
- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
المنطق الملتوي وراء الاعتراف بالدولة الفلسطينية
Also published in Mosaic

سلكت فرنسا وبريطانيا وكندا مسارات متباينة انتهت جميعها إلى اللامكان، كاشفةً الفجوة بين إعلان هدف تاريخي وصياغة استراتيجية لتحقيقه—وهي الفجوة ذاتها التي سقطت فيها إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
في تقارب غير عادي للأحداث، شهدت الأيام الأخيرة دوامة من النشاط الدبلوماسي حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني لم نشهدها منذ سنوات عدة. شمل ذلك صرخة من الألم والاحتجاج في الداخل والخارج على التعامل الإسرائيلي مع الأزمة الإنسانية في "غزة"، وعقد مؤتمر دولي في "نيويورك" تحت رئاسة سعودية وفرنسية مصمم لإحياء "حل الدولتين" المحتضر، وإعلان ثلاثة حلفاء أمريكيين مقربين-"فرنسا" و"بريطانيا" و"كندا"-عن نيتهم منح اعتراف دبلوماسي كامل بـ"دولة فلسطين" في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر القادم. انضمت إليهم مؤخراً "أستراليا"، ويُذكر أن "نيوزيلندا" تفكر في خطوة مماثلة.
أي رابط حقيقي بين هذه الأحداث صعب فك شفرته. قد يقدم حل الدولتين إجابة نظرية طويلة الأمد للنزاع الأساسي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لكن التجمع للدفاع عنه اليوم لن يفعل شيئاً لمواجهة تحدي توصيل الطعام في "غزة"، ناهيك عن إنهاء تلك الحرب المروعة. والاعتراف بالدولة الفلسطينية قد يعالج بعض الحاجات السياسية المحلية في "أوروبا" و"كندا"، لكنه لن يفعل شيئاً لتهدئة مخاوف الناخبين الذين يهمون أكثر-الجمهور الإسرائيلي المصوت-الذي يخشى على سلامته من الاخطار التي قد ترافق الدولة الفلسطينية، ويرفض الفكرة بأغلبية كبيرة، وانتخب حكومات متتالية تعكس ذلك الرأي.
مع استجابة "حماس" لارتفاع الإدانة العالمية لـ"إسرائيل" بالشعور بثقة كافية لإطلاق صور لرهينة هزيل مجبر على حفر قبره بنفسه، من العدل القول إن كلاً من إنهاء حرب "غزة" وتحقيق حل الدولتين أصبحا أبعد عن التحقق اليوم مما كانا عليه قبل هذه الأحداث الأخيرة. إلى الحد الذي كان لهذه المبادرات الدبلوماسية أي تأثير، فإن التدهور على كلا الجبهتين الإنسانية وصنع السلام يعود إلى حد كبير إلى النشاط السياسي.
ومع ذلك، فهم منطق ومبرر ودوافع الجهات الفاعلة الرئيسية في هذه اللحظة من النشاط الدبلوماسي المكثف أمر كاشف. إعلان "باريس" و"لندن" و"أوتاوا" عن نيتهم الاعتراف بـ"فلسطين" هو مثال مفيد على ذلك. بينما أنتجت هذه التصريحات عناوين متشابهة، قدم قادة البلدان الثلاثة مبررات مختلفة جداً لتحولاتهم السياسية ووضعوا قراراتهم في عبارات مختلفة جداً. عدم التماسك في مناهجهم أكد الانقطاع بين تحديد هدف سياسي وتحديد استراتيجية لتحقيقه-حالة مألوفة للمراقبين المقربين لاستجابة "إسرائيل" لرعب 7 تشرين الأول/أكتوبر للأسف. يستحق الأمر إلقاء نظرة دقيقة على الحجج المختلفة التي قدمتها هذه البلدان-وعيوبها المختلفة.
فرنسا
تصدر المشهد الرئيس "إيمانويل ماكرون" بإعلانه في 24 تموز /يوليو أن "فرنسا" ستعترف بـ"فلسطين" في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول /سبتمبر، واصفاً الخطوة كطريقة لتقديم حل تفاوضي للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. أعلن "ماكرون" على وسائل التواصل الاجتماعي: "بالنظر إلى التزامها التاريخي بسلام عادل ومستدام في الشرق الأوسط، قررت أن تعترف 'فرنسا' بدولة 'فلسطين'. السلام ممكن."
إلى جانب ملاحظات "ماكرون" الموجزة على الإنترنت، قُدم المبرر الأكثر شمولية لهذا التحول السياسي من قِبل وزير خارجيته، "جان نويل بارو"، في المؤتمر الدبلوماسي في "نيويورك" المسمى رسمياً "المؤتمر الدولي رفيع المستوى حول التسوية السلمية لقضية 'فلسطين' وتنفيذ حل الدولتين". في الحدث، احتج "بارو" أن قرار الاعتراف بـ"فلسطين" كان نمواً منطقياً لدعوة "فرنسا" طويلة الأمد لفكرة "شعبين لهما دولتان". علاوة على ذلك، وصف هذا الموقف كرد فعل على "حماس"، التي ستُ"ترفض بشكل قاطع وتُعزل بشكل دائم"، وعلى "الأهداف غير المسؤولة للمتطرفين الذين، في 'إسرائيل'، يرفضون حق وجود الفلسطينيين والذين ينشرون العنف والكراهية بشكل مخزٍ وأعمى".
لم تكن الدقة التاريخية على ما يبدو اهتمام "بارو" الأول. لإعطاء حجته بعض القوة الوطنية، استشهد بسلسلة من القادة الفرنسيين الذين مواقفهم ستضفي شعوراً بالاستمرارية على إعلان الاعتراف. لكن بالتأكيد أُبلغ "بارو" أنه عندما قال "شارل ديغول" في 1967 أن حل الصراع يجب أن يقوم على "الاعتراف من قِبل كل من الدول المعنية بجميع الأخريات"، كان يشير إلى "الأردن" كالشريك العربي الأساسي، وليس الفلسطينيين. وبالتأكيد أُخبر "بارو" أنه عندما دعا "فرانسوا ميتران" للاعتراف المتبادل الإسرائيلي-الفلسطيني في خطابه أمام الكنيست في 1982، قال "ميتران" بعد جمل قليلة: "لا أحد يمكنه أن يقرر الحدود والشروط، التي، وفقاً لقرار الأمم المتحدة 242، تعتمد على الطرفين. يجب على المفاوضين أن يقرروا في هذه القضية." (التأكيد مضاف.) وليس من المفاجئ أن "بارو" لم يستشهد ببيان سلفه، وزير الخارجية "ستيفان سيجورن"، الذي رد بحدة على إعلان "إسبانيا" اعترافها بالدولة الفلسطينية في أيار /مايو 2024 بقوله: "قل لي، ماذا غيّر بالضبط الاعتراف الإسباني بعد يوم واحد في 'غزة'؟ لا شيء!"
كان تأكيد "بارو" الأكثر إثارة للحاجب هو أن "فرنسا" يمكنها الاعتراف بـ"فلسطين" لأن شروط "بنيامين نتنياهو" نفسه للدولة الفلسطينية، كما حُددت في خطابه في جامعة "بار إيلان" في 2009، قد تحققت. كما صرح "بارو": "في الرسالة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية وولي العهد السعودي، أدان رئيس السلطة الفلسطينية لأول مرة الهجمات الإرهابية في 7 تشرين الأول /أكتوبر ، ودعا للإفراج الفوري عن رهائن 'حماس'، ودعا لنزع سلاح الأخيرة وإقصائها من حكم 'غزة'. أكد إنهاء المخصصات لعائلات السجناء المدانين بجرائم إرهابية، وأعلن إصلاح الكتب المدرسية لإزالة جميع خطابات الكراهية، والتزم بإجراء انتخابات رئاسية وعامة في 2026. الشروط المحددة لقبول دولة فلسطينية من قِبل رئيس الوزراء 'بنيامين نتنياهو'، في خطاب 'بار إيلان' 2009، قد تحققت."
من الواضح أن "بارو" افترض أن لا أحد ممن يسمع ملاحظاته سيفحص فعلياً نص خطاب "نتنياهو" في "بار إيلان"، الذي مراجعته تظهر بوضوح تام أن التزامات "عباس" لا تتناول، ناهيك عن أن تحقق، الشرطين اللذين وضعهما "نتنياهو". بينما صحيح أن نزع السلاح، الذي قال "عباس" إنه ملتزم به، كان أحد تلك الشروط، وصف "نتنياهو" شرطه الأهم هكذا: "الشرط الأساسي لإنهاء الصراع هو الاعتراف الفلسطيني العلني والملزم والصادق بـ'إسرائيل' كوطن قومي للشعب اليهودي"-وليس الاعتراف بحق "إسرائيل" في الوجود بل تحديداً شرعيتها كدولة يهودية. لم يصدر "عباس" أو منظمة التحرير الفلسطينية مثل هذا الإعلان أبداً، وسواء اعتقد المرء أنه مطلب مناسب أم لا، لا يمكن ادعاء بشرعية أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية مبرر لأن شروط "نتنياهو" في "بار إيلان" قد تحققت.
بريطانيا
بعد خمسة أيام من إعلان "ماكرون"، صنع رئيس الوزراء البريطاني "كير ستارمر" عناوينه الخاصة بإعلان نية حكومته أيضاً الاعتراف بـ"فلسطين" في الاجتماع القادم للجمعية العامة، قائلاً إن ذلك كان إلى حد كبير رداً على الوضع "غير المحتمل" في "غزة". لكن تماماً كما مع "ماكرون"، كان وزير خارجية "ستارمر"، "ديفيد لامي"، هو من قدم الشرح الأكثر تفصيلاً للسياسة البريطانية في مؤتمر "حل الدولتين" في "نيويورك". وتماماً كما مع نظيره الفرنسي، لجأ "لامي" للمناورة التاريخية لتبرير سياسة رفضتها حكومات بريطانية عديدة سابقاً.
على عكس "بارو"، لم يبنِ "لامي" حجته على منطق متماسك أو قراءة دقيقة، فشروط "نتنياهو" نفسها لقيام دولة فلسطينية قد تحققت بالفعل. لكنه اعتمد بدلاً من ذلك على طرح جريء لكنه غير صحيح: أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو الرد الطبيعي على إدراك "بريطانيا" بأن شرطاً أساسياً في إعلان "بلفور" الأصلي – بيان عام 1917 الذي أصدرته حكومة رئيس الوزراء "ديفيد لويد جورج" وكانت فيه أول قوة عظمى تتعهد بدعم المشروع الصهيوني في فلسطين – لم يتحقق.
أوضح "لامي" أن الإعلان نصّ على التزام "بريطانيا" بإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين بشرط ألا يتم القيام بأي شيء من شأنه أن يضر بـ"الحقوق المدنية والدينية" للشعب الفلسطيني. ثم أضاف قائلاً: "هذا الشرط لم يُحترم، وهو ظلم تاريخي ما زال يتكشف حتى اليوم"، قبل أن ينتقل فوراً إلى الدعوة لدعم حل الدولتين.
لكن من الصعب تخيّل قراءة أكثر تحريفاً لمضمون إعلان بلفور. فأولاً، النص الأصلي لا يتحدث عن "الشعب الفلسطيني"، بل عن "المجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين". كما أن استخدام مصطلحي "الحقوق المدنية والدينية" جاء عن قصد، لأن بريطانيا لم تكن تنوي منح تلك المجتمعات حقوقاً سياسية مثل إقامة دولة. هذه الحقوق السياسية كانت مخصصة لحلفاء بريطانيا العرب في ذلك الوقت، وخصوصاً الأسرة الهاشمية التي كانت تحكم مكة آنذاك، وما زالت تحكم الأردن اليوم.
ثانياً، وحتى لو افترضنا أن بريطانيا ما زالت ملتزمة حتى اليوم بشروط ذلك البيان الصادر قبل أكثر من قرن، فإن التزامها سيكون منطقياً تجاه "الحقوق المدنية والدينية" للمجتمعات غير اليهودية داخل الأراضي الخاضعة للسيادة الإسرائيلية، أي المواطنين العرب في إسرائيل، وليس تجاه الفلسطينيين في الأراضي الواقعة تحت الاحتلال العسكري، الذي سبق لبريطانيا أن أقرّت بشرعيته أكثر من مرة.
وبينما سجل إسرائيل في ما يتعلق بالحقوق المدنية لمواطنيها العرب ليس مثالياً بالكامل، فإن هؤلاء المواطنين يتمتعون بمستوى حياة أفضل بكثير من معظم شعوب الشرق الأوسط، ولا يمكن بأي حال من الأحوال وصف وضعهم بأنه "ظلم تاريخي".وثالثاً، إذا كانت "بريطانيا" ستستند فجأة إلى فكرة أن شروط إعلان "بلفور" لم تتحقق بشكل كافٍ لتبرير اعترافها بالدولة الفلسطينية، فمن المنطقي أن تذهب بالاتجاه نفسه أيضاً نحو بند آخر في الإعلان ذاته، بند طال إهماله رغم أنه انتُهك مراراً وبشكل منهجي، خصوصاً من قِبل العديد من الدول التي حضرت اجتماع "نيويورك" الأخير بشأن حل الدولتين. فهذا البند ينصّ على التزام بريطانيا بأن "لا يُفعل شيء من شأنه أن يضر بالحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر."
وهذه النقطة تحديداً تُعد إشكالية لحكومة "ستارمر"، لأنها تكشف حقيقة واضحة: أن الصياغة الأصلية لإعلان "بلفور" لم تقتصر على الاهتمام بيهود فلسطين، بل شددت أيضاً على حقوق اليهود في أماكن أخرى من العالم. أي أن الجماعة الوحيدة التي أقرّ الإعلان بضرورة صون حقوقها السياسية – إلى جانب اليهود في فلسطين – هم "اليهود في أي بلد آخر". وبناءً عليه، وإذا كانت بريطانيا تريد أن تتعامل مع الإعلان بجدية كاملة، فسيكون من المنطقي والمتسق أن تبادر أيضاً إلى الضغط من أجل تعويضات أو اعتراف بالضرر من قِبل تلك الدول العربية والإسلامية التي مارست بحق اليهود، بعد قيام إسرائيل، سياسات وإجراءات ألحقت بهم أذى جماعياً وفردياً على المستويين السياسي والاقتصادي.
وإذا كان تفسير "لامي" لإعلان "بلفور" يحمل إشكاليات تاريخية، فإن عرضه لمسار الأمم المتحدة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية لم يكن أكثر دقة. إذ قال في هذا السياق: "كدبلوماسيين وسياسيين، اعتدنا على ترديد عبارة 'حل الدولتين'. مراراً وتكراراً أعلنت هذه الجمعية ومجلس الأمن أن الحل يجب أن يكون حل الدولتين. قرار بعد قرار: القرار 181، القرار 242، القرار 446، القرار 1515، القرار 2334. هذه ليست مجرد أرقام مكتوبة على الورق، بل هي تجسيد لقناعة عالم بات يشعر بالإحباط."ورغم أن هذه القائمة تبدو للوهلة الأولى ذات وقع مؤثر عند عرضها بتسلسلها العددي، فإنها لا تصمد أمام أي فحص جاد أو قراءة دقيقة لتاريخ تلك القرارات ومضامينها:
- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 181 (1947): وهو القرار المعروف بقرار التقسيم، الذي جاء نتيجة عمل لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين. وقد تبنّت الحركة الصهيونية توصياته على الفور وبكل وضوح، في حين رفضته جميع الدول العربية ومعها القيادة الفلسطينية رفضاً قاطعاً.
- قرار مجلس الأمن 242 (1967): هذه الوثيقة تُعد الأساس الذي انطلقت منه مسيرة صنع السلام العربي–الإسرائيلي الحديث. ومع ذلك، لا يتضمن القرار أي إشارة إلى "حل الدولتين"، ولا حتى إلى الفلسطينيين ككيان سياسي. فقد اكتفى بالدعوة إلى إقامة "سلام عادل ودائم" من خلال انسحاب إسرائيل إلى "حدود آمنة ومعترف بها"، إضافة إلى "تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين". وفي السياق التاريخي آنذاك، كان المفهوم السائد أن الأراضي التي ستنسحب منها إسرائيل ستعود إلى مصر والأردن، ولم يكن مطروحاً أن ينشأ كيان فلسطيني مستقل. بل إن النص نفسه، الذي صاغه اللورد البريطاني كارادون، لم يتصور قيام دولة فلسطينية منفصلة.
- قرار مجلس الأمن 446 (1979): يركّز على إدانة الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، لكنه أيضاً لا يذكر شيئاً عن "حل الدولتين". والأغرب أن لامي استشهد بهذا القرار تحديداً، على الرغم من أن الحكومة البريطانية في ذلك الوقت لم تصوّت لصالحه بل امتنعت عن التصويت.
ربما الجانب الأكثر غرابة في طرح "لامي" هو أنه، بخلاف الموقف الفرنسي، جعل وعد "بريطانيا" بالاعتراف بفلسطين في أيلول/سبتمبر مشروطاً – لا على أساس مبدئي ثابت، بل على خطوات ستتخذها كل من إسرائيل وحماس خلال الأسابيع القليلة المقبلة. فقد قال بوضوح: "سنقوم بالاعتراف بالدولة الفلسطينية ما لم تتصرف الحكومة الإسرائيلية لإنهاء الوضع المأساوي في غزة، وتوقف حملتها العسكرية، وتلتزم بسلام طويل الأمد قائم على حل الدولتين. أما مطالبنا من حماس فتبقى مطلقة وثابتة. وقبيل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، سنراجع إلى أي مدى استجاب الطرفان لهذه المتطلبات."
بمعنى آخر، اعتراف بريطانيا المرتقب بفلسطين لا يقوم فعلياً على قناعة بأن شروط وعد بلفور، بعد أكثر من قرن، لم تُنفذ كما يجب. بل هو أقرب إلى أداة ضغط أو تهديد دبلوماسي يُستخدم لإرغام إسرائيل على تغيير استراتيجيتها في غزة، وفي الوقت ذاته لدفعها إلى تبني مسار سياسي – أي حل الدولتين – رغم أن استطلاعات الرأي تظهر أن نحو أربعة أخماس الإسرائيليين يعارضونه. ورغم أن "لامي" شدّد على أنه "لن يكون لأي طرف حق النقض على الاعتراف نتيجة أفعاله أو امتناعه عن الأفعال"، فإن كلماته تشير إلى العكس تماماً. إذ بدا واضحاً أن الاعتراف مشروط بسلوك الأطراف: فبينما يُطلب من حماس إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين ووقف القتال والتنازل عن السلطة لجهة إدارية/سياسية بديلة، فإن إسرائيل وحدها مطالبة بالاستجابة الكاملة لمجموعة واسعة من الشروط البريطانية، وإلا واجهت تبعات دبلوماسية مباشرة.
من هنا يتضح أن هذه "الشرطية" لم تكن في جوهرها سياسة عملية بقدر ما كانت خطاباً استعراضياً، أقرب إلى محاولة لإبراز تمايز النهج البريطاني في "وايتهول" عن النهج الفرنسي في "كي دورساي"، أكثر من كونها رؤية سياسية قابلة للتنفيذ.
كندا
على عكس بريطانيا وفرنسا اللتين أسستا موقفيهما من الاعتراف بفلسطين على قراءات مشبعة بتأويلات لتاريخهما الدبلوماسي المختلف، اتبعت كندا نهجاً مختلفاً تماماً. فعندما تحدثت وزيرة الخارجية الكندية أنيتا أناند في مؤتمر "حل الدولتين" في 28 تموز/يوليو، لم يكن موضوع الاعتراف بالدولة الفلسطينية مطروحاً على الإطلاق في كلمتها. فقد ركّزت بشكل أساسي على الجانب الإنساني، معلنة التزام كندا بتقديم 30 مليون دولار إضافية كمساعدات إنسانية للفلسطينيين في غزة. وفي السياق نفسه، جدّدت تأكيد الموقف التقليدي الكندي من عملية السلام، قائلة: "الحل السياسي الدائم يتطلب وقفاً دائماً لإطلاق النار، ومن ثم بدء العمل الشاق لإعادة بناء المؤسسات واستعادة الثقة وتهيئة الظروف لحل الدولتين القابل للحياة... لا يمكن لحل دائم أن يتحقق من دون جلوس جميع الأطراف إلى الطاولة. وحتى ذلك الحين، وبعد وقف إطلاق النار، ستكون حكومة كندا حاضرة بالمساعدات الإنسانية، وستلعب دوراً قيادياً في بناء جسور لتأمين المزيد من الدعم لغزة بالتعاون مع الشركاء الدوليين." بكلمات أخرى، لم يكن الاعتراف بالدولة جزءاً من أولويات خطابها إطلاقاً.
لكن بعد يومين فقط، أحدثت كندا انعطافة جذرية عبر إعلان من رئيس الوزراء مارك كارني اتخذ مساراً معاكساً تماماً لطرح وزيرة خارجيته. فقد صرّح كارني قائلاً: "لقد التزمت كندا منذ زمن طويل بحل الدولتين – دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة وذات سيادة تعيش جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل في سلام وأمن. لعقود، كان الأمل أن يتحقق هذا الهدف من خلال عملية سلام قائمة على تسوية تفاوضية بين الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية. للأسف، لم يعد هذا النهج قابلاً للاستمرار."
في غضون 48 ساعة فقط، انقلبت أوتاوا على سياسة خارجية استمرت 58 عاماً، إذ كانت كندا لاعباً محورياً في صياغة قرار مجلس الأمن 242 عام 1967 عندما كانت عضواً في المجلس. ومفارقة الأمر أن كارني فعل ذلك عبر إعلان موت فكرة التسوية التفاوضية، وهي بالضبط الفكرة التي قالت بريطانيا وفرنسا إن اعترافهما يهدفان إلى إنقاذها وحمايتها. وربما إدراكاً لثغرات حجته، لم يقدّم كارني أي تصور عملي لكيفية قيام دولة فلسطينية في غياب اتفاق مع إسرائيل، ولم يذهب حتى إلى حد الادعاء بأن الاعتراف سيعيد إحياء عملية التفاوض. بمعنى آخر، ما طرحه كان أقرب إلى سياسة تُعرض كطموح سياسي من دون أي خطة للتنفيذ.
ولم يكن هذا هو الجانب الوحيد الذي ميّز إعلان كارني. فكما في حالة بريطانيا، جاء الوعد الكندي بالاعتراف مشروطاً. غير أن الفارق اللافت هو أن لامي ربط اعتراف بريطانيا الموعود في أيلول/سبتمبر بخطوات إسرائيلية محددة خلال الأسابيع المقبلة، بينما اختار كارني أن يربط اعتراف كندا الشهر القادم بوعد أطلقه محمود عباس – وليس إسرائيل – بأن تُجرى انتخابات فلسطينية عامة خالية من مشاركة حماس في العام القادم. بكلمات أخرى، قدّم كارني لعباس انتصاراً سياسياً هائلاً استناداً فقط إلى تعهد الأخير بإجراء انتخابات، وهو وعد كرّره وفشل في تنفيذه مرات عديدة طوال أكثر من عشرين عاماً قضاها في الحكم.
هل ستتراجع كندا عن اعترافها إذا أُجّلت الانتخابات الفلسطينية مرة أخرى؟ كارني، مدركاً على ما يبدو للإحراج الذي قد تسببه هذه الإشكالية، تجنّب الخوض في هذا الاحتمال. وأضاف في كلمته أن على حماس أن تطلق فوراً جميع الرهائن، وأن تنزع سلاحها، وألا يكون لها أي دور في الحكم المستقبلي لفلسطين. لكن اللافت أن كارني لم يربط اعتراف كندا بالدولة الفلسطينية بتحقيق أي من هذه المطالب، ما يجعل الاعتراف في جوهره خطوة مشروطة بوعود عباس وحدها، لا بالتزامات تُنفّذ فعلياً على الأرض.
من الاعتراف إلى الدولة؟
ورغم أن الجانب الشرطي في إعلان كندا يبدو بلا معنى حقيقي، إلا أن كارني يستحق بعض التقدير لأنه أدخل قدراً من الواقعية في خطابه. فهو لم يزعم، كما فعل لامي وبارو كلٌ على طريقته، أن خطوة الاعتراف الرمزية وحدها يمكن أن تحقق هدف إقامة دولة فلسطينية. ومع ذلك، يظل من الصعب تصور آلية واقعية يمكن من خلالها حتى للاعتراف شبه العالمي بالدولة الفلسطينية أن يحول هذا المفهوم إلى حقيقة ملموسة.
لكن ربما لم يكن المنطق السياسي أو الواقعية الدبلوماسية هو الدافع الأساسي وراء هذه الخطوات. فقبل شهر واحد فقط من إعلان ماكرون، أوصت وزارة الداخلية الفرنسية بأن تعترف فرنسا بدولة فلسطينية كوسيلة لـ"تهدئة" الجالية المسلمة الكبيرة داخل البلاد. وبالمثل، كتب السفير البريطاني السابق لدى إسرائيل، سايمون ماكدونالد – وهو من مؤيدي اعتراف حكومة ستارمر – في صحيفة الغارديان: "لا توجد دولة فلسطينية، وبالتأكيد لن تكون هناك واحدة بحلول أيلول/سبتمبر. ولأسباب سياسية محلية في الغالب، قرروا تجاهل هذه الحقيقة. الاعتراف مجرد إيماءة مفهومة، لكنه لن يسهم في معالجة المجاعة الراهنة، وسيكون محكوماً عليه بالفشل على المدى القصير لأنه لا توجد دولة حقيقية للاعتراف بها."
المفارقة أن هذه الحكومات، التي طالما انتقدت السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بدعوى أنها مفرطة التسييس الداخلي، أقدمت هي الأخرى على خطوة مدفوعة إلى حد كبير باعتبارات داخلية، خطوة قد تضمن عملياً أن تظل فكرة الدولة الفلسطينية محكومة بالفشل على المدى الطويل أيضاً.
الواقع الثابت منذ عام 1967 هو أن إسرائيل – التي تسيطر على الضفة الغربية، وأعادت بسط سيطرتها على غزة نتيجة عمليتها العسكرية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر – تحتاج إلى قناعة راسخة بأن أمنها سيزداد قوة، لا ضعفاً، في حال انسحبت إقليمياً وقبلت بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة ومنزوعة السلاح. وهذا يتطلب إقناع شريحة واسعة من الرأي العام الإسرائيلي، وهي شريحة أكبر بكثير اليوم مما كانت عليه في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لكنها أكثر تشككاً من أي وقت مضى. ومع ذلك، تتجاهل الدول التي لجأت إلى الرمزية السهلة للاعتراف بفلسطين هذا الواقع المعقد.
صحيح أن الأحزاب المؤيدة للمستوطنين باتت لاعباً أساسياً في الحكومة الإسرائيلية الحالية، وهو ما ظهر في التصويت البرلماني الأخير لصالح ضم الضفة الغربية، وهو قرار لم يكن له أي أثر عملي سوى تغذية أسوأ مخاوف منتقدي إسرائيل وزيادة توتر علاقاتها مع أقرب شركائها. لكن الواقع الأعمق هو أن الانتفاضة الثانية، تلاها عقدان من الجمود الدبلوماسي، ثم صدمة هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، كلها عوامل دفعت بالمركز السياسي الإسرائيلي – الذي كان يوماً أكثر انفتاحاً – إلى الاصطفاف ضد حل الدولتين.
ولو كانت فرنسا وبريطانيا وكندا جادة فعلاً في إعادة إحياء فكرة الحل التفاوضي للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، لكانت البداية الطبيعية هي معالجة المخاوف المشروعة للإسرائيليين العاديين. فبدون دعمهم، لن تقوم للدولة الفلسطينية قائمة. وكان من الممكن أن تكون نقطة انطلاق قوية إقناع محمود عباس بالالتزام بذلك "الشرط الأساسي" الذي حدده نتنياهو نفسه قبل ستة عشر عاماً: الاعتراف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي.
روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لمعهد واشنطن، ويشغل كرسي "هوارد ب. بيركوفيتز" في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. نُشرت هذه المقالة في الأصل على موقع "تكفا".