- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3955
قبل ممارسة الضغوط القصوى، يحتاج ترامب إلى وضع إستراتيجية بشأن إيران
يتعين على الإدارة الأمريكية في المقام الأول أن تأخذ بعين الاعتبار كيفية مواءمة العقوبات المشددة المفروضة على إيران مع سياستها الإقليمية الأوسع نطاقاً، قبل الحديث عن كيفية إعادة فرضها مجددًا.
لقد استؤنفت سياسة الضغوط القصوى على إيران وفقًا لبراين هوك، المبعوث الأمريكي الخاص السابق لشؤون إيران خلال فترة إدارة ترامب الأولى. هوك يترأس الآن الفريق الانتقالي لوزارة الخارجية في المرحلة المقبلة. فما الهدف من إعادة تفعيل هذه السياسة في هذا الوقت؟
سجل إنجازات بايدن
لم تنته ِسياسة الضغوط القصوى من الناحية القانونية، بل حافظت إدارة بايدن على فرض العقوبات المفروضة على إيران، وعززتها في بعض الجوانب، مثل إصدار عقوبات فردية إضافية وتوسيع نطاق الأمر التنفيذي 13902 الصادر عن الرئيس ترامب الذي يستهدف مجموعة أوسع من الأنشطة التجارية المرتبطة بالنفط. وفي الواقع، لم تصل العقوبات الأمريكية على إيران إلى مستوى أشمل مما هي عليه في الوقت الراهن.
في المقابل، أدى مزيجً من التهرب الإيراني مع التراخي الأمريكي في تطبيق العقوبات إلى تمكين النظام من زيادة صادراته النفطية ورفع احتياطاته من النقد الأجنبي خلال السنوات الأخيرة، دون أن تقدم إدارة بايدن تفسيراً لذلك. بالإضافة إلى ذلك، أشارت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين في آذار/مارس 2023 إلى فشل آلية العقوبات في تغيير سلوك طهران المزعزع للاستقرار.
هناك عاملان رئيسيان يفسران توجه بايدن وقد يؤثران أيضاً على سياسة ترامب:
1- من شأن تشديد العقوبات النفطية على إيران أن يتعارض مع التوجه الأمريكي في فرض عقوبات صارمة على روسيا (رداً على غزو أوكرانيا وانتهاكاتها الأخرى) وكذلك مع تطبيق العقوبات القائمة ضد فنزويلا (بسبب انتهاكات حقوق الإنسان). كما لم تخف إدارة بايدن مخاوفها من تأثير سحب النفط الإيراني الخام من السوق على استقرار الاقتصاد العالمي.
2- قد يؤدي توسيع العقوبات المفروضة على إيران إلى زيادة استفزاز النظام مما قد يدفعه لتكثيف أنشطته النووية. فخلال المحادثات غير المباشرة التي عُقدت بوساطة عمانية على مدى العام الماضي، وردت تقارير عن مناقشات بين المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين حول تفاهمات مشتركة تتضمن خطوات لتجنب أي تصعيد محتمل، ومن بين هذه الخطوات تعليق بعض العقوبات المفروضة على قطاع النفط.
وباختصار، خلص فريق بايدن إلى أن هناك مخاطر كبيرة مقارنة بالفوائد التي قد تنتج عن تشديد العقوبات الشاملة ضد إيران. وبناءً عليه، كانت الإدارة مستعدة للكشف عن حزمة جديدة من العقوبات تشمل تصنيفات أفراد على قائمة الإرهاب وأهداف محددة، بدلاً من تبني العقوبات الشاملة كأداة أساسية في سياستها تجاه إيران.
خطة ترامب
بغض النظر عن الطريقة التي يحكم بها المرء على سياسة بايدن تجاه إيران، فإن خطة ترامب الجديدة تستحق التدقيق عن كثب. فقد أفاد هوك أن سياسة الضغوط القصوى ستكون الأداة المفضلة لدى الإدارة الأمريكية الجديدة، لكنه لم يحدد الهدف الواضح من هذا الضغط. ورغم أنه استبعد أن يكون تغيير النظام ضمن هذه الأهداف، إلا أن العملية الانتقالية بدأت للتو، وقد يكون لدى بعض أعضاء فريق ترامب للأمن القومي وجهات نظر مختلفة.
وبعيدا عن تغيير النظام، يمكن لإستراتيجية الضغوط القصوى أن تسهم بشكل معقول في تحقيق هدفين: التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران، أو احتواء نفوذها. وقد يكون الضغط الأمريكي أداة مؤثرة لتحقيق أي من هاتين النتيجتين، لكن نجاحه يعتمد على كيفية تنفيذه ومستوى الدعم الدولي، لاسيماً إذا أدى موقف أكثر تشدداً في تنفيذ الاتفاق إلى بروز أزمة في أسواق النفط. كما يحتاج فريق ترامب إلى النظر في كيفية التعامل مع أي ردود انتقامية محتملة من إيران، والتي شملت مؤخراً هجمات على أهداف أمريكية في الشرق الأوسط واستهداف قدرات الشركاء على تصدير النفط. ويحتاج فريق ترامب أيضًا إلى النظر في كيفية استجابته للانتقام الإيراني المحتمل، والذي شمل مؤخرًا هجمات على أهداف أمريكية في الشرق الأوسط وقدرة تصدير النفط للشركاء.
هل هناك إمكانية للتوصل لصفقة جديدة؟
خلال فترة ولاية ترامب الأولى، سعت الإدارة الأمريكية لإبرام اتفاق جديد يستبدل كليًا الاتفاق النووي لعام 2015 (أي خطة العمل الشاملة المشتركة). وقد يكون هذا هو هدف الإدارة المقبلة أيضًا، ولكن سيكون من الصعب تحقيقه. كانت المخاوف الإيرانية من عودة محتملة لترامب سببًا أساسيًا في إخفاق إدارة بايدن في إبرام عودة متبادلة للامتثال لـ “خطة العمل الشاملة المشتركة" في 2021-2022. كما أن طهران كانت متحفظة بخصوص أي ترتيبات مستقبلية مع إدارة أمريكية لا تثق في التزامها على المدى الطويل.
بطبيعة الحال، يمكن القول إن موقف ترامب، الأقل ميلاً لإلغاء أي اتفاقات جديدة تفاوضت عليها إدارته، سيكون مفيدًا في إقناع إيران بالمحاولة. علاوة على ذلك، قد يكون الوضع الاستراتيجي الحالي لإيران أكثر ملاءمة للمفاوضات، فمن جهة، حقق البرنامج النووي الإيراني إنجازات تقنية مهمة للغاية منذ انسحاب ترامب من "خطة العمل الشاملة المشتركة" في عام 2018. وسيكون من الصعب عكس مسار هذه الإنجازات من خلال المفاوضات، مما يجعل طهران أكثر تمسكاً بمواقفها التفاوضية خلال المحادثات المستقبلية. وحتى النقاط التي قد تعارض نظرياً التوصل إلى اتفاق - مثل كون إيران في موقف أضعف إقليمياً بعد الضربات الإسرائيلية المؤثرة على "حزب الله" و"حماس"، يمكن أن تسهل في الواقع إجراء محادثات واسعة النطاق. وعلى الرغم من أن قبول القيود الأمريكية المفروضة على دعم هذه الجماعات سيكون مكلفاً لطهران سياسياً، إلا أن النظام قد يرحب سراً بإعفائه مالياً من تمويلها في الوقت الحالي، نظرا لأنه سيضطر أساساً إلى البدء من الصفر من جديد.
غير أن التوصل إلى اتفاق سيظل صعباً للغاية لعدة أسباب:
• منذ وقت مبكر من عام 2013، أكدت طهران أنها لن تتفاوض بشأن المسائل التي لا تتعلق بالملف النووي، وأصرت على أن "خطة العمل الشاملة المشتركة" هي أقصى ما يمكن أن تصل إليه. وحافظت على هذا الموقف حتى خلال سياسة الضغط القصوى التي انتهجتها إدارة ترامب الأولى.
• أي اتفاق يمتد إلى أنشطة إيران الإقليمية سيكون مثيرًا للجدل بسبب افتقاره إلى آليات عملية واضحة للتحقق والامتثال.
• ومن غير المرجح أن تؤدي حملة الضغط القصوى إلى تحقيق نتائج ملموسة قبل أن تتمكن إيران من الناحية التقنية من تجاوز عتبة الأسلحة النووية. وعلى الرغم من أن التقديرات تختلف حول مدى ابتعاد النظام عن تلك العتبة، إلا أنه يمكن أن يقوم بتخصيب ما يكفي من المواد الصالحة لصنع قنبلة أو أكثر في أقل من أسبوع أو أسبوعين، إما في منشأة معلنة قائمة أو بعد تحول سريع وغير متوقع إلى منشأة غير معلنة. وينبع جزء كبير من التباين في التقديرات من حالة عدم اليقين بشأن مدى قرب النظام من تصميم وتصنيع سلاح نووي عملي، وليس من إنتاجه لما يكفي من المواد الانشطارية. إن اختيار مسار امتلاك الأسلحة المحفوف بالمخاطر الجيوسياسية لن يكون سهلاً بالنسبة لطهران، وذلك على الرغم من خطابها التصعيدي والمغامر الأخير حول هذه المسألة. لكن هذا السيناريو يبدو الآن أكثر معقولية مما كان عليه عندما بدأت سياسة الضغط الأقصى في عام 2018.
• وإذا كانت الإدارة الأمريكية المقبلة ترى أن ممارسة أقصى قدر من الضغط سيكون بمثابة خيار طويل الأمد لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات بشكل تدريجي وليس فورياً، فسيتعين عليها أن تأخذ في الحسبان حقيقة أن هذه السياسة قد تسحب ما يقرب من مليون برميل من النفط يومياً من السوق - وهو سيناريو من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع حاد في الأسعار العالمية ما لم تتم إضافة إمدادات جديدة. وقد لا تميل دول "أوبك" إلى توفير المزيد من النفط، حيث إن الأسواق تعاني في الوقت الحالي من تباطؤ مستمر ووصلت الأسعار إلى مستويات منخفضة غير مسبوقة. ومن الناحية النظرية، يمكن أن يطالب ترامب بتخفيف العقوبات على روسيا لتحل محل إمدادات النفط الإيرانية المفقودة، ولكن التعقيد القانوني لقوانين العقوبات الأمريكية تجاه موسكو سيجعل ذلك صعبًا. وعلاوة على ذلك، يبدو من غير المرجح تخفيف العقوبات عن فنزويلا في ظل غياب إصلاحات جوهرية في نظامها السياسي.
احتواء إيران
في نهاية المطاف، قد تعيد هذه التحديات توجيه فريق ترامب إلى اتباع مقاربة فعلية لاحتواء إيران من خلال الضغط بالعقوبات، وربما تكون هذه المقاربة مصحوبة بدعم أمريكي مستمر للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد إيران و/أو وكلائها. ويمكن أن تركز حملة العقوبات هذه على الحد من قدرة طهران وعزمها على دعم إعادة تشغيل "حزب الله" و"حركة حماس". كما أنها قد تستنزف قدرة النظام الإيراني على تقديم الدعم العسكري لروسيا، وإعادة بناء دفاعاته الجوية المحلية التي تعرضت لخسائر كبيرة نتيجة الضربات الإسرائيلية المضادة الأخيرة، علاوة على إدارة الشعب الإيراني الذي لا يزال مضطربا. بالإضافة الى ذلك، ستستخدم هذه الحملة العديد من تدابير العقوبات نفسها المتوخاة في إطار سيناريو السعي إلى التوصل إلى اتفاق، ولكن الهدف سيكون أبسط من ذلك وهو إضعاف قدرة إيران على زعزعة استقرار المنطقة بشكل فعال.
وبطبيعة الحال، حتى استراتيجية الاحتواء المحدودة ستثير بعض المعضلات:
• فهي لن تحدّ من قدرة إيران على تطوير برنامجها النووي بشكل مفاجئ - وكما ذُكر أعلاه، يمكن للنظام الإيراني أن ينفذ هذه الخطوة في بداية حملة ضغط قصوى جديدة، أو حتى قبل تولي ترامب الرئاسة إذا كان يرى أن مثل هذه الحملة حتمية وغير قابلة للتجنب.
تفتقر هذه الاستراتيجية إلى وجود حافز رئيسي كان يدعم النسخة السابقة من سياسة الضغط الأقصى الذي يهدف إلى التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران. لقد كانت فكرة استخدام العقوبات كأداة دبلوماسية جزءًا أساسيًا من الرسالة الأمريكية منذ عام 2005، سواء في التعامل مع طهران أو كمبرر أمام الحكومات الأخرى. ويصبح هذا النهج ضروريًا بشكل خاص إذا أدت العقوبات إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية في إيران وزيادة خطر حدوث أزمة إنسانية.
• وفي الماضي، كان شركاء الولايات المتحدة يدركون أنه إذا تم التوصل إلى اتفاق، فإنه سيتم رفع العقوبات، مما يمنحهم حافزاً أكبر لاستكمال العقوبات الأمريكية بتدابيرهم الخاصة. ومع ذلك، قد يكون الالتزام المفتوح بسياسة الاحتواء أكثر صعوبة على المدى الطويل وذلك على غرار تجربة العراق في فترة التسعينيات عندما تصاعد القلق العالمي بشأن الأوضاع الإنسانية. علاوة على ذلك، تتمتع إيران اليوم بعلاقات أوثق وأعمق مع روسيا والصين مقارنة لما كام لدى صدام حسين، مما يمنحها المزيد من النفوذ لتقويض فاعلية العقوبات.
• ولتعزيز فعالية سياسة الاحتواء، يمكن لإدارة ترامب أن تركز حملتها الضاغطة على إجراءات موجهة تحد بشكل فعّال من قدرة طهران على زعزعة الاستقرار الإقليمي دون الدفع باتجاه التصعيد. ومع ذلك، فإن مثل هذه الحملة ستكون مشابهة جداً لنهج إدارة بايدن، مع تكرار العيوب والتحديات ذاتها.
• تعتمد استراتيجيات معالجة هذه المعضلة وتأمين المزيد من التأييد الدولي على تعزيز مزايا السياسة التي تتبناها واشنطن. على سبيل المثال، في ظل استراتيجية احتواء فعالة تعتمد على العقوبات والتعاون الإقليمي، سيكون لدى إيران موارد أقل متاحة لدعم إعادة إعمار غزة ولبنان - مما يؤدي إلى تقليص نفوذها وتعطيل مشاريعها السياسية في المنطقة. ومن شأن تعزيز دور الجهات الدولية، بما في ذلك الدعم الأمريكي والعربي والإسرائيلي والأوروبي لإعادة الإعمار، أن يمثل تحولاً جيوسياسيًا كبيرًا، لا سيما إذا ترافق مع تغييرات سياسية تعزز الاستقرار والإصلاح والحوكمة داخل لبنان والسلطة الفلسطينية.
خاتمة
مع استبعاد تغيير النظام كخيار مطروح حاليًا، يتعين على الإدارة الأمريكية القادمة تحديد أهدافها النهائية التي تسعى إلى تحقيقها بشأن إيران، وأن تعمل على كسب الدعم الدولي لتنفيذ هذه السياسة. فالاستراتيجيات القائمة على العقوبات لا تنجح إلا عندما تتضافر مع السياسة الشاملة عوضاً عن أن تكون بديلاً عنها. ويتعين على إدارة ترامب أن تدرس بعناية كيفية توافق العقوبات مع الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط قبل الحديث عن كيفية إعادة تفعيلها بشكل ناجع.