- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4126
واشنطن بحاجة للتدخل في اختيار اللجنة "التكنوقراطية واللاسياسية" الحاكمة لغزة
ثمة حاجة ملحة لإجراء أمريكي عاجل يضمن عدم تسلل "حماس" وأنصارها عبر باب خلفي إلى مختلف الهيئات التي ستحكم القطاع، مع معالجة المعضلات الحقيقية التي تواجه القادة في القاهرة وسائر العواصم العربية.
بينما تتواصل الجهود الأمريكية والدولية المكثفة لتثبيت وقف إطلاق النار في غزة وإنشاء قوة استقرار دولية (ISF)، تبدى واشنطن تولي اهتماماً أقل لمسألة الحوكمة المدنية في القطاع. وفي الوقت ذاته، تجري جهود إقليمية لتأمين اتفاق بين السلطة الفلسطينية و"حماس" حول تشكيل "اللجنة الفلسطينية التكنوقراطية واللاسياسية" التي ستتولى حكم غزة بصفة مؤقتة. وما لم توضح واشنطن تفضيلاتها وخطوطها الحمراء في هذا الشأن، فإنها تخاطر بإضفاء الشرعية على دور مستقبلي لـ"حماس" هناك، مما قد يخلق واقعاً مغايراً لأولوياتها الاستراتيجية.
الإشكالات في النهج الحالي
تطرح خطة السلام التي وضعها الرئيس "ترامب" خطوطاً عريضة حول الحوكمة المدنية في غزة، غير أنها تبقى غامضة نسبياً وتفتقر إلى التفاصيل التشغيلية، مما يجعلها قابلة للتأويل. فالمادة 9 تنص على أن "تُحكم غزة في إطار الحوكمة الانتقالية المؤقتة من خلال لجنة فلسطينية تكنوقراطية ولاسياسية"، على أن يوفر "مجلس السلام" "الإشراف والرقابة" اللازمين. وستواصل اللجنة عملها "إلى أن تستكمل السلطة الفلسطينية برنامج إصلاحها". وتنص المادة 13 على أن "توافق حماس والفصائل الأخرى على عدم الاضطلاع بأي دور في حوكمة غزة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر أو بأي صورة كانت"، إلا أن باقي المادة يتناول نزع السلاح في غزة عوضاً عن حوكمتها. ويطرح هذا الغموض جملة من الأسئلة العملية.
والسؤال الأكثر إلحاحاً وفورية هو: من يحدد تشكيل اللجنة وصلاحياتها؟ تسعى مصر لحسم هذا الأمر من خلال التوصل إلى اتفاق بين السلطة الفلسطينية و"حماس"، وقد دعت إلى "حوار فلسطيني" لمناقشة ذلك، إضافة إلى نزع السلاح ومسائل أخرى. وبالرغم من أن الحوار لم ينطلق رسمياً بعد، تجري السلطات المصرية حالياً سلسلة من المحادثات الأولية المنفصلة مع السلطة الفلسطينية و"حماس" وفصائل فلسطينية أخرى، كما يجري بالفعل تداول قوائم بأسماء أعضاء اللجنة المقترحين. وتشير التقارير إلى أن "حماس" أبدت مرونة بشأن تشكيل اللجنة، إذ تدرك أن ترشيح أعضائها أو المنتسبين إليها لن يكون مقبولاً.
ستتولى اللجنة الجوانب المدنية لإدارة غزة، كالصحة والتعليم. وفي حال نجحت، فإنها ستعزز شرعية كل من البنية الهيكلية لغزة في مرحلة ما بعد الحرب وأعضاء اللجنة أنفسهم. أما إذا كان أداؤها ضعيفاً أو نشأ فراغ في الحوكمة، فسيكون للأمر الأثر المعاكس. وإلى جانب أعضاء اللجنة، الذين يتعين أن يكونوا لاسياسيين بشكل ظاهر، سيكون من الضروري الاستعانة بالموظفين الحكوميين الحاليين، الأمر الذي يثير قضايا معقدة تتعلق بالبيروقراطيين الذين خدموا في ظل حكومة "حماس". فاستبعادهم جميعاً قد يخلق فراغاً، لكن سيكون من الصعب الفصل بين التكنوقراطيين وأعضاء الجهاز السياسي. ولذا يتعين وضع معايير للفحص بمشاركة إسرائيل ومصادر أخرى.
كما تشارك "حماس" في العملية التي تقودها مصر لأنها ترى فيها سبيلاً لإضفاء الشرعية على دورها في مستقبل غزة والسياسة الفلسطينية بوجه عام. وحتى إن لم تشارك الحركة بشكل مباشر في حكم القطاع، فإن مشاركتها الرسمية في إنشاء اللجنة والموافقة عليها يشكل في حد ذاته إنجازاً سياسياً، يجعل من هذه المنظمة الإرهابية فاعلاً شرعياً في غزة ما بعد الحرب وفي السياسة الفلسطينية. أما السلطة الفلسطينية، فهي تتحفظ على مشاركة "حماس" لكنها ليست في موقف يمكنها من منع ذلك.
وهذا النهج إشكالي؛ إذ أن اللجنة التي تُشكل بهذه الطريقة ستخالف على الأرجح النص الصريح للخطة التي تحدد أن "حماس" لا تضطلع بأي دور "بأي صورة كانت". كذلك ستعارض إسرائيل بشدة مثل هذه اللجنة، فيما ستكون الدول العربية المناهضة بشدة لـ"حماس" أقل ميلاً للمساهمة في جهود إعادة الإعمار بعد الحرب.
غير أن المقاربة المصرية تعكس معضلات حقيقية. فالقاهرة تشعر بإلحاح فعلي لمعالجة مسألة الحوكمة المدنية بغية إيجاد بديل فوري للحكم المباشر لـ"حماس"، وبالتزامن مع نزع السلاح، للشروع في تعافي غزة وإعادة إعمارها. وكما يشير المسؤولون المصريون، لم يُطرح بعد أي بديل عملي، وفي غياب نهج دولي مختلف، يظل تأمين موافقة "حماس" السبيل البراغماتي الوحيد لضمان عدم تعطيل "حماس" لعمل هيكل الحوكمة في غزة ما بعد الحرب.
ما البدائل المتاحة؟
الحل الواضح يكمن في أن يتولى "مجلس السلام" مهمة تشكيل اللجنة. لكن قبل ذلك، يجب إنشاء المجلس نفسه والشروع في عملياته، مع توفير ذراع تنفيذية قوية قادرة على معالجة هذه المسألة. سيترأس الرئيس "ترامب" هذا المجلس، بيد أنه لم تُقدَّم أي معلومات حول الدول والمسؤولين الذين سيشكلونه، مما يستدعي وضوحاً عاجلاً على هذا الصعيد.
وعلاوة على ذلك، رغم أن خطة "ترامب" تشير ضمنياً إلى ضرورة اضطلاع المجلس بهذا الدور، سيظل بحاجة إلى مصادر إضافية للشرعية. ومن الخيارات المطروحة منحه هذه السلطة بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي. وفي الواقع، يدرس مجلس الأمن حالياً - بحسب التقارير - قراراً يتعلق بقوة الاستقرار الدولية. إلا أن مثل هذه القرارات تكون أكثر فاعلية حين تُصاغ بشكل محدد، وتوسيع نطاق القرار الذي يجري العمل عليه حالياً قد يضعف الولاية الأمنية لقوة الاستقرار الدولية.
وثمة خيار آخر يتمثل في أن يسعى المجلس للحصول على دعوة من السلطة الفلسطينية، بوصفها الممثل الفلسطيني المعترف به دولياً، للاضطلاع بهذا الدور. وهذا من شأنه أن يرضي الدول العربية، التي أصرت كثير منها منذ أمد طويل على أن يأتي دورها في غزة عبر دعوة من السلطة الفلسطينية. بيد أن هذا النهج سيتعارض أيضاً بشكل حاد مع رفض إسرائيل لأي دور للسلطة الفلسطينية. ولهذا يتعين على المسؤولين التوضيح جلياً أن دور السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة سينحصر في توجيه الدعوة فحسب، وأنها لن يكون لها أي دور في اختيار أعضاء اللجنة أو تسيير عملياتها. وهذا يتماشى مع مطالبة الخطة بإصلاح السلطة الفلسطينية.
توصيات السياسة الأمريكية
على المدى القريب، يتعين على إدارة "ترامب" أن تؤكد من جديد وبشكل عاجل رفضها لأي عملية تمنح "حماس" دوراً في تشكيل اللجنة والموافقة عليها. فالعملية التي تقودها مصر تسير قدماً بوتيرة جيدة؛ وإن أثمرت قبل أن تتخذ واشنطن موقفاً واضحاً، سيغدو من الصعب جداً إيجاد بديل مقبول في مرحلة لاحقة، وقد يضع ذلك الولايات المتحدة في مواجهة مصر وفاعلين إقليميين آخرين.
ويتعين على واشنطن أيضاً طرح النهج البديل العملي المتمثل في إسناد مهمة تشكيل اللجنة إلى مجلس السلام. وهذا يتطلب إجراءً سريعاً لتشكيل المجلس وإنشاء ذراعه التنفيذية. فالحوكمة المدنية ليست سوى واحدة من عدة قضايا في الخطة تحتاج إلى مزيد من التوضيح. وقضايا من قبيل تنسيق ولاية اللجنة وعملها مع ولاية قوة الاستقرار الدولية تتسم بنفس القدر من الأهمية والتعقيد. ومن المرجح ألا تمتلك واشنطن القدرة على التعامل مع مثل هذه القضايا التفصيلية عند بروزها مستقبلاً. فالانخراط الأمريكي رفيع المستوى منذ توسط الرئيس "ترامب" في وقف إطلاق النار كان أمراً لا غنى عنه لتثبيته، لكن استمرار هذا النمط من التدخل قد يكون مُرهقاً على المدى البعيد، وينبغي استخدامه بحذر وفقط استجابة للأزمات الحادة أو لحسم المسائل السياسية الكبرى، لئلا يفقد نجاعته. فيجب ترك الأمر للمجلس لوضع التفاصيل، وكلما أُنشئ في وقت أبكر، كانت السيطرة التي تمتلكها الولايات المتحدة على تفسير الخطة وتنفيذ جوانبها المختلفة أكبر.
ويتعين على واشنطن أيضاً إبلاغ الوسطاء بضرورة فصل الحوكمة المدنية في غزة عن نزع سلاح "حماس". فخطة "ترامب" تعترف بأن نزع السلاح سيكون عملية، وبالنسبة لبعض الجوانب، تترك حتى احتمال أن تستلزم هذه العملية تفاهمات مع "حماس" حول كيفية نزع السلاح (كالإشارة إلى "برنامج إعادة شراء وإعادة دمج"). وهذا يعكس تعقيد نزع السلاح ويتبع عموماً النهج المعتمد في عمليات نزع السلاح بأماكن أخرى.
أما الحوكمة، فهي أوضح بكثير، ولا يوجد مبرر مقنع لإضفاء الشرعية على "حماس" بجعلها شريكاً رسمياً في اختيار نظام الحوكمة الجديد. ويمكن معالجة أي مخاوف من احتمال تعطيل "حماس" للحوكمة من خلال تفاهمات بين الوسطاء و"حماس"، دون أن يُكرَّس ذلك في اتفاق يمنح الحركة مكانة رسمية.
إن الشعور بالإلحاح في القاهرة وسائر العواصم العربية إزاء تشكيل اللجنة مُبرر ويعكس فعلاً الاحتياجات القائمة في غزة. ولإقناع هذه الدول بتغيير نهجها الحالي، يتعين على واشنطن طمأنتها بأن ثمة بديلاً مقبولاً يحول دون نشوء فراغ في الحوكمة سيكون متاحاً قريباً.