
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4110
بعد عملية "العزم المتأصل": مستقبل العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة والعراق

سواء اختارت واشنطن الانسحاب الكامل، أوالإبقاء على وجود محدود في إقليم كردستان، أو التحول جذرياً نحو مبادرات الأعمال والطاقة، فإن عليها أن تراعي المخاطر المحتملة وتُركّز على المصالح الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة.
يشهد هذا الشهر الإعلان الرسمي عن انتهاء عملية "العزم المتأصل" ، وهي المهمة التي أطلقتها إدارة أوباما وشركاؤها في التحالف الدولي عام 2014 بهدف صد هجوم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق. ومن الناحية العملية، لا تزال الخطوات النهائية لإنهاء المهمة غير واضحة حتى الآن، غير أن الافتراض السائد هو أن جميع القوات الأمريكية المتبقية ستغادر العراق نهائياً بحلول نهاية عام 2026. ويثير ذلك تساؤلات حول مستقبل العلاقات الثنائية والتهديدات المتبقية التي يشكلها تنظيم "داعش". وعلى الرغم من الخلافات بشأن دور إيران في العراق وقضايا أخرى، تسعى كل من واشنطن وبغداد إلى تعزيز علاقاتهما، بما في ذلك على الجانب الأمني. لكن يبقى السؤال المطروح: كيف ينبغي ترتيب هذا الجانب في ظل الانسحاب المرتقب؟
تحول المهام والمنظورات والتهديدات
بعد انتشار تنظيم "داعش" في العراق (ثم سوريا) قبل عقد من الزمن، قامت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بتفكيك معظم نفوذه الإقليمي، وإعادة بناء مؤسسات الأمن العراقية، واستعادة قدر من الاستقرار. وبحلول عام 2017، انتهت العمليات القتالية الكبرى ضد التنظيم، ما دفع التحالف إلى تحويل تركيزه على العمل مع الشركاء العراقيين والسوريين لمحاربة فلول "داعش" ومواصلة دعم استقرار السكان المتضررين.
في أيلول/سبتمبر الماضي، أعلنت إدارة بايدن أن عملية "العزم المتأصل" ستنتهي رسميا في العراق في غضون عام، ووصفت هذا التوجه بأنه انتقال تدريجي يتكون من مرحلتين، لا مجرد انسحاب. وقد صيغت الخطة على النحو التالي: أولا، إغلاق القواعد العسكرية للتحالف في العراق بحلول أيلول/سبتمبر 2025؛ ثانيا، الإبقاء على وجود أمريكي جزئي ومنفرد في البلاد على الأقل حتى عام 2026 لدعم العمليات ضد تنظيم "داعش" في سوريا المجاورة. ومع ذلك، تركت الخطة مجالا واسعا للمناورة، إلا أن عشرات الهجمات التي شنتها الميليشيات العراقية على القوات الأمريكيةأضعفت رغبة الإدارة في تحديد موعد نهائي أو تسريع وتيرة الانسحاب.
مع تغير طبيعة مهمة عملية "العزم المتأصل"، تراجعت التطورات في بغداد تدريجياً عن الصفحات الأولى في واشنطن، حيث غالباً ما جرى التعامل مع سياسة العراق على أنها قضية ثانوية ضمن الاستراتيجية الأوسع تجاه إيران. واليوم، يجادل بعض المسؤولين الأمريكيين بأن الانسحاب الكامل قد يؤدي إلى تكرار دورة "الانتشار، فالانسحاب، فالعودة السريعة"، في حين يرى آخرون أنه لا مبرر لبقاء مفتوح المدى. وتثير التخفيضات الكبيرة في الإنفاق التي أجرتها إدارة ترامب في مختلف مؤسسات الحكومة مزيداً من عدم اليقين، ولا سيما فيما يتعلق بكيفية تمويل مهمة مكافحة "داعش" وغيرها من الجهود الأمريكية الحاسمة على المدى الطويل.
وفي الوقت نفسه، تواجه بغداد بدورها تحديات في تحقيق التوازن. إذ يرى القادة العراقيون أن نهاية عملية "العزم المتأصل" فرصة لاستعادة السيادة "الكاملة"، وتنويع علاقاتهم مع القوى الأجنبية الأخرى، وجذب المزيد من الاستثمارات من الخارج. ومع ذلك، تتزايد صعوبة تحقيق هذه الأهداف بفعل النفوذ الراسخ للجماعات والأفراد المرتبطين بإيران، والمُدرَجة أسماؤهم على القوائم الأمريكية للإرهاب، كما أنهم يشكلون القوة المهيمنة داخل "قوات الحشد الشعبي". أما التحدي الأبرز أمام بغداد، فهو كيفية إعادة تعريف علاقاتها مع الولايات المتحدة خارج إطار المعركة ضد تنظيم "داعش"، مع تجنب التصورات الأمريكية بأنها مجرد وكيل لإيران، فضلاً عن التصورات المحلية التي تعتبرها منحازة أو خاضعة لواشنطن.
يبدو أن الرئيس ترامب يميل إلى خيار الانسحاب الكامل من سوريا - على غرار ما سعى إليه خلال ولايته الأولى - وقد أثار مراراً ردود فعل شعبية ضد ما يُسمى بـ"الحروب الأبدية"، ولذلك قد تحاول الإدارة المضي في هذا الاتجاه. ومع ذلك، فإن خطر عودة تنظيم "داعش" - لا سيما في سوريا المجاورة -يقلق العديد من المسؤولين الأمريكيين وقد يجعل ترامب يتردد.
على سبيل المثال، تولت "قوات سوريا الديمقراطية" ذات القيادة الكردية والمدعومة من قبل الولايات المتحدة، منذ سنوات مهمة مراقبة سجون "داعش" ومعسكرات الاعتقال في الشمال الشرقي، والتي تضم حالياً 8950 مقاتلاً (معظمهم من الأجانب) وحوالي 30 ألف من أفراد عائلاتهم غير المقاتلين (يعتبر الكثير منهم أيضاً خطراً بسبب دورهم الفعلي أو المحتمل في أنشطة التطرف والتجنيد والدعم المادي، سواء داخل سوريا أو في بلدانهم الأصلية). ورغم تراجع وتيرة هجمات "داعش" حالياً، لا تزال هناك مخاوف بسبب بطء عملية إعادة هؤلاء المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم، وعدم دعم استقرار الوضع السياسي العام في سوريا، وحداثة العلاقة الأمريكية مع الحكومة الانتقالية بقيادة الشرع. وقد قررت الولايات المتحدة في النهاية الإبقاء على حوالي 1400 جندي داخل سوريا لمعالجة المخاوف بشأن تنظيم "داعش"، غير أن عملياتها ما زالت تعتمد بدرجة كبيرة على الأفراد والبنية التحتية الموجودة في العراق.
ومن بين المخاوف الأمريكية الرئيسية الأخرى تنامي نفوذ طهران في بغداد، وهي قضية تعاظمت إلى درجة أن سياسة واشنطن تجاه العراق باتت في كثير من الأحيان امتداداً طبيعياً لسياستها تجاه إيران. لا شك أن قدرات طهران على بسط نفوذها تلقت ضربات موجعة في لبنان وغزة وسوريا خلال العامين الماضيين، غير أن وكلاءها ما زالوا يتمتعون بنفوذ قوى في العراق. ويخشى العديد من المسؤولين أن يؤدي انسحاب الولايات المتحدة إلى تشجيع الجمهورية الإسلامية على إعادة ترسيخ نفوذها في المنطقة. أما "قوات الحشد الشعبي"، التي تشكّلت أساساً عام 2014 لمحاربة تنظيم "داعش"، فتقودها اليوم ميليشيات شيعية نافذة وفصائل سياسية وثيقة الصلة بإيران.، وقد كثف بعض المشرعين العراقيين جهودهم لإضفاء الشرعية على هذه الجماعات. ولحسن الحظ، جرى سحب مشروع قانون كان يهدف إلى دمجها بشكل أعمق في القطاع الأمني في تموز/يوليو الماضي استجابةً للضغوط الأمريكية. ومع ذلك، تبقى علاقاته "الحشد الشعبي" المتينة بطهران نقطة ضعف كبيرة في العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق.
ومن المرجح أن تبرز قضية إيران في الانتخابات البرلمانية المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر. ويعتقد العديد من المراقبين أن المرشح الأوفر حظاً هو رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، الذي وصل إلى منصبه بدعم كبير من الجماعات الموالية لإيران، لكنه يُنظر إليه اليوم على نطاق واسع باعتباره براغماتي يميل إلى اعتماد سياسة خارجية أكثر تعددية بدلاً من الارتهان الكامل لإيران. غير أنه إذا خسر السوداني أمام مرشح أكثر قرباً من طهران، فقد يؤدي ذلك إلى توتر أكبر في العلاقات مع الولايات المتحدة.
خيارات السياسة المستقبلية
أياً كان المسار الذي سيختاره المسؤولون الأمريكيون في نهاية المطاف في العراق، ينبغي أن يكون هدفهم الأسمى تعزيز المصالح الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة هناك. إلى جانب الصلة الواضحة بالاستراتيجية الأمريكية تجاه إيران، تتجلى القيمة الاستراتيجية للعراق والمكاسب المحتملة بوضوح في قوته العاملة الكبيرة والمتعلمة، وصادراته النفطية اليومية البالغة حوالي أربعة ملايين برميل - وهي طاقة متنامية تضعه في المرتبة الثانية داخل "أوبك"، بعد المملكة العربية السعودية مباشرة.
سيظل التعاون الأمني - بشكل أو بآخر - محورياً في العلاقات الامريكية -العراقية، حتى لو اقتصر على التحوّط ضد حالة عدم اليقين المستمرة في المنطقة. وهذا التعاون منصوص عليه في اتفاقية الإطار الاستراتيجي الموقّعة عام 2008، ويشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية بشأن التهديدات المشتركة، إلى جانب برامج التدريب والتجهيز لتعزيز القدرات العسكرية العراقية. إن هذه الاستثمارات الأمريكية الهائلة، التي كثيراً ما يُنظر إليها كتكاليف مهدورة - إلى جانب احتمال عودة "داعش" والتحديات المتصاعدة من جانب إيران - تدفع واشنطن إلى التمسك بخيار الإبقاء على وجود أمني فاعل ومؤثر في العراق.
ومع ذلك، هناك حقيقتان أساسيتان تعقّدان عملية صنع القرار لكل من الولايات المتحدة والعراق في هذه القضية: أولاً، من شبه المستحيل إنهاء المهام العسكرية بشكل حاسم، لأن التهديدات التي أُنشئت لمواجهتها نادراً ما تختفي تماماً، كما يثبت استمرار خطر تنظيم "داعش" ؛ ثانياً، يدرك القادة العراقيون أن تمكّن الميليشيات الموالية لإيران من توسيع سلطتها ودفع بغداد نحو نموذج "الاستيلاء على الدولة" على غرار التجربة اللبنانية، سيعرض البلاد لمزيد من العزلة الدولية والعقوبات، ويقوض قدرته على جذب الاستثمارات الغربية الحيوية.
مع أخذ كل هذه التعقيدات في الاعتبار، تتلخص خيارات الولايات المتحدة فيما يلي:
- الانسحاب الكامل. سيترتب على ذلك سحب القوات الأمريكية الخاضعة للقيادة المشتركة (أي قوات "المادة 10") بالكامل، مما قد يقود إلى انسحاب مواز من سوريا وتقليص البصمة العسكرية الأمريكية الأوسع في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن هذا الخيار قد يلبي مطالب السيادة العراقية، إلا أنه قد يفتح المجال أمام ضغوط أكبر من الميليشيات على ما تبقى من العلاقات الثنائية، مع ارتفاع خطر عودة تنظيم "داعش". وقد يدفع هذا التهديد الأخير القوات الأمريكية إلى العودة مجدداً في المستقبل، كما عانت منه الإدارات السابقة بتكلفة باهظة.
- تقليص الوجود الأمريكي مع التركيز على إقليم كردستان: السيناريو الأكثر ترجيحاً يتمثل في الإبقاء على وجود أمريكي أصغر من قوات "المادة 10" داخل العراق، يقتصر على الأدوار الاستشارية ومكافحة الإرهاب، مع الاستمرار في دعم العمليات في سوريا. ويمكن تركيز معظم هذا الوجود في إقليم كردستان، حيث الأوضاع السياسية أكثر مرونة، والتعاون مع القوات الأمريكية أكثر استقراراً منذ فترة طويلة مقارنة ببغداد. وتؤدى أربيل بالفعل دور المركز الفعلي للأنشطة العسكرية الأمريكية، مع وجود قواعد راسخة، ودعم كردي ثابت، وعزلة نسبية عن تهديدات الميليشيات المدعومة من إيران التي تهيمن على بقية العراق. ومع ذلك، فإن التحول شمالاً قد يوتر العلاقات مع بغداد، خاصة إذا رأى المسؤولون أن واشنطن تسعى إلى تجاوز سلطتهم أو تعزيز استقلالية أكبر لكردستان.
- دفع التنمية الاقتصادية والابتعاد عن الاعتماد العسكري: في الوقت الذي قد تُقلص فيه واشنطن وجودها العسكري، يمكن أن تقرر الاعتماد بدرجة أكبر على مبادرات الأعمال والاستثمار في الطاقة. وقد أبدى القادة العراقيون رغبة متزايدة في ترسيخ الشراكة عبر فتح آفاق اقتصادية وتنويع مصادر النمو. وتعكس دعواتهم لجذب الاستثمار الغربي - ولا سيما في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا الخضراء - إدراكهم أن البلاد لا يمكن أن تظل مرتبطة حصراً بإيران أو معتمدة كلياً على النفط. وبالمثل، أبدت شركات النفط الأمريكية الكبرى اهتماماً متنامياً بفرص الطاقة العراقية. ومن منظور استراتيجي، يمكن لهذا النوع من التعاون الاقتصادي العميق أن يتحول من مجرد مكمل للعلاقات الأمنية إلى ركيزة أساسية للاستقرار في حد ذاته - تستفيد منها واشنطن لإعادة تعريف الشراكة مع العراق على أسس أقل عسكرة. ومع ذلك، تبقى هذه المبادرات الاقتصادية عرضة للتعطيل بفعل عدم الاستقرار، سواء من خلال احتمال عودة تنظيم "داعش" أو نتيجة لمزيد من التغلغل الإيراني.
وفي حال تبنت واشنطن السيناريو الثالث، يمكن أن يُنفذ المكون الأمني عبر البعثة العسكرية لحلف "الناتو" (في حال استمرارها)، إلى جانب مكتب التعاون الأمني مع العراق ومكتب الملحق الدفاعي القائمين حالياً. ورغم أن المكتبين الأخيرين يتبعان وزارة الدفاع، إلا أنهما يخضعان قانوناً لسلطة السفير الأمريكي باعتبارهما جزءاً من عمليات وزارة الخارجية بموجب "المادة 22". وبعد انسحاب القيادة العسكرية الأمريكية من العراق عام 2011، تولّت هذه المكاتب - بمئات موظفيها - مسؤوليات واسعة في مجال المساعدة الأمنية، شملت إدارة مجمعات برنامج المبيعات العسكرية الأجنبية (FMS) في القواعد العراقية التي تستضيف آلاف المتعاقدين الأمريكيين المكلفين بتسليم الأسلحة والتدريب. ويمكن لمثل هذا الترتيب أن يوفر على الأقل بعض الوظائف الأمنية الأكثر أهمية للولايات المتحدة في المنطقة، بما في ذلك دعم أي وجود عسكري أمريكي متبقى في سوريا. وبالمقابل، أو بالتوازي مع أي جهود معاد صياغتها في العراق، يمكن للولايات المتحدة أن تعيد توجيه دعم عملياتها في سوريا انطلاقاً من تركيا - كما فعلت في السابق - أو من الأردن، الذي يحتضن بالفعل القوات الأمريكية في "قاعدة التنف".