
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4107
أردوغان في مواجهة حزب الشعب الجمهوري: ما القادم في المعركة السياسية التركية؟

أظهر الرئيس التركي أنه سيستخدم تكتيكات قاسية لقمع حزب المعارضة الشعبي، لكن قراراته المستقبلية قد تظل متأثرة بالاحتجاجات المحلية والعوامل الاقتصادية والجيوسياسية.
في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر، قررت إحدى المحاكم التركية تأجيل النطق بحكمها حتى الرابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر بشأن إمكانية إبطال مؤتمر تشرين الثاني/نوفمبر 2023 الخاص بحزب المعارضة الرئيسي حزب الشعب الجمهوري (CHP)، استناداً إلى اتهامات بالتزوير. وقد يفتح إعلان بطلان المؤتمر الباب أمام الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" للتأثير في قيادة الحزب والدفع بمرشح يفضّله على حساب الرئيس الحالي للحزب، "أوزغور أوزيل". وجاء هذا التأجيل بعد احتجاجات واسعة قادها حزب الشعب الجمهوري في مختلف أنحاء تركيا رفضاً لهذه القضية.
لقد جرى توثيق تراجع تركيا عن مسارها الديمقراطي خلال عهد الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل واسع ومفصّل.. فبحسب تقارير منظمة "فريدوم هاوس" (المعروفة عربياً باسم "بيت الحرية")، كانت تركيا في عام 2010 تُصنَّف في مرتبة قريبة من دول جنوب شرق أوروبا مثل ألبانيا على صعيد الحريات الديمقراطية، لكنها اليوم في مرتبة أدنى أقرب إلى دول الشرق الأوسط مثل العراق.
ورغم هذا التدهور الموثق، فإن الحملة الواسعة التي يشنها "أردوغان" ضد الحزب المعارض الأبرز في البلاد – بالتزامن مع اعتقال عمدة إسطنبول من حزب الشعب الجمهوري والمرشح الرئاسي المحتمل، "إكرم إمام أوغلو"، في التاسع عشر من آذار/مارس – تتسم بحدة لافتة. هذه التطورات تثير تساؤلات جوهرية حول أسباب تكثيف "أردوغان" لحملته القمعية في هذا التوقيت، وأهدافه المقبلة، وما إذا كان حزب الشعب الجمهوري قادراً على البقاء.
العمدة الشعبي في مواجهة الرئيس الأبدي
حقق "رجب طيب أردوغان" الفوز في خمسة عشر استحقاقاً انتخابياً على المستوى الوطني، بما في ذلك بعض الاستفتاءات، منذ توليه منصب رئيس الوزراء في عام 2003. وساعده النمو الاقتصادي القوي بعد وصوله إلى السلطة في بناء قاعدة واسعة من المؤيدين المخلصين. في المقابل، أسهم ضعف المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري، الذي ظلّ على مدى نحو عقدين يحصد حوالي 20% فقط من الأصوات، في تعزيز موقع "أردوغان" بشكل كبير. لكن مع تقلبات الاقتصاد التركي منذ عام 2018، اضطر الرئيس التركي إلى الاعتماد بشكل أكبر على نفوذه داخل اللجان الانتخابية والمؤسسات الحكومية والمحاكم ووسائل الإعلام لإمالة كفة التصويت لصالحه.
شكّل دخول "إمام أوغلو" إلى المشهد السياسي منعطفاً بارزاً بعد فوزه في انتخابات عمدة إسطنبول عام 2019، وتجديد فوزه عام 2024، حيث تمكن هذا السياسي المنتمي إلى حزب الشعب الجمهوري من هزيمة مرشحي الرئيس لمنصب العمدة، رغم ما وفرته سلطة "أردوغان" الحاكمة من مزايا لخصومه. واستطاع "إمام أوغلو"، وهو سياسي اشتراكي ديمقراطي كاريزمي وقريب من الناس، أن يبني تحالفاً واسعاً من الناخبين يفوق تحالف "أردوغان". وبعد فوزه الساحق في عام 2024، بدأ العمدة يلمّح إلى نيته الترشح ضد "أردوغان" في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهو السبب المرجح وراء اعتقاله في آذار/مارس. ويواجه "إمام أوغلو" حالياً تهماً تتراوح بين غسيل الأموال وسوء إدارة العقود، استناداً إلى شهادات شهود مجهولين، ما يبقيه في حالة من الاحتجاز القانوني طالما بقي "أردوغان" في السلطة.
عودة حزب الشعب الجمهوري
اعتقال العمدة لا يحل مشكلة حزب الشعب الجمهوري الأكبر التي تواجه "أردوغان"، وهي النهضة اللافتة لحزب معارض بدا قبل سنوات قليلة وكأنه في النزع الأخير. وبوصفه حزب مؤسس الجمهورية "مصطفى كمال أتاتورك"، تبنى حزب الشعب الجمهوري في القرن العشرين العلمانية والفصل الصارم بين السياسة والدين. وفي السبعينيات، وتحت قيادة الزعيم الكاريزمي "بولنت إجاويت"، تبنى الحزب أيضاً هوية اشتراكية ديمقراطية مؤيدة للطبقة العاملة. لكن شعبيته تراجعت خلال التسعينيات بسبب ضعف القيادة، وتخليه عن قاعدته من الطبقة العاملة، وخسارة الناخبين القوميين لصالح أحزاب أخرى.
في السنوات الأخيرة شهد حزب الشعب الجمهوري نهضة ملحوظة للأسباب التالية:
نجح "إمام أوغلو" في إعادة ربط الحزب بناخبي الطبقة المتوسطة الدنيا والطبقة العاملة، مستعيداً بذلك عنصراً حاسماً من هويته التاريخية، انطلاقاً من إسطنبول، أكبر مدن البلاد ومركزها المالي والصناعي.
استطاع عمدة أنقرة "منصور يافاش"، القادم من خلفية قومية تركية عريقة، إعادة ترسيخ البعد القومي للحزب من قلب العاصمة وثاني أكبر مناطقها الحضرية في الأناضول.
تمكن رئيس الحزب، أوزغور أوزيل، المنحدر من مدينة مانيسا المجاورة لإزمير- ثالث أكبر مدن تركيا الحضرية وأكثرها علمانية – من إحياء الحزب من خلال توحيد أجنحته الأيديولوجية الثلاثة: العلماني، القومي التركي، والاشتراكي الديمقراطي، تحت قيادة واحدة.
وأخيراً، أثبت عمد الحزب الذين يتولون السلطة في أبرز المراكز الحضرية منذ عام 2019 كفاءتهم الإدارية من خلال إطلاق شبكات مترو ومشاريع للنقل العام، وتوسيع البرامج الثقافية والاجتماعية، ما جعل الحزب يُنظر إليه باعتباره حزب الإدارة الرشيدة.
للمرة الأولى منذ عام 2003، أقنعت هذه التطورات مجتمعة الناخبين بأن حزب الشعب الجمهوري قادر على إدارة تركيا بكفاءة، وبأنه أكثر كفاءة من حزب العدالة والتنمية بزعامة "أردوغان". ونتيجة لذلك، يتصدر حزب الشعب الجمهوري استطلاعات الرأي منذ عام 2024، حين هزم خصمه للمرة الأولى في الانتخابات البلدية والمحلية على مستوى البلاد.
خطوات "أردوغان" التالية
برز حزب الشعب الجمهوري بكامل بنيته التنظيمية كتهديد سياسي جدي لـ"أردوغان". وبناءً على ذلك، سيواصل الرئيس مساعيه لقمع الحزب عبر الاستفادة من سيطرته على المحاكم والمؤسسات الوطنية ووسائل الإعلام.
من المتوقع أن يطلق المدعون العامون قضايا إضافية ضد عمد الحزب ومسؤولين آخرين، فيما ستواصل المحاكم عزلهم وسجنهم، مع الدفع ببدائل من داخل الأجنحة المعارضة لإثارة الانقسامات الداخلية. كما يُتوقع أن تُبقي المحاكم على القضايا المرفوعة ضد الحزب وقادته مفتوحة عمداً، ولا سيما تلك الموجهة ضد "إمام أوغلو ".
ويراهن "أردوغان" على أن الزمن في صالحه، وقد أثبت قدرته على تشكيل السردية الإعلامية حول القضايا القضائية. فالمظاهرات الواسعة التي اندلعت احتجاجاً على اعتقال "إمام أوغلو" في آذار/مارس تراجعت منذ ذلك الحين، كما تقلص تقدّم حزب الشعب الجمهوري في استطلاعات الرأي مقابل حزب العدالة والتنمية، وهو ما يعزز قناعته بأن الوقت هو أفضل حليف له.
النتائج المحتملة
من المرجح أن يواصل "أردوغان" جهوده لإنهاك حزب الشعب الجمهوري، لكن مدى الإجراءات التي قد يتخذها يبقى موضع تكهّن، وكذلك قدرة الديمقراطية التركية وأعرق أحزابها السياسية على الصمود. ومن بين النتائج المحتملة:
1. انقسامات داخلية حادة في الحزب
يأمل "أردوغان" أن يستنزف حزب الشعب الجمهوري وقته وطاقته في قضايا محاكم لا نهاية لها، وأن تنغمس فصائله في صراعات داخلية مدمّرة. في هذا السيناريو المثالي بالنسبة له، ستجعل النزاعات الداخلية الحزب يبدو فوضوياً وغير صالح للحكم، مما يمكّن حزب العدالة والتنمية من استعادة تقدمه في الاستطلاعات.
2. صمود الحزب
بعد فترة من الارتباك والفوضى، قد تتوحد فصائل حزب الشعب الجمهوري من جديد تحت رايته الجامعة. ورغم السمية المحتملة للمسؤولين الذين قد تفرضهم المحاكم، فإن هذا السيناريو يبدو معقولاً على المدى المتوسط والطويل.
3. التحول إلى دولة بوليسية شبه مكتملة
يمكن لسيناريو ثالث أن يتمثل في حملة قمعية أعمق ضد الحزب تُشعل احتجاجات جماهيرية أوسع وأكثر استمرارية. وسط هذه الاستجابة الاستبدادية، قد تبدأ تركيا في التشابه مع دولة بوليسية تفرض حظراً طويل الأمد على حرية التعبير والتجمع والتنظيم ووسائل الإعلام. في هذا السياق، قد يفكر "أردوغان" حتى في تأجيل الانتخابات، خاصة إذا فشل الاقتصاد في التعافي قبل الاستحقاق الرئاسي المقبل.
4. معركة استنزاف
إن توقع الخطوات المقبلة المحتملة للرئيس رجب طيب أردوغان يتطلب النظر في الديناميات الهيكلية، وكذلك في القيود التي تحد من حركته. ثمة عوامل عدة تعمل ضده، من أبرزها:
- حجم الطبقة الوسطى في تركيا، التي تميل إلى دعم حزب الشعب الجمهوري إلى حد كبير.
- انتشار منظمات المجتمع المدني، حيث يقف الكثير منها إلى جانب المعارضة.
- عراقة المؤسسات السياسية ومرونتها، فعلى سبيل المثال، يعود تاريخ حزب الشعب الجمهوري إلى أكثر من مئة عام.
- الروابط الثقافية والسياسية العميقة مع أوروبا.
- الاندماج الكامل لتركيا في الأسواق العالمية، وهو العامل الأهم ربما، إذ إن تفاعلات هذه الأسواق مع التطورات تبقى خارج نطاق سيطرة أردوغان.
يبدو أن قرار محكمة أنقرة بتأجيل حكمها بشأن حزب الشعب الجمهوري ورئيسه جاء نتيجة الخوف من اندلاع احتجاجات أوسع، بقدر ما جاء استجابة لردود فعل الأسواق. ولا يبدو أن "أردوغان" قادر على القضاء على حزب الشعب الجمهوري إلا إذا حوّل تركيا إلى دولة بوليسية مكتملة، وهو تطور سيؤدي بلا شك إلى تدمير اقتصاد البلاد.
التداعيات على السياسة الأمريكية
تُظهر استطلاعات الرأي أن ما يقارب ثلثي الأتراك يعتقدون أن "إكرم إمام أوغلو" سُجِن لأسباب سياسية، يبقى الصراع بين "أردوغان" وحزب الشعب الجمهوري مفتوحاً على احتمالات متعددة. وفي النهاية، سيبقى لمواطني تركيا الدور الحاسم في تحديد القيادة المستقبلية لبلادهم.
حرصت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ديمقراطية وجمهورية، على إعطاء الأولوية للعلاقة الاستراتيجية مع تركيا، الحليف الرئيسي في حلف شمال الأطلسي، رغم التراجع الديمقراطي في البلاد. ومن المرجح أن تواصل إدارة "ترامب" هذه السياسة، آخِذةً في الاعتبار وضع تركيا كقوة متوسطة صاعدة في عصر المنافسة بين القوى العظمى.
وبغض النظر عن المسار الذي ستسلكه واشنطن، فإن من الضروري مراقبة التطورات الداخلية التركية عن كثب لما لها من انعكاسات مباشرة على السياسة الخارجية لأنقرة. فقد يدفع تصاعد نفوذ حزب الشعب الجمهوري "أردوغان" إلى العودة لسياسات قومية لتعزيز قاعدته الشعبية، وعلى رأسها القضية الكردية، بما في ذلك تشديد موقف أنقرة من التعاون الأمريكي مع قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية. وفي سيناريو آخر، قد يختار "أردوغان" التحالف مع إدارة "ترامب" بشأن سوريا وقضايا إقليمية ودولية أخرى لتلميع صورته كرجل قوي، بينما يواصل في الداخل تشديد القمع على حزب الشعب الجمهوري.