
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4116
انعكاسات استئناف تدفق النفط عبر خط أنابيب العراق - تركيا على مسار العلاقات الأمريكية - العراقية- التركية

الفوائد الاقتصادية والاستراتيجية المحتملة لإعادة فتح خط أنابيب شمال العراق واضحة، غير أن الاتفاق لا يزال يواجه عقبات بيروقراطية وسياسية وأمنية قبل أن تستأنف الصادرات بشكل جدي.
بعد توقف دام أكثر من عامين، استؤنف تدفق النفط الخام من إقليم كردستان العراق إلى محطة التصدير التركية في جيهان. وجاءت إعادة فتح "خط أنابيب العراق وتركيا" (ITP) في أواخر الشهر الماضي إثر اتفاق طال انتظاره بوساطة الولايات المتحدة بين الحكومة الفيدرالية في بغداد وقادة الأكراد في أربيل وشركات النفط الدولية العاملة في إقليم كردستان. كما تزامنت عملية استئناف ضخ النفط مع اجتماع عقد في البيت الأبيض في الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر، حيث طلب الرئيس ترامب من نظيره التركي رجب طيب أردوغان التوقف عن استيراد النفط الروسي بأسعار مخفضة.
تتقاطع عدة عوامل وراء هذه التطورات، منها تعقيدات السياسة الداخلية العراقية، ورغبة أردوغان في تحسين علاقاته مع الولايات المتحدة، وسعي واشنطن إلى استخدام صادرات النفط كأداة ضغط على موسكو، مع تحسين بيئة الأعمال في العراق بما يخدم مصالح الشركات الأمريكية. وإذا واصلت إدارة ترامب الضغط على أنقرة لتقليص وارداتها من النفط الروسي، فستثار تساؤلات حول البدائل الممكنة للنفط الخام ذي الجودة "متوسطة الحموضة"، وستُعدّ إمدادات شمال العراق، التي ستقوم بتسويقها حصراً المنظمة الفيدرالية للنفط في بغداد وفق آلية تجارية جديدة، أحد أهم تلك البدائل المحتملة.
وبالطبع، ينبغي لإدارة ترامب أن تكون واضحة بشأن محدودية توقع أن تتخلى تركيا بالكامل عن النفط الروسي، وبشأن التأثير الطفيف الذي قد تتركه هذه الخطوة على إجمالي مبيعات النفط الروسية عالمياً، نظراً للكميات الصغيرة نسبياً من الخام المعنية. ومع ذلك، تبقى الفرص واعدة إذا جرت إدارة المفاوضات الجارية بحنكة، ليس فقط لصالح مصافي التكرير التركية التي قد تجد نفسها مضطرة لتنويع مصادرها النفطية مستقبلاً، بل أيضاً لخدمة العلاقات الأوسع بين العراق وتركيا والولايات المتحدة.
الزاوية التركية
العلاقات مع روسيا: تعد تركيا مستورداً رئيسياً للنفط الروسي، ومن المرجح أن تظل كذلك، إلا أنه يمكن تقليص مستوى الاعتماد هذا تدريجياً. فمن ناحية، يتشابه النفط الخام القادم من شمال العراق في خصائصه مع نفط الأورال الروسي، وعلى الرغم من أن الخام الروسي يباع بأسعار أدنى، فقد ترى أنقرة في الإمدادات العراقية وسيلة عملية لتنويع وارداتها النفطية، لا سيما في ظل تشديد العقوبات الأوروبية على الإمدادات الروسية، وبالتالي تقليل اعتمادها الأوسع على موسكو في قطاعي الطاقة والاقتصاد.
ولتحقيق هذه الأهداف، يتعين على واشنطن مواصلة تسهيل المفاوضات بين بغداد وأربيل، بما يضمن استمرار تدفق النفط الخام من شمال العراق بشكل كافٍ يشجع على زيادة الصادرات، سواء من الحقول الكردية أو تلك الخاضعة للسيطرة الفيدرالية في كركوك، وفقاً لظروف السوق المحلية وتطورات الطلب الإقليمي.
العلاقات مع العراق: خلال السنوات الأخيرة، ومع توقع انسحاب القوات الأمريكية من العراق والخشية من حدوث فراغ في السلطة هناك، سعت تركيا إلى لعب دور فاعل في إعادة مركزية الدولة العراقية. وتقوم استراتيجية أنقرة تجاه العراق على مبدأ واضح يتمثل في تعزيز النفوذ الاقتصادي التركي مقابل تقليص النفوذ الإيراني القائم على السلاح والميليشيات. ومن هذا المنطلق، طرحت أنقرة مشروع "طريق التنمية"، وهو شبكة طموحة من الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية وخطوط الأنابيب التي تمتد عبر العراق وتركيا، لتربط الأسواق الآسيوية والأوروبية عبر المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. ويُعد إعادة فتح "خط أنابيب العراق – تركيا" أول ثمرة ملموسة لهذا المشروع.
العلاقات مع الولايات المتحدة. تسعى أنقرة في الآونة الأخيرة لتعزيز تقاربها مع واشنطن بشكل ملحوظ، في مسعى جزئي لتأمين صفقة شراء طائرات مقاتلة من طراز F- 35. فبعد أن اشترت تركيا منظومات الدفاع الصاروخي الروسية S-400 عام 2017، تعرضت لعقوبات من الكونغرس الأمريكي بموجب "قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات" و"قانون تفويض الدفاع الوطني" لعام 2020، اللذين يحدان من مبيعات الأسلحة إلى أنقرة. مع ذلك، يرى الرئيس ترامب أن تركيا تمثل حليفاً مهماً في سياق المنافسة بين القوى الكبرى، ما يبرر - من وجهة نظره - إعادة ضبط العلاقات العسكرية والسماح باستئناف صفقات التسليح. ولتحقيق ذلك، يُرجح أن يصدر خلال الأشهر المقبلة إعفاءً أمنياً وطنياً يتجاوز قيود "قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات"، وأن يعتمد على دعم حلفائه في الكونغرس خلال انتخابات منتصف المدة لإلغاء البنود الواردة في قانون "قانون تفويض الدفاع الوطني" التي تحظر مبيعات الأسلحة إلى تركيا.
في المقابل، ستنتظر الإدارة الأمريكية من أنقرة اتخاذ خطوات ملموسة لبناء الثقة، وهنا يأتي برنامج "خط أنابيب العراق - تركيا" في مقدمة تلك الخطوات. ولأسباب سياسية واقتصادية واستراتيجية، من غير المرجح أن توقف تركيا فجأة جميع واردات النفط الروسي، لكن استئناف تدفق النفط العراقي إلى الأسواق العالمية يمثل بادرة حسن نية مهمة تجاه واشنطن وبغداد، حتى وإن كانت الكميات صغيرة نسبياً مقارنة بإجمالي الصادرات الروسية. كما أبلغ الرئيس أردوغان نظيره ترامب خلال لقائهما أن أنقرة ستزيد مشترياتها من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي (LNG)، في خطوة تخدم أجندة ترامب القائمة على "بيع المنتجات الأمريكية"، وتدعم في الوقت ذاته جهود تركيا لتقليص اعتمادها على واردات الطاقة الروسية، خاصة مع استمرارها في شراء كميات كبيرة من الغاز الروسي. وبذلك، تقرب هذه التطورات تركيا خطوة أخرى نحو استعادة مكانتها كشريك مؤهل للحصول على طائرات F-35، أكثر من ذي قبل.
تفاصيل الاتفاق العراقي
يُتوقع أن يُسهم الاتفاق المؤقت الخاص ببرنامج التصدير عبر "خط أنابيب العراق -تركيا" في إطلاق مفاوضات جديدة لمعالجة القضايا السياسية والتقنية والإدارية العالقة منذ سنوات بين أربيل وبغداد، والمتعلقة بإنتاج النفط وتصديره من شمال البلاد. كما يمهد هذا الاتفاق الطريق لبدء حوار بين حكومة إقليم كردستان وشركات النفط الدولية حول تسوية أكثر من مليار دولار من المتأخرات المالية المستحقة لتلك الشركات على أربيل.
ووفقاً لمصدر صناعي مطلع على تفاصيل المحادثات، تنص الاتفاقية الأولية على فترة انتقالية تمتد لثلاثة أشهر تتيح استئناف تصدير النفط الخام تدريجياً. وخلال هذه الفترة، ستتولى شركة استشارية غربية مستقلة تقييم التكاليف الفعلية للإنتاج والنقل داخل الإقليم، إلى جانب الإشراف على تسوية المدفوعات المستحقة لشركات النفط الدولية. وبعد الحادي والثلاثين من كانون الأول/ديسمبر، ستخضع الاتفاقية للتجديد الشهري.
في الوقت الراهن، يُستخرج النفط الخام في كردستان من حقول تديرها ثماني شركات نفط دولية، من بينها الشركات الأمريكية WesternZagros وHunt Oil وHKN Energy، التي ضخت مجتمعة أكثر من خمس مليارات دولار من الاستثمارات في شمال العراق حتى عام 2023. وبموجب الاتفاق الجديد، من المتوقع تسليم ما بين 180 إلى 190 ألف برميل يومياً من النفط الخام الكردي إلى شركة تسويق النفط العراقية (سومو)، التي ستصبح الجهة الوحيدة المخوّلة بإدارة عمليات التسويق رسمياً.
ومع ذلك، لا يُتوقع أن تعود تدفقات النفط إلى مستويات ما قبل عام 2023 في المدى القريب. فقد أُغلق "خط أنابيب العراق وتركيا" في آذار/مارس من ذلك العام بعد أن قضت محكمة تحكيم دولية لصالح بغداد، وألزمت أنقرة بدفع نحو 1.5 مليار دولار كتعويض، نتيجة سماحها لحكومة الإقليم بتصدير النفط دون موافقة الحكومة الفيدرالية، وهو ما يشكل انتهاكاً لمعاهدة عام 1973 المنظمة لتشغيل خط الأنابيب. قبل ذلك، كان "خط أنابيب العراق وتركيا" ينقل ما يقارب 400 ألف برميل يومياً من النفط الخام. لكن مع نهاية آذار/مارس 2023، توقفت صادرات النفط الكردي إلى الأسواق العالمية، وتراجعت الطاقة الإنتاجية تدريجياً. وعلى الرغم من إغلاق خط الأنابيب، استمر تكرير جزء من نفط الإقليم وبيعه محلياً، فيما أشارت تقارير متعددة إلى تهريب كميات كبيرة من النفط الكردي إلى إيران وتركيا عبر الشاحنات.
مقارنة تدفقات "خط أنابيب العراق وتركيا" بواردات تركيا من روسيا
قبل إغلاق "خط أنابيب العراق وتركيا" في عام 2023، كانت إيطاليا واليونان وإسرائيل وكرواتيا وتركيا من بين الوجهات الرئيسية للنفط الخام من شمال العراق، وفقاً لبيانات مؤسسة "كيبلر". في غضون الأشهر القليلة المقبلة، قد يكون لدى المصافي التركية الكبرى أسباب وجيهة لاستئناف شراء النفط الخام العراقي المستعاد. حالياً، تصدر هذه المصافي منتجات نفطية مصنوعة من النفط الخام الروسي إلى الأسواق الأوروبية، ولكن هذه الممارسة قد تصبح أكثر تعقيداً في ظل العقوبات الأوروبية الجديدة.
في تموز/يوليو حظر الاتحاد الأوروبي استيراد المنتجات النفطية المشتقة من الخام الروسي اعتباراً من عام 2026، وهو ما يتفق عليه خبراء صناعة النفط بأنه سيؤدي على الأرجح إلى تحول في واردات تركيا من النفط الخام. وإذا قررت المصافي التركية الحصول على نفط خام مماثل من مصدر آخر، فقد يكون شمال العراق أحد أفضل البدائل، وفقاً للمحلل البارز في مؤسسة "كيبلر" همايون فلكشاهي. ومع ذلك، سيكون لدى هذه المصافي أكثر من خيار واحد متاح، وقد تؤثر تقلبات أسعار السوق على قراراتها النهائية .
خلال الأشهر التسعة الأولى من هذا العام، استوردت المصافي التركية ما معدله 309 ألف برميل يومياً من النفط الخام الروسي، وكان معظم هذه الكميات من نصيب مصفاة توبراش (Tupras) وشركة سوكار الأذربيجانية (SOCAR)، التي تدير مصفاة ستار (STAR) في تركيا.
التداعيات على سياسة الولايات المتحدة
لا يزال الاتفاق الجديد بشأن "خط أنابيب العراق وتركيا" يواجه جملة من التحديات قبل أن تُستأنف الصادرات بشكل فعلي، بما في ذلك القضايا المالية والإدارية العالقة، والحاجة إلى وضع آلية شاملة لتنظيم إنتاج النفط وتصديره من شمال العراق. كما أن التحديات الأمنية ما زالت قائمة، إذ أدت هجمات الطائرات المسيرة على حقول النفط في إقليم كردستان - والتي يُعتقد أن ميليشيات موالية لإيران نفذتها - إلى تعليق بعض المنشآت عملياتها مؤقتاً في وقت سابق من هذا العام.
ومع ذلك، فإن هذه التحديات تستحق التغلب عليها بالنظر إلى الفوائد المحتملة التي يمكن أن يحققها الاتفاق للعراق وللولايات المتحدة أيضاً، لأن الشركات الأمريكية هي التي تدير الحقول المعنية. كما أن استئناف التدفقات عبر "خط أنابيب العراق وتركيا" يمكن أن يمنح واشنطن نفوذاً إضافياً، وإن كان محدوداً، تجاه روسيا، من خلال إبعاد مشترٍ رئيسي مثل تركيا وتحسين العلاقات بين الحليفين في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وينبغي على المسؤولين الأمريكيين أن يدركوا أن دعم الاستقرار السياسي والأمني في العراق، ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك، أمر بالغ الأهمية لضمان استقرار إمدادات النفط إلى الأسواق العالمية، لا سيما في ظل حالة عدم اليقين المتعلقة بالإمدادات من الدول الخاضعة للعقوبات مثل روسيا. وينطبق هذا على النفط الخام المنتج في إقليم كردستان وفي جنوب العراق على حد سواء.
علاوة على ذلك، وبالنظر إلى أن إيران ما زالت الدولة الأكثر نفوذاً في العراق، فإن تعزيز العلاقات الاقتصادية التركية مع بغداد يصب في مصلحة الولايات المتحدة، بدءاً من إعادة تشغيل "خط أنابيب العراق وتركيا". إن وجود أنقرة كقوة اقتصادية موازنة لطهران سيكون عاملاً إيجابياً في خدمة السياسة الأمريكية داخل العراق.
وبالنظر إلى هذه المصالح، ينبغي على إدارة ترامب أن تحافظ على دورها الدبلوماسي النشط في مفاوضات خط الأنابيب لضمان عدم تعثر الاتفاق. فقد لعبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة دوراً محورياً في حثّ بغداد وأربيل على الدخول في حوار بنّاء لحل أزمة استمرت لأكثر من عامين حتى الآن، ومعالجة قضايا أخرى مثل تحويل الرواتب من الحكومة الفيدرالية إلى إقليم كردستان. ومن الضروري الحفاظ على هذا الزخم، خاصة إذا كانت واشنطن ترمي إلى تعزيز بيئة مستقرة للشركات الأمريكية التي استثمرت بالفعل في الإقليم وتطمح في توسيع نطاق مشاريعها في جميع أنحاء البلاد.