
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4111
إسرائيل تدفع شركاء السلام العرب إلى حدودهم القصوى

رغم صمود اتفاقيات السلام الإقليمية أمام حرب غزة والأزمات الأخيرة، إلا أن الخطوط الحمراء الواضحة والمتزايدة التي ترسمها العواصم العربية تستدعي الاهتمام الجدي من القدس وواشنطن.
عندما انعقدت القمة الطارئة المشتركة لجامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في قطر هذا الشهر، بدا أن الهدف المعلن هو دعم الجار الخليجي إثر الضربة الإسرائيلية التي استهدفت قادة "حماس" في الدوحة. لكن البيان الصادر في 15 أيلول/سبتمبر ذهب أبعد من ذلك بكثير، إذ خصص جانباً كبيراً للقضية الفلسطينية بدلاً من التركيز على استهداف قطر، وتضمّن قائمة واسعة من الإجراءات الجماعية والفردية التي يمكن للدول السبع والخمسين المشاركة اتخاذها "لوقف الأعمال الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني". فإلى جانب الدعوة إلى المقاطعة والخطوات القانونية وحملة تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة، حثّت الوثيقة الدول العربية الموقعة على اتفاقيات سلام مع إسرائيل على النظر في "مراجعة علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية معها".
بعد نحو عامين من الحرب المدمرة في غزة، لم تعد هذه التحذيرات مفاجئة. لكن التصريحات العلنية العربية بشأن إعادة النظر في اتفاقيات السلام مع إسرائيل ليست جديدة؛ إذ سبق لثلاث من الدول الخمس التي أقامت سلاماً رسمياً مع إسرائيل -مصر والأردن والإمارات - أن ألمحت، قبل وقت طويل من هجوم الدوحة، إلى تفكيرها في إعادة تقييم هذه العلاقات. ورغم أن أياً من هذه الدول لا تبدو قريبة من تجميد أو إلغاء اتفاقيات "وادي عربة" أو "كامب ديفيد" أو "إبراهيم"، إلا أن تصريحات كبار مسؤوليها الأخيرة رسمت خطوطاً حمراء واضحة حيال بعض الممارسات الإسرائيلية التي قد تدفعها في ذلك الاتجاه.
عامان من التوترات المتراكمة
مع اندلاع حرب غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، دعت كل من عمّان والقاهرة وأبو ظبي في البداية إلى إحتواء التصعيد، بدلاً من توجيه انتقادات حادة لإسرائيل أو حتى إدانة هجوم "حماس" الذي أشعل فتيل الصراع. غير أن تزايد أعداد الضحايا الفلسطينيين واستمرار تدفق الصور المأساوية من غزة دفع مواقف هذه الدول إلى التغيّر تدريجياً والانسجام أكثر مع مشاعر الغضب الشعبي التي عمّت الشارع العربي.
فعلى سبيل المثال، نظمت الحكومة المصرية مظاهرات جماهيرية بعد فترة وجيزة من بدء القصف الجوي الإسرائيلي، بينما سمحت السلطات الأردنية بسلسلة من الاحتجاجات الكبيرة قرب السفارة الإسرائيلية المهجورة في عمّان. كما سحب الأردن مبعوثه من تل أبيب في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وغادر أرفع دبلوماسي مصري إسرائيل في أيلول/سبتمبر 2024، في حين رحل السفير البحريني في نيسان/أبريل الماضي. أما الإمارات، فتدرس وفق تقارير إغلاق سفارتها بعد هجوم الدوحة، بينما لم تفتتح المغرب سفارة في إسرائيل أصلاً رغم انضمامها إلى اتفاقيات إبراهيم قبل خمس سنوات.
في الواقع، كان أثر العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة والمنطقة تراكمياً. فبينما شكّلت ضربة الدوحة محطة صادمة، جاءت إجراءات أخرى لتعميق التوتر، من بينها الخطط المعلنة لنقل جزء كبير من سكان غزة "طوعاً" إلى دول أخرى، ومشاريع الاستيطان في منطقة E1 بالضفة الغربية الممتدة بين القدس و"معاليه أدوميم"، والتي قد تقطع عملياً الطريق أمام قيام دولة فلسطينية متواصلة. هذه المقترحات زادت الأجواء المتوترة اشتعالاً، وأطلقت أسابيع من البيانات الغاضبة، وأعادت لأول مرة منذ عقود شبح احتمال تراجع مسار اتفاقيات السلام العربية ـ الإسرائيلية.
العلاقات المتوترة مع الإمارات
ظلت الإمارات حتى وقت قريب بمثابة بقعة ضوء نسبية وسط التوترات الإقليمية، محافظة على أدفأ علاقاتها مع إسرائيل منذ توقيع اتفاقيات إبراهيم عام 2020 وحتى خلال حرب غزة. لكن قبل أيام قليلة من ضربة الدوحة، صرّح مسؤول رفيع في وزارة الخارجية لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل" قائلاً: "سيشكّل الضم خطًا أحمر بالنسبة لحكومتي وسيقضي على فكرة التكامل الإقليمي". وقد فُهم هذا التصريح في البداية كتهديد بالانسحاب من اتفاقيات "إبراهيم". غير أن بيانات إماراتية لاحقة غير منسوبة أشارت إلى أنه إذا مضت إسرائيل قدماً في الضم، فقد تخفض أبو ظبي العلاقات إلى نموذج "السلام البارد" على طراز مصر والأردن بدلاً من قطع العلاقات معها تماماً.
مع ذلك، لا ينبغي أن يشكل هذا التوضيح مصدر ارتياح لكل من القدس وواشنطن، اللتين تسعيان إلى تعميق الاتفاقيات وتوسيعها بضم شركاء جدد لا إلى تخفيض مستواها. وقد زاد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الطين بلة عندما صرّح في 10 أيلول/سبتمبر بأن المسؤولين الإقليميين الذين أدانوا ضربة قطر "ينبغي أن يخجلوا من أنفسهم"، متعهّدًا بمواصلة استهداف حماس في الخارج عند الضرورة، بما في ذلك داخل قطر.
وردت الإمارات باستدعاء نائب السفير الإسرائيلي للاحتجاج على ما وصفته وزارة الخارجية بـ"التصريحات العدائية والاستفزازية"، كما أعلنت حظر مشاركة الشركات الإسرائيلية في معرض دبي الجوي المقرر في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، في خطوة تجسّد ملامح ما قد يكون عليه "السلام البارد". ومع ذلك، تبقى العلاقات الإسرائيلية الإماراتية أفضل نسبيًا مقارنة بالأوضاع المتدهورة مع الأردن ومصر.
صعوبات عبر النهر
لطالما جعل الموقع الجغرافي للأردن وتركيبته السكانية هذا البلد شديد الحساسية تجاه التطورات في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويُقدر أن نحو 60 في المائة من سكان المملكة من أصول فلسطينية، إلا أن الغضب الشعبي يتجاوز هذه الفئة ولا يقتصر عليها. وخلال العام الماضي، فتح رجال من القبائل البدوية النار مرتين عند المعابر الحدودية، كان آخرها في 18 أيلول/سبتمبر وأسفر عن مقتل جنود إسرائيليين. كما انتقدت الملكة رانيا ( وهي من أصول فلسطينية) ووزير الخارجية أيمن الصفدي الحملة الإسرائيلية في غزة منذ 2023، وازدادت حدة تصريحاتهما في الأسابيع الأخيرة مع الإعلان عن خطط الضم والتهجير.
ففي اجتماع وزاري للجامعة العربية مطلع الشهر، دعا الصفدي إلى "عمل عربي جماعي" و"استراتيجية شاملة ـ سياسية واقتصادية وقانونية ودفاعية ـ توظف جميع الأدوات المتاحة لحماية مستقبلنا ومصالحنا". كما حدد "الخط الأحمر" الأردني بوضوح باعتباره "تهجير الفلسطينيين من وطنهم"، والذي قال إن المملكة ستواجهه "بكل قوتها".
تقليدياً، لعب وزراء الخارجية دور "الشرطي السيئ" في العلاقة مع إسرائيل لإتاحة مساحة أوسع للملك لاتخاذ مواقف أكثر اعتدالاً وتصالحاً. لكن مؤخراً، حتى هذا التقسيم الدبلوماسي التقليدي للأدوار بدأ يتلاشى. ففي القمة العربية الإسلامية، انضم الملك عبد الله إلى جوقة المطالبين بإجراءات أكثر صرامة، حاثاً زملاءه على "مراجعة جميع أدوات عملنا المشترك لمواجهة تهديد هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة". وفي رأيه، فإن ضربة الدوحة "دليل على أن التهديد الإسرائيلي لا حدود له. ردنا يجب أن يكون واضحاً وحاسماً ورادعاً. وقد عبّر الملك عن مشاعر مماثلة هذا الأسبوع في الجمعية العامة للأمم المتحدة، منتقداً خطط القدس لـ"إسرائيل الكبرى".
دبابات على الحدود مع رفح
يشهد المسار المصري-الإسرائيلي أخطر تدهور في العلاقات منذ عقود. فمنذ اندلاع حرب غزة، حذّرت القاهرة من أي محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، فيما اتهمت إسرائيل جارتها بتسهيل تهريب السلاح إلى "حماس" وبـ"حبس" الفلسطينيين في القطاع عبر رفض استقبال اللاجئين. وفي أيار/مايو 2024، صعّدت مصر موقفها بانضمامها إلى دعوى "جنوب أفريقيا" ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، ما أثار غضب القدس.
لم تهدأ التوترات في 2025 بل تصاعدت. فقد جدّد وزير الخارجية بدر عبد العاطي هذا الشهر التحذير قائلاً: "التهجير ليس خياراً... ولن نسمح بحدوثه". وزادت ضربة الدوحة من حدة القلق، خصوصاً بعد تصريحات نتنياهو عن مواصلة استهداف "حماس" خارج غزة، الأمر الذي اعتُبر تهديداً غير مباشر لمصر التي استضافت بعض قادة الحركة في إطار جهود الوساطة. وقد حذرت القاهرة لاحقاً من أن أي انتهاك لسيادتها ستكون له "تداعيات كارثية".
وجاء خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في القمة العربية الإسلامية قاسياً بشكل خاص. فقد حذّر إسرائيل من أن مواصلة مسارها الحالي لن تحدّ فقط من فرص اتفاقيات سلام جديدة، بل ستجهض أيضاً "اتفاقيات السلام القائمة". وتأكيداً لهذه النقطة الأخيرة، أشار إلى إسرائيل بـ"العدو" ـ وهي المرة الأولى التي يقوم فيها زعيم مصري بذلك منذ عام 1977 ـ وأشار إلى اقتراح (رفضته الدول العربية الأخرى على ما يبدو) لإنشاء قوة عسكرية عربية موحدة للتعامل بشكل أفضل مع التهديد الإسرائيلي. في الوقت نفسه، يناقش ، كبار المذيعين في التلفزيون الحكومي علناً إمكانية حدوث مواجهة عسكرية، في ما يبدو أنه تهيئة للجمهور للحرب.
إن مثل هذه الخطابات مثيرة للقلق جزئياً لأن سيناء أصبحت شديدة العسكرة في السنوات الأخيرة. فابتداءً من عام 2013، وافقت إسرائيل مراراً على طلبات مصرية لإغراق شبه الجزيرة بالقوات والدبابات والمعدات العسكرية الأخرى، متجاوزة بشكل كبير شروط الملحق الأمني لمعاهدة كامب ديفيد. وقد كان الدافع الأصلي لهذا الترتيب هو المساعدة في محاربة التمرد الإسلامي المتصاعد في سيناء، حيث كانت الأصول والقوى البشرية المصرية الموجودة في المنطقة غير كافية. بحلول عام 2022، تم هزيمة الإرهابيين إلى حد كبير بمساعدة إسرائيلية، لكن القدس لم تضغط قط من أجل العودة إلى شروط المعاهدة الأصلية ـ حتى هذا الأسبوع، عندما طلب نتنياهو من واشنطن التدخل في هذه القضية. في الوقت الحالي، تبقى مئات الدبابات وآلاف الجنود المصريين منتشرين على طول الحدود، ما يزيد من احتمالية نشوب صراع واسع النطاق إذا استمرت التوترات في الارتفاع.
الدور الأمريكي
خلافاً للتوقعات، صمدت جميع اتفاقيات السلام العربية ـ الإسرائيلية الخمس أمام عامين من الحرب المروعة في غزة. هذه هي الأخبار الإيجابية. أما الأخبار السيئة، فهي أن مجموعة من القضايا الشائكة ـ غياب نهاية وشيكة للحرب، وتوسع الأنشطة العسكرية الإسرائيلية عبر المنطقة، والأفكار التي تتداولها أوساط كبار المسؤولين الإسرائيليين حول ضم أراضٍ من الضفة الغربية وتسهيل إعادة توطين سكان غزة ـ تدفع شركاء السلام هؤلاء إلى أقصى حدودهم. إن تعبيرهم عن خطوط حمراء صريحة وتهديداتهم بإجهاض اتفاقيات السلام يجب أن يؤخذ على محمل الجد.
خلال إدارة ترامب الأولى، دفعت واشنطن وشركاؤها العرب إسرائيل أساساً على الاختيار بين الضم والتطبيع. فكانت النتيجة أن اختارت القدس اتفاقيات "إبراهيم"، مدشنة عهداً جديداً من التكامل مع الشرق الأوسط. لقد غيّر هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر نهج إسرائيل، لكن رغبتها في التكامل الإقليمي تبقى ظاهرياً قائمة. من جانبها، استثمرت الولايات المتحدة رأسمالاً دبلوماسياً كبيراً ومليارات الدولارات من المساعدات الخارجية لتعزيز التطبيع، واقامت اطاراً استراتيجياً حقق مكاسب كبيرة للأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي. وبالتالي، فإن التراجع عن هذه الإنجازات أو حتى وقف تآكلها ينبغي أن يشكل أولوية قصوى للإدارة، إذ إن أي انتكاسة في اتفاقيات السلام التي تحققت بشق الأنفس لن تصب في مصلحة أحد.