- تحليل السياسات
 - صفحات رأي ومقالات
 
المبادرات العالمية للصين تستحق أن تؤخذ على محمل الجد
Also published in "فورين بوليسي"
  تتسم المبادرة السياسية الأخيرة التي أطلقتها بكين بالغموض، غير أن هذا الغموض نفسه قد يمنحها نفوذاً دبلوماسياً ويساعدها على توحيد بلدان قد تتباين مصالحها مع مصالح الصين.
قليل من الدول تُجيد الترويج لمبادراتها السياسية الخارجية ذات الأسماء الرنانة كما تفعل الصين. فبعد "مبادرة الأمن العالمي للبيانات" عام 2020، و"مبادرة التنمية العالمية" عام 2021، و"مبادرة الأمن العالمي" عام 2022، ومبادرتي "الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي والحضارة العالمية" عام 2023، أطلقت الصين مؤخراً أحدث مقترحاتها لعام 2025 تحت مسمى "مبادرة الحوكمة العالمية" (GGI).
وفي حين أن النسخ السابقة من مبادرات السياسة الخارجية الصينية حملت تسميات مثل "الانطلاق نحو الخارج" و"العالم المتناغم" و"مبادرة الحزام والطريق"، فإن التركيز الحالي على المبادرات "العالمية" يعكس رغبةً أكثر تماسكاً في صياغة المشهد الجيوسياسي الراهن وفقاً لرؤيتها الخاصة. ومع ذلك، ومهما تنوّعت تسميات هذه المبادرات، يظل من الصعب تحديد تأثيراتها بدقة أو قياس مداها الفعلي.
وينطبق هذا أيضاً على مبادرة الحوكمة العالمية، التي أُعلن عنها خلال الاجتماع السنوي لمنظمة شنغهاي للتعاون في مدينة تيانجين الصينية في الاول من أيلول/سبتمبر. ووفقاً لـ"ورقة المفاهيم" الصادرة عن الحكومة الصينية بشأن المبادرة، فإنها تهدف إلى جعل المؤسسات الدولية "أكثر قدرة على العمل، وأكثر فعالية، وأسرع استجابة للتغيرات والتحديات العالمية المختلفة، بما يخدم مصالح جميع الدول، ولا سيما الدول النامية."
رغم غموض أهدافها، لم تُخيّب المبادرة توقعات الجمهور المستهدف للرئيس الصيني شي جين بينغ. فقد أعلن قادة منظمة شنغهاي للتعاون، ومعظمهم من دول آسيا الوسطى عن دعمهم للمبادرة، بينما أعربت دول أخرى لم تكن حاضرة أو عضواً في المنظمة، مثل كوبا ونيجيريا، عن دعمها لـ"مبادرة الحوكمة العالمية" من خلال وسائل الإعلام المحلية.
لكن كيف تختلف "مبادرة الحوكمة العالمية" عن مبادرات الإصلاح العالمية السابقة في دول أخرى؟ وما الذي تطرحه الصين عملياً لجمهورها المستهدف؟
حتى الآن، يبدو أن الإجابة محدودة للغايةً. فعلى سبيل المثال، استخدمت البرازيل رئاستها لمجموعة العشرين في عام 2024 لتعزيز أجندة مشابهة إلى حد كبير، ركزت على "إصلاح شامل" للحكم العالمي. وقد منحت البرازيل الأولوية للأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية (WTO) تمثيل دول الجنوب العالمي في الهيئات المتعددة الأطراف، إلى جانب مجموعة من القضايا التي تُظهر الصين اهتماماً متزايداً بمعالجتها اليوم. ومن المحتمل أن تكون جهود البرازيل مصدر إلهام مباشر للمبادرة، نظراً لأوجه التشابه الكبيرة بينهما.
في المقابل، يبدو أن الصين أطلقت هذه المبادرة من دون تحديد إطارٍ زمني واضح أو أهدافٍ ملموسة. فبينما تُركّز "مبادرة الحوكمة العالمية" من حيث المبدأ على إصلاح المؤسسات الدولية، لم تُبيّن بكين بعدُ المجالات ذات الاهتمام المشترك التي تسعى إلى تطويرها، أو حتى الأسباب التي تجعلها ترى نفسها الدولة الأنسب لقيادة هذا الحوار.
ومن المؤكد أن عدداً من كبرى الدول غير الغربية، مثل البرازيل والهند والمملكة العربية السعودية، طالبت منذ فترة طويلة بإصلاح نظام العضوية الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، رغم أن الصين كانت قد عرقلت بعضاً من هذه المقترحات في السابق. وفي الوقت نفسه، بدأت كلٌّ من الصين والهند تميلان مؤخراً إلى الاصطفاف مع الدول الأكثر ثراءً، مثل اليابان والولايات المتحدة والدول الأوروبية، في الدفاع عن الإعانات الزراعية داخل منظمة التجارة العالمية. ويمثل ذلك مشكلة حقيقية للدول الفقيرة المنتجة للقطن مثل بنين وبوركينا فاسو وتشاد ومالي، التي تعتمد على تصدير القطن، ولكنها تواجه صعوبة في منافسة الدعم الحكومي السخي الذي تقدّمه القوى الكبرى -إذ أنفقت الولايات المتحدة نحو 700 مليون دولار سنوياً على مزارعي القطن بين عامي 2010 و2019، في حين قدّمت الصين خلال الفترة نفسها نحو 41 مليار دولار من الإعانات لقطاع القطن.
يمثل هذا التحول داخل منظمة التجارة العالمية تطوراً مؤلماً للدول الفقيرة التي تعتمد بشكل أكبر على قطاعاتها الزراعية كمصدر رئيسي للدخل والتوظيف، والتي كانت تأمل أن تنتهج الصين سلوكاً مغايراً لما فعلته الدول الغنية التي سبقتها. لكن بدلاً من ذلك، تؤدي الإعانات الزراعية الضخمة إلى خفض دخول المزارعين وتقليص فرص التصدير أمام بعضٍ من أكثر المنتجين ضعفاً في العالم. ومن المستبعد أن تُغيّر المبادرة هذا الواقع نحو الأفضل، طالما أن المصالح الاقتصادية المحلية للصين نفسها تظل عاملاً أساسياً في الحفاظ على الوضع القائم.
في الواقع، يكشف تركيز الصين على منظمة التجارة العالمية عن اهتمامٍ واضحٍ بتعزيز بعض ركائز النظام الدولي الليبرالي القائم، الذي بات يخدم مصالحها الحالية بعد أن تحولت إلى دولة تمتلك صناعات قادرة على المنافسة عالمياً وتعتمد بدرجة كبيرة على أسواق التصدير لدعم نمو الناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، يبقى من غير الواضح ما إذا كانت الدول منخفضة الدخل ذات القواعد الصناعية الأضعف تؤيد إحياء نظام منظمة التجارة العالمية، أم أنها تطمح إلى نموذج أكثر جذرية وعدالة في بنيته.
وبعبارة أخرى، فالصين اليوم ليست الصين التي كانت بالأمس. فعلى الرغم من حرصها المستمر على تقديم نفسها بوصفها الصوت الأبرز للجنوب العالمي، فإن نجاحاتها الاقتصادية – إلى جانب هشاشتها البنيوية – دفعتها إلى تبني مواقف سياسية تتعارض بالضرورة مع مصالح العديد من الدول المنتمية إلى تلك الكتلة. وحتى داخل الأوساط الأكاديمية، بات أبرز المفكرين الصينيين في العلاقات الدولية ينظرون إلى العالم من منظور القوة العظمى، على خلاف نظراءهم في الجنوب العالمي الذين يميلون إلى تبني رؤى تعكس مخاوف الدول الصغيرة والهامشية.
بدلاً من ذلك، قد تسعى الصين إلى استغلال المبادرة لتسليط الضوء على التطورات التي يشهدها "بنك الاستثمار الآسيوي للبنية التحتية" و"البنك الجديد للتنمية". ومع ذلك، من المرجح أن تحتفي بكين بإنجازاتها سواء أُطلقت مبادرة سياسية جديدة أم لا. كما يبدو من المبالغة الافتراض بأن مؤسسات كهذه تُعدّ أولوية حقيقية للدول التي تطالب بإصلاح النظام العالمي، في ظل وجود العديد من البنوك الإنمائية المتعددة الأطراف التي تقوم بأدوار مشابهة بالفعل.
وبالتالي، يبدو حالياً أن القاسم المشترك الوحيد الذي يوحّد الجمهور الدولي المستهدف من قبل الصين حول مبادرة الحوكمة العالمية هو الإحساس العام بضرورة الإصلاح، غير أن ذلك لا يجعل المبادرة بلا تأثير.
فميزة الصين في إطلاق عدد كبير من مبادراتها في السياسة الخارجية تكمن في قدرتها على تجاهل الدول التي لا تؤيدها بسهولة. فعلى سبيل المثال، من غير المرجح أن تدعم الحكومة السورية الجديدة المبادرة الصينية بسبب وجود مقاتلي "الحزب الإسلامي التركستاني" ضمن مؤسستها العسكرية (وهو تنظيم تعتبره الصين منظمة إرهابية)، لكنها قد تجد راحة أكبر في تأييد مبادرة الحوكمة العالمية باعتبارها مبدأً ذا طابع غير عدواني.
في المستقبل، من المرجح أن تواصل الصين الادعاء بتحقيق انتصارات جيوسياسية تحت مظلة "مبادرة الحوكمة العالمية"، وأن تستخدمها كمنصة لطرح رؤاها بشأن التغييرات التي ترغب في رؤيتها عندما تتاح الفرص المناسبة. فعلى سبيل المثال، عندما توسطت الصين لإعادة العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران في عام 2023، زعمت وسائل الإعلام الصينية أن هذا الانجاز تحقق في إطار "مبادرة الحوكمة العالمية". ورغم أن ذلك لم يكن هدفاً معلناً عند إطلاق المبادرة، فقد شكّل فرصة مثالية للإعلان عن نجاح دبلوماسي بارز. لكن الأهم من ذلك هو أن المبادرة تكون أكثر فاعلية عندما تبقى أقل تحديداً، إذ يتيح هذا الغموض مساحةً كافية لمختلف الدول لتصوّرها كأداة يمكن أن تخدم تطلعاتها الخاصة - حتى وإن كانت تلك التطلعات تتعارض فعلياُ مع أهداف الصين ذاتها.