
- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
الاعتراف الرمزي بدولة فلسطين... هدية لليمين الإسرائيلي لتعطيل الدولة الحقيقية
Also published in Jewish Chronicle

بدلاً من الإيماءات الفارغة، كان بإمكان القادة الغربيين أن يضغطوا من أجل خطة مفصلة لما بعد الحرب لتأمين غزة، وإزالة "حماس"من السلطة، وإصلاح "السلطة الفلسطينية"، ووضع أسس حقيقية للدولة المستقبلية.
يعتمد رجل الدولة الجيد دائماً على المواءمة بين الأهداف والوسائل. والسؤال هنا: هل الذين يسارعون اليوم إلى الاعتراف بدولة فلسطينية قد حددوا هدفاً يمتلكون الوسائل اللازمة لتحقيقه؟ بل وهل هذا الهدف مناسب أصلاً في هذه المرحلة؟ الجواب، للأسف، هو "لا" على كلا السؤالين. فليس هناك من بين الداعين حالياً إلى إقامة دولة فلسطينية من يستطيع أن يترجم دعوته إلى خطوات عملية تقود إلى إنجاز حقيقي.
نظرياً، إذا كان الاعتقاد السائد أن إسرائيل هي العقبة الرئيسة أمام قيام الدولة الفلسطينية، فإن الضغط عليها قد يبدو وسيلة لتغيير مواقفها. غير أن أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 رسّخت لدى معظم الإسرائيليين، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، قناعة بأن أي دولة فلسطينية ستقع على الأرجح تحت قيادة "حماس"، وبالتالي ستُشكل تهديداً وجودياً لهم. كما قال لي أحد كبار المسؤولين الإسرائيليين: "حتى لو لم يبقَ لنا سوى أظافرنا للقتال، فسوف نمنع ذلك." هذه ليست مجرد كلمات، بل تعبير عن شعور جماعي عميق. لذلك فإن الضغط الخارجي وحده لن يغيّر هذه القناعات؛ ما قد يبدّل المعادلة حقاً هو رؤية الإسرائيليين واقعاً جديداً لدى الفلسطينيين، واقعاً يُدان فيه نهج "حماس" بوضوح، وتُستبدل فيه رواية "المقاومة المستمرة" بأخرى تطرح التعايش والمصالحة. عندها فقط قد يصبح تغيير التصوّر الإسرائيلي ممكناً.
أما بشأن ملاءمة الهدف نفسه في الوقت الراهن، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: من سيقود مثل هذه الدولة المفترضة؟ الواقع أن الفلسطينيين اليوم منقسمون في القيادة؛ فبينما يحظى معظم المجتمع الدولي بالميل لدعم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بدلاً من "حماس" في غزة، إلا أن "السلطة" نفسها فاقدة للشرعية في نظر كثير من الفلسطينيين، ومثقلة بالفساد وضعف الأداء. وعليه، فإن أي دولة فلسطينية يتم الإعلان عنها الآن لن تكون سوى دولة فاشلة منذ ولادتها، حتى لو افترضنا أن إسرائيل وافقت على قيامها. فلماذا إذاً يُدفع باتجاه الاعتراف بها في هذه اللحظة؟
الجواب، في تقديري، يكمن في مزيج من الإحباط والغضب من الكارثة الإنسانية في غزة، مقروناً بعجز المجتمع الدولي عن التأثير المباشر في سياسات الحكومة الإسرائيلية. ولعل هناك أيضاً رغبة في الحفاظ على بصيص من الأمل للفلسطينيين، وفتح أفق سياسي يشير إلى مستقبل ممكن. أما الدول التي اختارت الاعتراف بالدولة الفلسطينية الآن، فهي تسعى قبل كل شيء إلى أن تُظهر أنها تفعل شيئاً؛ سواء كان ذلك نابعاً من شعور حقيقي بضرورة التحرك، أو من استجابة لضغوط سياسية داخلية تدفعها لإثبات أنها تتحرك بالفعل. أفهم حجم الإحباط والغضب، بل وحتى الحاجة لإبقاء أفق سياسي قائماً أمام الفلسطينيين. غير أنني أعتقد أن النهج الأكثر واقعية وفاعلية في هذه اللحظة يجب أن يركز أولاً على إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، ثم الانتقال إلى تطوير خطط جادة لما بعد انتهاء الحرب هناك.
ومن هنا يبرز السؤال: لماذا لم يتبنَّ المجتمع الدولي نهجاً جماعياً يُصر على أن تعمل الأمم المتحدة مع "مؤسسة غزة الإنسانية" بدلاً من مقاطعتها؟ ولماذا لم تهتم الدول التي سارعت اليوم للاعتراف بدولة فلسطينية بمسألة أساسية وعاجلة مثل ضمان وصول المساعدات إلى من هم في أمسّ الحاجة إليها؟ بل لماذا لا تُبذل الجهود حالياً لتصميم خطة انتقالية لإدارة غزة عندما تضع الحرب أوزارها؟
الخطة العربية التي طرحتها مصر بعد الحرب كانت خطوة ناقصة؛ إذ تناولت جانب الإعمار وكيفية تنفيذه دون إجلاء السكان، لكنها تجاهلت تماماً قضية نزع السلاح من غزة، وهو شرط جوهري لأي إعادة إعمار مستدامة. فمن سيغامر بالاستثمار في غزة إذا ظلت "حماس" محتفظة بترسانتها وقادرة على إعادة بناء قوتها العسكرية وإشعال حرب جديدة؟ أليس الأجدر أن يعمل البريطانيون والفرنسيون والكنديون مع الدول العربية على إعداد خطة انتقالية واضحة، تركز على الأمن والقانون والنظام، وتضع آليات لمنع التهريب، ومجموعات عمل متخصصة لمعالجة الأولويات: إزالة الأنقاض والقنابل، الصحة، المياه، الكهرباء، التعليم؟ مثل هذه الخطة لا بد أن تتضمن أيضاً برنامجاً لإصلاح السلطة الفلسطينية نفسها، مع معايير دقيقة للشفافية في الميزانية والاستثمارات والحوكمة، باعتبارها شرطاً أساسياً لتوليها المسؤولية في غزة بعد فترة انتقالية تمتد بين سنتين وثلاث سنوات.
الطريقة الأكثر فعالية لممارسة الضغط على حكومة نتنياهو لم تكن بمجرد الاعتراف الرمزي بدولة فلسطينية، بل بتقديم خطة متكاملة وعلنية لما بعد الحرب، تضع بديلاً عملياً لـ"حماس" وتُظهر أن هناك طريقاً آخر قابلاً للتنفيذ. فاليوم أكثر من 70% من الإسرائيليين يؤيدون إنهاء الحرب إذا كان ذلك سيؤدي إلى تحرير الرهائن، لكنهم لن يقبلوا إنهاءها من دون بديل حقيقي لـ"حماس". غياب مثل هذه الخطة العامة سمح لحكومة نتنياهو بالمماطلة والاستمرار، بينما كان يمكن لمجرد وجودها أن يضاعف الضغط عليها داخلياً وخارجياً.
خطة جادة، خطوة بخطوة لليوم التالي، كانت ستشكل أداة عملية للضغط على "بيبي"، كما كانت ستمنح المجتمع الدولي وسيلة للاستعداد بشكل ملموس لما بعد الحرب. بدلاً من ذلك، نجد أن الاعتراف الرمزي بدولة فلسطينية لن يغير شيئاً على أرض الواقع. بكلمة واحدة: "لا شيء". مرة أخرى، تُستبدل الرموز بالجوهر، ويُترك الفلسطينيون ليدفعوا الثمن.
المعضلة أن هذه الرموز لا تخدم الفلسطينيين وحدهم فحسب، بل تقدم أيضاً لليمين المتطرف في إسرائيل ذريعة قوية. فهي تمنح شخصيات مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش فرصة للضغط من أجل ضم المزيد من أراضي الضفة الغربية، بل وحتى إعادة توطين غزة، في إطار استراتيجية واضحة تهدف إلى إغلاق الباب أمام أي احتمال لقيام دولة فلسطينية في المستقبل.
التركيز الحقيقي يجب أن يكون على وقف الحرب. هذا هو الطريق الوحيد لتقديم الإغاثة العاجلة لأهل غزة، وهو السبيل الوحيد أيضاً لإنقاذ حياة الرهائن الإسرائيليين الذين ما زالوا أحياء. فالوقت ينفد، وحماس، رغم هزيمتها عسكرياً وتحولها إلى مجرد تنظيم إرهابي، لا تزال تحتفظ بقدرة على تعطيل أي اتفاق. الحرب لا يمكن أن تنتهي من دون بديل لـ"حماس" في غزة. لذلك تبقى الإدارة الانتقالية الجادة، تحت إشراف إقليمي ودولي، هي المدخل الوحيد القابل للتنفيذ، شرط أن تتولى أيضاً مسؤولية الأمن والنظام والقانون، مع إشراك السلطة الفلسطينية ولكن في إطار إصلاحي حقيقي، وإطلاق عملية ملموسة لنزع السلاح. إن صيغة "الإعمار مقابل نزع السلاح" يجب أن تكون المبدأ الحاكم لأي خطة، فهي السبيل لضمان إعمار مستدام وحياة آمنة.
أما الدول التي تكتفي اليوم بالاعتراف بدولة فلسطينية من دون وضع أي شروط على طبيعة هذه الدولة أو قدرتها على الحكم، فعليها أن تتجاوز الخطاب الرمزي، وأن تبدأ فوراً في رسم ملامح ما بعد الحرب في غزة. ذلك يمكن أن يشكل الخطوة الأولى في مسار عملي، خاصة إذا جرى إلزام السلطة الفلسطينية بإصلاحات حقيقية لا مجرد وعود، بما يتيح بناء أرضية للتعاون مع إدارة ترامب وتهيئة الأساس للضغط على إسرائيل لتسهيل عمل السلطة بدلاً من تعقيده.
إضافة إلى ذلك، إذا كان الرئيس ترامب ما زال يطمح في تحقيق تطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وهو أمر بات اليوم أبعد من أي وقت مضى، فعليه أن يوقف تمدد سموتريتش وسياساته الاستيطانية التي تعيد تشكيل الضفة الغربية. كما يجب وضع حد لفوضى المستوطنين المتطرفين وشباب "قمم التلال" الذين يتحركون تحت حماية وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. صحيح أن الدولة الفلسطينية قد لا تكون قابلة للتحقق في المستقبل القريب، لكن يتعين على الرئيس ترامب أن يضمن أن هذه الحكومة الإسرائيلية لا تفرض وقائع تجعلها مستحيلة إلى الأبد.
"دينيس روس" هو زميل "ديفيدسون" المتميز في معهد "واشنطن" ومسؤول سابق كبير في إدارات "ريغان" و"بوش" و"كلينتون" و"أوباما". نُشرت هذه المقالة أصلاً على موقع الكرونيكل اليهودي.