة، أو مزيجاً من هذه الأدوات، فإن الخطوات التالية ستكون حاسمة:
- التعاون مع الشركاء اليمنيين والخليجيين لإعادة قضية التهديد العسكري إلى الطاولة: يجب على الأقل دعم القوات المؤيدة للحكومة بما يكفي للحفاظ على الخطوط الأمامية الحالية وشن هجمات مضادة فعالة. ويستلزم ذلك استمرار الدعم الجوي من التحالف بقيادة السعودية، وخصوصاً في مأرب وعلى طول ساحل البحر الأحمر.
- تقديم ضمانات أمنية واضحة للمملكة العربية السعودية والإمارات: ويشمل ذلك مبيعات أسلحة إضافية، وتعزيز برامج التدريب والتمارين العسكرية المشتركة، والالتزام بمؤازرتهما دفاعياً في حال شن الحوثيون هجمات واسعة النطاق.
- تقديم دعم منسق لإصلاح مؤسسات الحكومة اليمنية: إذ إن الحكومة المعترف بها دولياً، ولا سيما جهازها التنفيذي، تعاني الانقسام وضعف الفاعلية، فيما تباطأت مساعي الإصلاح جزئياً نتيجة دعم السعودية والإمارات لفصائل متنافسة. ويمكن لكبار المسؤولين الأمريكيين أن يلعبوا دوراً محورياً في حشد شركاء الخليج حول رؤية استراتيجية واحدة لدعم حكومة مُصلَحة وقابلة للحياة.
- تكثيف الجهود لاستهداف أسلحة الحوثيين ومصادر تمويلهم: ويستلزم ذلك العمل مع سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة ودول أخرى لتعزيز قدرات اعتراض الأسلحة، ووقف التدفقات المالية غير المشروعة إلى الجماعة.
- إعادة إطلاق عملية سياسية مخصصة تستكشف مسارات الخروج الممكنة، وصولاً إلى تسوية سياسية محدثة، تتضمن حزمة متكاملة لإعادة الإعمار والتنمية، مدعومة من دول الخليج.
مع ذلك، فإن أياً من هذه الخيارات لن يحقق أثراً ملموساً إذا استمرت الغارات الجوية الإسرائيلية الأحادية. وبناءً عليه، فإن اتفاق الولايات المتحدة وشركائها الخليجيين على خطة معدَّلة يستلزم من واشنطن اتخاذ الخطوات الكفيلة بضمان موافقة إسرائيل. وفي ظل تزايد إحباط دول الخليج من العمل العسكري الأحادي الذي تنفّذه إسرائيل في المنطقة، ومن تراجع موثوقية الضمانات الأمنية الأمريكية، يُمثل التعاون في ملف اليمن فرصة مهمة لبناء الثقة وتعزيز الشراكة على نحو جوهري.