- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4147
سدّ الفجوة المؤسسية في استراتيجية ترامب للشرق الأوسط
يتوقف نجاح النهج الجديد للإدارة على تحديث الأدوات والهياكل المؤسسية داخل الحكومة الأمريكية، بما يمكّنها من دعم طموحاتها السياسية وإدارة المخاطر الاستراتيجية المترتبة عليها بفاعلية.
يُعيد النهج السياسي الجديد لإدارة "ترامب" تجاه الشرق الأوسط، كما ورد في استراتيجية الأمن القومي الصادرة حديثاً، توجيه تركيز الولايات المتحدة بعيداً عن الوجود العسكري المباشر ومكافحة الإرهاب والتكامل الأمني، نحو مقاربة تقوم على الشراكة والصداقة والاستثمار. وقد عكست زيارة ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" إلى واشنطن في تشرين الثاني/نوفمبر هذا التحول بوضوح، حيث تميزت بلقاءات رفيعة المستوى ومنتدى استثماري وسلسلة واسعة من الاتفاقيات الهادفة إلى توسيع التعاون في هذه المجالات.
لكن تحويل هذه الاتفاقيات إلى واقع عملي يتطلب عنصراً تفتقر إليه الحكومة الأمريكية حالياً، وهو بنية تنظيمية قادرة على حوكمة المبادرات التي أصبحت محور التعاون مع الشركاء الإقليميين. ولضمان نجاح الاستراتيجية الجديدة، لا بد أن تواكب قدرات الإدارة التنفيذية طموحاتها السياسية، وذلك من خلال تحديث أنظمة مراقبة الصادرات الأمريكية، وتعزيز أدوات فحص الاستثمارات، وتطوير إطار شفاف وواضح لإدارة ملف المعادن الحيوية.
رصد الفجوة بين المعالم الدبلوماسية والمخاطر الاستراتيجية
اعتبرت واشنطن والرياض زيارة ولي العهد ناجحة للغاية، نظراً لما أسفرت عنه من سلسلة إعلانات رئيسية، أبرزها:
• اتفاقية دفاع استراتيجي ثنائية تُسهّل عمل الشركات الدفاعية الأمريكية داخل المملكة
• التعيين الرسمي للمملكة العربية السعودية كـ"حليف رئيسي من خارج الناتو"، ما أتاح الموافقة على مبيعات طائرات "إف-35"
• زيادة كبيرة في حجم الاستثمارات السعودية المقترحة في الولايات المتحدة من 600 مليار دولار إلى تريليون دولار
• إطار عمل للتعاون في مجال المعادن الحيوية
• مذكرة تفاهم بشأن الذكاء الاصطناعي، رافقها إقرار بيع 35 ألف شريحة متقدمة من شركة "إنفيديا" للمملكة
• إعلان مشترك لتوسيع التعاون في مجال الطاقة النووية المدنية
في حين تندرج الإعلانات الثلاثة الأولى ضمن مجالات التعاون التقليدية بين الولايات المتحدة والسعودية، تعكس الإعلانات الأخرى تحولاً إقليمياً واضحاً. فإدارة "ترامب" تسعى إلى إعادة توجيه الشراكات الأمريكية مع دول الخليج نحو بناء نظام بيئي للتقنيات الناشئة، وتنويع سلاسل توريد المعادن الحيوية وتأمين استقرارها، بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية للطاقة اللازمة لدعم هذه الجهود مجتمعة. لكن هذه الطموحات، كما أشرنا سابقاً، ما تزال تصطدم بفجوة قائمة بين الأهداف المعلنة وبين أدوات تنظيمية أمريكية غير محدثة بالقدر الكافي لتحقيقها.
لا شك أن التقنيات المتقدمة تفتح آفاقاً واسعة للتحديث الاقتصادي، وتغدو عنصراً متزايد الأهمية في العلاقات الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة. إلا أن هذه التقنيات نفسها تنطوي على مخاطر استراتيجية، فتوسيع التعاون قد يتيح للشركاء الوصول إلى قدرات متقدمة في مجالات حساسة مثل المراقبة والأمن الداخلي والاستقلالية العسكرية والقدرات النووية الكامنة، فضلاً عن النفوذ في سلاسل التوريد. كما أن مجالات التعاون الجديدة المقترحة ذات طابع عالمي وسريعة التطور، بوتيرة تفوق التكنولوجيا العسكرية التقليدية، ما يجعلها أصعب في الرصد والضبط. وبدون بنية تنظيمية محدثة، تخاطر الولايات المتحدة بأن تجد نفسها أمام تداعيات استراتيجية غير متوقعة، من دون الجاهزية أو الأدوات اللازمة للتعامل معها بفعالية.
الذكاء الاصطناعي والشرائح الإلكترونية
يأتي التعاون في مجالي الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا أشباه الموصلات في صدارة جدول الأعمال الأمريكي-الخليجي. وتمثل موافقة إدارة "ترامب" على بيع أكثر شرائح "إنفيديا" تقدماً إلى كلٍّ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، حيث من المقرر أن تتلقى الإمارات أيضاً 35 ألف شريحة، أكبر عملية نقل أمريكي لتكنولوجيا الحوسبة المتقدمة إلى أي شريك أجنبي حتى الآن. وتُعد هذه المبيعات محورية لطموحات البلدين في مجال الذكاء الاصطناعي، سواء على صعيد تدريب النماذج أو نشرها وتشغيلها. لكن الهدف منها لا يتمثل في دفع السعودية والإمارات إلى صدارة السباق العالمي في تطوير الذكاء الاصطناعي بقدر ما يهدف إلى ضمان عدم استبعادهما من هذا السباق. فبينما لا تزال الريادة في هذا القطاع بيد الشركات الأمريكية، فإن إتاحة الوصول إلى قدرات حوسبة متقدمة ستمكّن دول الخليج من بناء قدراتها المحلية والإقليمية، وفي الوقت نفسه توسيع أسواق الشركات الأمريكية.
بموجب ضوابط التصدير التقليدية، يرتبط تقييم المخاطر بمكان وجود الأجهزة فعلياً. إلا أن من المرجح توزيع الشرائح المباعة للسعودية عبر مراكز بيانات أمريكية وسعودية جرى تطويرها ضمن مشاريع مشتركة تُعقّد مسألة الملكية وتداخل الوصول. وحتى في حال حصر الأجهزة داخل منشآت أمريكية، فإن تقييم المخاطر لا بد أن يشمل من يمتلك القدرة على الوصول إليها أو التأثير عليها عن بُعد، وهو ما يستدعي اعتماد ضوابط قائمة على الحوسبة السحابية وأطر تنظيمية تركز على التحكم في الوصول لا على الموقع فقط.
أما الشاغل الأبرز، فيتمثل في احتمال تسلل الصين أو كيانات أجنبية أخرى تنشط في الخليج إلى تكنولوجيا تمثل ركيزة التفوق التنافسي الأمريكي في مجال أشباه الموصلات. ورغم أن موافقة الرئيس "ترامب" على بيع ثاني أقوى شرائح "إنفيديا" إلى كيانات معتمدة في الصين قد تعكس تراجعاً نسبياً في مستوى القلق بشأن الحفاظ على هذا التفوق، فإن المخاطر تبقى قائمة في جميع الأحوال.
الوصول إلى الاستثمار
ستتطلب استثمارات المملكة العربية السعودية المخطط لها بقيمة تريليون دولار في الشركات الأميركية على مدى العقد المقبل مزيداً من الرقابة أيضاً. وتتمثل آلية الفحص الحالية للأمن القومي لمثل هذه الصفقات في لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، وهي هيئة مشتركة بين الوكالات تقودها وزارة الخزانة.
لكن المشكلة تكمن في أن اللجنة تقيّم مخاطر الأمن القومي الخاصة بالمعاملات فحسب، وليس التأثير الاستراتيجي طويل الأجل أو الوصول التراكمي الذي يمكن أن يتراكم مع توسع صناديق الثروة السيادية عبر القطاعات المحلية. وليس لدى الحكومة الأميركية آلية لتقييم مثل هذا التعرض التراكمي الذي سيصبح ذا أهمية متزايدة مع بدء تحقق الاستثمارات المعلنة.
التعاون النووي المدني
حين يُدار بشكل جيد، يمكن للتعاون في هذا القطاع أن يتيح تطوير الطاقة بكفاءة أكبر مع ضمان بقاء الأنشطة النووية المدنية للشريك دون عتبة الضمانات الدولية. وعلى الرغم من أن الآلية القانونية الأميركية الحالية لمثل هذا التعاون، أي اتفاقية 123، تُعد أداة مهمة للحفاظ على معايير منع الانتشار، إلا أنها باتت عملية بطيئة ومحفوفة بالتعقيدات السياسية، خاضعة لسياسات الكونغرس التي يمكن أن تعطل المفاوضات لسنوات.
لكن الطريقة التي أنهت بها واشنطن والرياض قضية الطاقة النووية المدنية خلال زيارة الشهر الماضي ينبغي أن تمكنهما من تجنب تلك التعقيدات في الوقت الحالي. فبينما ترك ولي العهد الباب مفتوحاً لسيناريوهات مستقبلية يُسمح فيها للمملكة العربية السعودية بإجراء دورة الوقود النووي الكاملة على أراضيها، أشار أيضاً إلى أنه لن يكون فعالاً من حيث التكلفة بالنسبة للمملكة إجراء تخصيب اليورانيوم المحلي في أي وقت قريب.
وبدلاً من ذلك، التزم المسؤولون الأميركيون بالتفاوض على "أساس قانوني لشراكة طاقة نووية متعددة المليارات من الدولارات تمتد لعقود" مع الرياض. وقد يعني هذا أشياء كثيرة مختلفة، كتوفير الولايات المتحدة مفاعلات نمطية صغيرة، أو إدارة الحكومتين بشكل مشترك لمحطات الطاقة النووية على الأراضي السعودية. ورغم أن الالتزام طويل الأجل يتمثل في تطوير صناعة طاقة نووية داخل المملكة، فإن قضية اتفاقيات 123 المعقدة لم تعد ذات صلة في هذه المرحلة، حيث تم تأجيل الأسئلة الحساسة المحتملة حول مخاوف الانتشار حالياً، وقد يتم تجاوزها في نهاية المطاف بفضل طبيعة الصناعة النووية السعودية التي تعمل الرياض وواشنطن على تطويرها معاً بمرور الوقت.
المعادن الحيوية
باتت المعادن النادرة ومعادن البطاريات وغيرها من الموارد المماثلة محورية الآن لبناء التقنيات الناشئة وأنظمة الطاقة النظيفة والتطبيقات العسكرية والتصنيع المتقدم. ولا تزال الولايات المتحدة تعتمد على واردات المعادن النادرة وتسعى إلى تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن جهات فاعلة مثل الصين التي استخدمت هيمنتها على سوق المعادن للتأثير على النزاعات التجارية الدولية. ويُعد أحد الشركاء الجدد المحتملين المملكة العربية السعودية التي تتضمن استراتيجيتها للتنويع الاقتصادي وضع نفسها كمورد رئيسي مستقبلي ومستثمر ومعالج للمعادن الحيوية.
لكن الولايات المتحدة لا تمتلك إطاراً أو استراتيجية كافية لتحديد ما إذا كان هؤلاء الشركاء ومرافقهم يمكن أن يستوفوا المعايير المهمة المتعلقة بالأمن القومي وإمكانية التتبع، أي تتبع أصل المعدن وملكيته وحركته عبر كل مرحلة من مراحل سلسلة التوريد بما في ذلك ربما عبر بلدان عالية المخاطر، فضلاً عن حماية البيئة والعمل. كما تفتقر إلى الأدوات اللازمة لتقييم نقاط الاختناق الاستراتيجية المحتملة ونقاط الضعف اللوجستية والمخاطر السياسية التي تأتي مع زيادة التعاون الأجنبي في هذا القطاع.
وحالياً، تحافظ الحكومة الأميركية على بعض هذه المعايير من خلال شراكة أمن المعادن، إلا أن هذا التكتل يشمل في الغالب دولاً غربية. ولذا فإن البحث عن موردين موثوقين خارج هذه المجموعة سيتطلب من واشنطن توحيد اتفاقياتها مع أنواع مختلفة من الجهات الفاعلة. ومن خلال بناء شراكات آمنة ومتنوعة، يمكن للولايات المتحدة ضمان الوصول الموثوق إلى المواد التي تدعم قدراتها العسكرية ومزاياها التكنولوجية وقاعدتها الصناعية. كما ستكون قدرتها على تشكيل هذه الشراكات في أعلى مستوياتها قبل بناء البنية التحتية وتأسيس الترابط. لكن بدون إصلاح الحوكمة الأميركية، ستتطور هذه الشراكات حتماً بشكل أسرع من الرقابة، مما قد يضع مساراً استراتيجياً محفوفاً بالمخاطر يصعب على واشنطن عكسه.
التوصيات السياسية
لترجمة نهجها الاستراتيجي الجديد إلى نتائج مرغوبة، تحتاج إدارة "ترامب" إلى تحديث وتوسيع الأدوات التنظيمية الأميركية التي تحكم التعاون في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي واستثمارات الثروة السيادية والمعادن الحيوية والقطاعات الأخرى ذات الصلة. ورغم أن الإدارة تميل إلى التمركز في البيت الأبيض عند تنفيذ سياساتها، يتعين عليها تمكين الإدارات الأخرى من تحقيق طموحاتها بالكامل عبر اتخاذ الخطوات التالية:
- ترقية ضوابط التصدير وقواعد الوصول إلى الحوسبة. كما نوقش أعلاه، تحتاج الحكومة الأميركية إلى التطور من التنظيم المتمركز على الأجهزة إلى التنظيم المتمركز على الوصول. ومن الناحية الفنية، يشمل ذلك صياغة وإنفاذ تعاريف واضحة لحيازة الحوسبة والوصول إليها، ومعايير تجزئة المجموعات الافتراضية، وقواعد نقل النماذج المساعدة وسلسلة الأدوات، ومتطلبات الأنظمة الآمنة والقابلة للتدقيق في البنية التحتية المشتركة التطوير. وينبغي أن تقود وزارة التجارة تنفيذ هذه التدابير.
- تطوير مسار في لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة للاستثمار في التكنولوجيا الاستراتيجية. لإنشاء الرقابة الضرورية على استثمارات الثروة السيادية في التكنولوجيا المتقدمة، ينبغي تمكين اللجنة من تجاوز تركيزها الحالي على المعاملات الفردية. وفي المستقبل، يتعين عليها تقييم التعرض التراكمي والتأثير الاستراتيجي، جزئياً من خلال ضمان الشفافية الكاملة من الشركات والحكومات الأجنبية بشأن استخدام البيانات والوصول إلى النماذج والجوانب الأخرى ذات الصلة. ويمكن لوزارة الخزانة الإشراف على هذا المسار.
- إنشاء رقابة لتنويع إمدادات المعادن الحيوية. بينما تسعى الولايات المتحدة إلى تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها وتعزيز وصولها إلى المعادن، ستحتاج إلى توحيد اتفاقياتها لإمكانية التتبع وحماية البيئة والعمل وموثوقية الشركاء. كما يجب عليها إنشاء استراتيجية شاملة تتضمن آلية لتقييم نقاط الاختناق والقدرة الفنية عبر كل فئة من فئات المعادن. وينبغي لوزارتي الطاقة والخارجية تنسيق هذا الإطار.
أعادت إدارة "ترامب" صياغة السياسة الأميركية في الشرق الأوسط لإعطاء الأولوية للتعاون الاقتصادي والتقنيات الناشئة وسلاسل التوريد المتنوعة والتعاون في مجال الطاقة على حساب أطر الأمن التقليدية. وفي الواقع، يمكن لمثل هذا التعاون مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى أن يسرّع القدرة الصناعية العالمية ويعزز الميزة الاستراتيجية للعمل مع الولايات المتحدة وشركائها. لكن لحماية مصالح الأمن القومي الأميركي، يتعين على واشنطن أيضاً تحديث بنيتها التنظيمية عاجلاً وليس آجلاً. وإن لم تفعل، فقد تشكّل ضغوط السوق وقوى أخرى حقبة جديدة من التعاون بطرق غير مواتية للاستراتيجية الأميركية.