- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
المسيحيون في سوريا الجديدة: مقبولون لكن في خطر
Also published in Caravan
على الرغم من وقوع بعض الاعتداءات التي طالت مسيحيين بعد سقوط نظام الأسد، إلا أن هذه الحوادث لا ترقى إلى مستوى "الإبادة الجماعية" كما يروّج البعض، بل تأتي ضمن سياق أمني مضطرب أوسع يطال مختلف المكوّنات السورية، بما في ذلك الأغلبية السكانية.
تُعد سوريا موطناً لإحدى أقدم الجاليات المسيحية في العالم، وفي بلدة "معلولا" لا يزال السكان يتحدثون الآرامية القديمة حتى اليوم. وبعد ظهور الإسلام في بلاد الشام، سُمح للمسيحيين بممارسة عقيدتهم عموماً دون تضييق كبير، وإن كانوا يعتبرون سياسياً مواطنين من درجة أدنى. في التاريخ الحديث، وقعت مذبحة دمشق الشهيرة عام 1860 بحق المسيحيين، لكن منذ ذلك الحين عاشوا في البلاد بدرجة من الأمان والحرية النسبية.
منذ سقوط نظام الأسد قبل عام، برزت مخاوف واسعة بشأن مستقبل المسيحيين في سوريا الجديدة. فبشكل عام لا يزالون قادرين على العيش وممارسة شعائرهم، إلا أن بعض الحوادث استهدفتهم بالفعل. ومن الضروري أن تتعامل السلطات الجديدة مع هذه التهديدات المتصاعدة، إلا أن فهمها يقتضي وضعها في سياق أوسع يطال جميع المكوّنات السورية، بما في ذلك الأغلبية السكانية. فلا يكاد أحد اليوم في مأمن من هجمات الميليشيات أو الانتهاكات في ظل الوضع الأمني الهش. لذلك، تبقى الصورة معقدة وتستدعي تحليلاً معمقاً لفهم ما يجري بدقة.
"هيئة تحرير الشام" والمسيحيون قبل سقوط النظام
قبل سقوط نظام الأسد، كانت السلطات الحالية عبارة عن جماعة متمردة تسيطر على شمال غرب سوريا تحت اسم "هيئة تحرير الشام ". في السنوات التي سبقت سقوط النظام، بدأت "هيئة تحرير الشام" في المصالحة مع مجتمعات الأقليات الخاضعة لحكمها والتي كانت إما تتجاهلها أو كانت لها علاقات عدائية معها سابقاً. وعلى وجه الخصوص، انخرط الرئيس السوري الحالي "أحمد الشرع" (المعروف آنذاك بـ"أبو محمد الجولاني") علناً لأول مرة مع المسيحيين في منطقة إدلب في تموز/يوليو 2022م. قبل ذلك، كانت الحياة تحت حكم "هيئة تحرير الشام" غير سارة للغاية بالنسبة للأقليات. صادرت "هيئة تحرير الشام" سابقاً ما لا يقل عن 550 عقاراً من المسيحيين، بما في ذلك المنازل والمحال التجارية؛ وقد بدأت هذه الممارسة أصلاً في عام 2015م.
بعد الانفراج في عام 2022م، سُمح للمسيحيين باستئناف الشعائر الدينية وإصلاح/إعادة بناء كنائسهم. بالإضافة إلى ذلك، تم حل غالبية النزاعات على الممتلكات المسيحية وأُعيدت الممتلكات إلى أصحابها الأصليين. كانت أكبر التغييرات بالنسبة للمسيحيين في البداية في ظل هذا النهج الأكثر ودية من قبل "هيئة تحرير الشام" هي التحسن في الوضع الأمني، وطرد المقاتلين الأجانب من أحيائهم، والقدرة على إدارة محاكمهم الخاصة مرة أخرى. ومع ذلك، سياسياً، كان المسيحيون – كما هو الحال مع الأقليات الأخرى في مناطق "هيئة تحرير الشام" – مواطنين من الدرجة الثانية من حيث عدم وجود أي تمثيل سياسي في مجلس الشورى العام وتمثيلهم فقط من خلال مديرية شؤون الأقليات، التي لم يكن يديرها أحد من الأقليات.
التواصل بعد سقوط النظام
في الهجوم الذي أدى إلى سقوط نظام الأسد، أشارت مديرية شؤون الأقليات المذكورة أعلاه في بيان إلى أن المسيحيين سيظلون آمنين تحت حكومة سورية جديدة. منذ سقوط النظام، استمر المجتمع المسيحي في كونه شريكاً منخرطاً مع السلطات الانتقالية. التقى القادة المسيحيون بـ"الشرع" في وقت مبكر من أواخر كانون الأول/ديسمبر 2024م، وشمل ذلك ممثلين من طوائف عديدة: الروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والسريان الأرثوذكس، والسريان الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك، والموارنة، والإنجيليين الوطنيين، واللاتين. استمر هذا التواصل طوال السنة الأولى من الفترة الانتقالية، بما في ذلك الزيارة الأخيرة في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2025م التي قام بها "الشرع" إلى البطريرك "يوحنا العاشر يازجي"، بطريرك الروم الأرثوذكس لأنطاكية وسائر المشرق، في البطريركية. أكد كلاهما على واجباتهما تجاه بعضهما البعض في حماية المسيحية السورية ودعم الدولة. قدّم البطريرك إلى "الشرع" وثيقة إسلامية قديمة مزعومة تمنح الأمان وعهداً لمسيحيي دمشق. ثم قال البطريرك "يوحنا العاشر يازجي" لـ"الشرع": "نحن نحافظ على العهد"، فأجاب "الشرع": "ونحن نحافظ على عهد أجدادنا ".
ويلعب هذا البعد دوراً في إعادة إنتاج الهوية الأموية التي يتبنّاها جزء من السنّة السوريين، وكذلك الدولة منذ سقوط النظام. وبالنسبة لبعض المسيحيين الذين يؤمنون بهذا المشروع السوري الجديد، فإنهم يرون لأنفسهم دوراً فيه، ويعتقدون أنه يمكنهم الاستناد إلى الدعم التاريخي الذي قدّمه المسيحيون للدولة الأموية كجسر للتكيّف مع الواقع الجديد. فعلى سبيل المثال، ظهر "نوّار نجمة"، وهو مسيحي والمتحدث باسم لجنة الانتخابات البرلمانية، في مقطع فيديو يشرح فيه مساهمات المسيحيين في بناء الدولة الأموية، مشيراً إلى أن هذا الإرث التاريخي هو أحد الأسباب التي تدفعه لدعم الدولة السورية الجديدة والمساهمة في بنائها.
استهداف المسيحيين والعنف ضدهم منذ سقوط النظام
على الرغم من أن المجتمع المسيحي كان آمناً عموماً من الناحية الأمنية منذ سقوط النظام، إلا أن عدة حوادث خطيرة وقعت بالفعل، وهي بلا شك مصدر قلق. لكن في المقابل، جرى تضخيم بعض هذه الحالات في فضاءات إلكترونية معينة وتحويلها إلى رواية مفادها أنّ المسيحيين يتعرضون لـ"إبادة جماعية"، وهذا ببساطة غير صحيح. يمثل ذلك مثالاً واضحاً على كيفية قيام حملات التضليل بتشويه فهم المتابعين الخارجيين لما يجري على الأرض. وهذا لا يعني أن المجتمع المحلي أو المعنيين خارج سوريا لا ينبغي لهم رفع الصوت والتحذير عند وجود مخاطر حقيقية، لكن تحويل هذه الحوادث إلى روايات إبادة جماعية لأهداف سياسية هو أمر مضلّل ويُضر بفرص تقييم الوضع بموضوعية ودعم القضايا المشروعة بشكل فعّال.
على سبيل المثال، خلال مذبحة الساحل ضد العلويين في آذار/مارس، تسربت معلومات مضللة إلى بعض الدوائر الإلكترونية الغربية والإسرائيلية التي تحولت إلى تقارير كاذبة عن مذبحة ضد المسيحيين. قُتل بعض المسيحيين فعلاً، لكنها كانت أكثر ظرفاً من التواجد في المكان الخطأ في الوقت الخطأ. كانت معظم الضحايا الذين قُتلوا خلال مذبحة الساحل من العلويين والسنة. أصدرت كنائس مسيحية في اللاذقية حتى بياناً مشتركاً يحث الأفراد على عدم الانجراف وراء الشائعات. لسوء الحظ، بعد أشهر عندما حدثت مذبحة ضد الدروز في السويداء في منتصف تموز/يوليو، تعرضت كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك للقديس ميخائيل في قرية السورة للهجوم وأحرقت.
خارج تلك الأحداث، كان هناك أيضاً ما يلي: خلال عيد الميلاد 2024م، حرق مقاتلون أجانب شجرة عيد الميلاد؛ في 17 شباط/فبراير، قامت مجموعة من الشباب بتدمير صلبان في مقبرة في ريف حمص؛ في 6 نيسان/أبريل، حاول مهاجمون حرق كنيسة في دمشق؛ في 17 أيار/مايو، أُحرقت سيارة عائلة مسيحية في مدينة حماة، وتُركت منشورات تهديد في المنطقة؛ وفي 8 حزيران/يونيو، تعرضت كنيسة في مدينة حمص لإطلاق نار.
بالإضافة إلى ذلك، كان المجتمع المسيحي هدفاً كبيراً لتنظيم "الدولة الإسلامية" منذ سقوط النظام. وفقاً لوزارة الداخلية السورية، اعترف مشتبه بهم من "الدولة الإسلامية" بأنهم كانوا يخططون لتنفيذ هجوم بسيارة مفخخة ضد كنيسة في "معلولا " في يوم رأس السنة. وكان الأبرز هو الهجوم الانتحاري في 22 حزيران/يونيو الذي استهدف كنيسة مار إلياس للروم الأرثوذكس في حي الدويلعة بدمشق، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن خمسة وعشرين شخصاً وإصابة ثلاثة وستين – أكبر هجوم ضد الجالية المسيحية في سوريا منذ عام 1860م. تبناه تنظيم غامض يُدعى "سرايا أنصار السنة"، وهو جبهة لتنظيم "الدولة الإسلامية ".
كانت الحكومة السورية سريعة وموحدة في إدانة هجوم كنيسة دمشق. بالإضافة إلى البيانات المناسبة من كبار المسؤولين السياسيين والدينيين، قامت وحدات الدفاع المدني بسرعة بتقييم الأضرار في الموقع، في حين قام محافظ دمشق "ماهر مروان" (صهر "الشرع") ووزيرة الشؤون الاجتماعية "هند قباوات" (مسيحية بنفسها) بزيارة الكنيسة والاجتماع مع سكان الحي. كما قدم "الشرع" التعازي عبر الهاتف لرئيس أساقفة الروم الأرثوذكس "رومانوس الحنّاط". بينما رأت حكومة سوريا أن الخطوات التي اتخذتها كافية، يشتبه العديد من المسيحيين والأقليات الأخرى في أن دمشق كانت متواطئة بطريقة ما في الهجوم. مثل هذه المعتقدات منتشرة حتى بعد أن عززت الحكومة الأمن بشكل واضح في الأحياء المسيحية بشكل عام وحول الكنائس خلال عيد الميلاد والجمعة العظيمة وعيد الفصح.
قضايا المسيحيين مع "قوات سوريا الديمقراطية "
خارج المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، شهدنا مؤخراً محاولة بعض المسيحيين في المناطق الواقعة تحت سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" اعتماد المنهاج التعليمي الجديد الصادر عن الحكومة السورية، من أجل ضمان مواءمة تعليم أبنائهم مع النظام التعليمي الرسمي. غير أنّ الإدارة الذاتية أغلقت تلك الكنائس والمدارس التابعة لها بسبب خلافات وتوترات متواصلة مع دمشق، باعتبار أن هذا المنهج لا يتماشى مع السلطة المحلية هناك. وعلى الرغم من أن "قوات سوريا الديمقراطية" تراجعت لاحقاً عن قرارها بعد أسابيع، إلا أن هذه الواقعة تسلط الضوء على أن قضايا المسيحيين ليست محصورة فقط في مناطق الحكومة.
وتعكس هذه التطورات تعقيدات وضع المسيحيين في سوريا الجديدة. فالمشهد ليس كما لو أن "داعش" أو "القاعدة" تمسك بزمام السلطة، لكن هناك حالة عدم يقين. فدمشق بذلت جهوداً متزايدة للتواصل مع المجتمع المسيحي، وفي المقابل، كان المسيحيون في السابق مستهدفين من الميليشيات، وخاصة من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية"، ما جعل المجتمع يعيش حالة قلق وتردد بشأن مدى قدرة السلطة الجديدة على حمايتهم– حتى وإن وفرت الحكومة السورية بيئة أكثر أماناً للكنائس.
لذلك، فإن الطريق للمضي قدماً يكمن في تعزيز الثقة، وأن تُظهر السلطة السورية الجديدة جدية في حماية المجتمع المسيحي. وإلا، فقد يكرر المسيحيون في سوريا تجربة المسيحيين في العراق، عبر مغادرة البلاد بحثاً عن الأمن في الخارج، تاركين إرثاً تاريخياً ورائهم.