
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4124
ما يجب أن تتضمنه استراتيجية "ترامب" لمكافحة الإرهاب

اتخذت الإدارة الأمريكية حزمة من الإجراءات في مجال مكافحة الإرهاب تختلف عن الاستراتيجية التي أعلنتها في ولايتها الرئاسية الأولى، كما تتمايز عن السياسات الأميركية الممتدة لعقود طويلة. هذا التغيّر يطرح تساؤلات جوهرية يجب أن تجد إجابات واضحة قريباً في وثيقة مكافحة الإرهاب الخاصة بالولاية الثانية.
على الرغم من أن إدارة "ترامب" لم تُصدر حتى الآن استراتيجية خاصة بمكافحة الإرهاب في ولايتها الثانية، إلا أنها خطت خطوات واسعة لإعادة صياغة توجّه الحكومة الأمريكية في هذا المجال، وإعادة رسم معالم المشهد الإرهابي العام. وقد تراوحت هذه الخطوات بين تصنيف عصابات المخدرات كمنظمات إرهابية أجنبية للمرة الأولى، ورفع العقوبات المفروضة على الجهاديين السوريين، وتقليص جهود مكافحة التطرف العنيف، وصولاً إلى التوسط في اتفاق لإنهاء الحرب بين "حماس" وإسرائيل. وكانت إدارة "ترامب" السابقة قد أعلنت استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب في السنة الثانية فقط من ولايتها. أما في الولاية الحالية، فمن الأجدى أن يُصدر البيت الأبيض هذه الوثيقة مبكراً، مما يتيح للإدارة فرصة توضيح رؤيتها الدولية لمكافحة الإرهاب، وبيان ما إذا كانت تحركاتها الخارجية تنسجم مع هذا الإطار، لا سيما في ظل التحولات العميقة التي مرّ بها الشرق الأوسط على مدى العامين الماضيين. كما سيوجه ذلك رسالة واضحة مفادها أن مكافحة الإرهاب تبقى في مقدمة أولويات الأمن القومي. وبوجه خاص، يتعين على الجوانب الدولية من استراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكية القادمة أن تعالج العوامل التالية. (تجدر الإشارة إلى أن المسائل المتعلقة باستراتيجية الإدارة الداخلية لمكافحة الإرهاب تحمل أهمية بالغة أيضاً، لكنها تقع خارج نطاق هذا التنبيه السياسى).
الشرق الأوسط لا يزال محورياً
في عام 2018، أكدت وثيقة استراتيجية مكافحة الإرهاب لإدارة "ترامب" الأولى أن أمريكا في حالة حرب، وأشارت إلى الجماعات الإرهابية الإسلامية العالمية وإيران باعتبارهما يشكلان المصدرين الرئيسيين للتهديدات الدولية ضد الولايات المتحدة، وإن لم يكونا المصدرين الوحيدين. ومنذ ذلك الحين، مرّ الشرق الأوسط بتحولات عميقة تجلّت في سقوط نظام "الأسد" في سوريا، وفي الإضعاف الكبير الذي طال إيران و"حزب الله" و"حماس". واليوم، يولي الرئيس "ترامب" اهتماماً كبيراً بالصفقة التي ساهم في التوصل إليها لإنهاء الحرب بين "حماس" وإسرائيل، وهو يُقدّمها على أنها بداية عهد جديد لشرق أوسط أكثر سلاماً واستقراراً.
ومع أن هذه التطورات تبشّر بالخير بلا شك، إلا أن استراتيجية مكافحة الإرهاب للولاية الثانية يجب أن تُقرّ بأن الشرق الأوسط يظل في قلب جهود مكافحة الإرهاب الأمريكية. فالتهديد الذي يفرضه احتمال عودة تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق ما زال قائماً وخطيراً، وقد يزداد حدة بفعل الانسحاب العسكري الأمريكي من البلدين. علاوة على ذلك، ستسعى إيران ووكلاؤها وحلفاؤها، ومن بينهم "حزب الله" و"الحوثيون" و"حماس"، إلى إعادة بناء قدراتهم العسكرية والإرهابية وتطويرها، وذلك جزئياً بهدف زعزعة استقرار المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة.
من هنا، تحتاج استراتيجية مكافحة الإرهاب القادمة إلى بيان الكيفية التي تعتزم واشنطن من خلالها الحد من هذه التهديدات في ظل وجود عدد أقل من القوات في الشرق الأوسط. فهل ستعتمد الإدارة بشكل أكبر على الأدوات غير العسكرية، أم أنها ستكتفي بتقليص درجة التركيز والانخراط الأمريكي في المنطقة؟
تعريف مكافحة الإرهاب - وهل يشمل استهداف العصابات؟
من الضروري أيضاً أن توضح الاستراتيجية الجديدة النطاق الكامل الذي تراه الإدارة لمفهوم مكافحة الإرهاب. فكما أُشير أعلاه، وسّع الرئيس دائرة عمل الحكومة في مكافحة الإرهاب توسيعاً كبيراً عندما صنّف العديد من عصابات المخدرات والعصابات الإجرامية في أمريكا الوسطى والجنوبية كمنظمات إرهابية أجنبية. وتطرح هذه الخطوات عدداً من الأسئلة الجوهرية:
- هل باتت أمريكا الوسطى والجنوبية الآن في صدارة جهود مكافحة الإرهاب الأمريكية ونصيبها من الموارد، بعد أن ظلت لعقود أولوية من الدرجة الثانية؟
- هل ستُخفّض الموارد المخصصة لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط والمناطق المحورية الأخرى لاستيعاب هذه الأولويات الجديدة؟
- هل سيشمل مفهوم الإرهاب لاحقاً عصابات المخدرات والعصابات الإجرامية في مناطق أخرى من العالم، أم سيبقى هذا النهج محصوراً في نصف الكرة الغربي؟
- على الصعيد المؤسسي، هل سيتولى مجتمع مكافحة الإرهاب الأمريكي الآن قيادة المواجهة ضد العصابات وعصابات المخدرات، أم ستظل هذه المسؤولية منوطة بجهات أخرى؟
- هل باتت جميع أدوات مكافحة الإرهاب والوسائل العسكرية متاحة الآن لمواجهة العصابات وعصابات المخدرات، كما توحي به الضربات العسكرية الأخيرة في منطقة البحر الكاريبي؟
وينبغي للاستراتيجية الجديدة أيضاً أن تحدد ما الذي سيُدرج تحت عنوان مكافحة الإرهاب الدولي. فقد ركّزت استراتيجية عام 2018 على التهديدات التي تشكلها الجماعات الإسلامية وإيران ووكلاؤها، إضافة إلى الإرهابيين المدفوعين بأشكال أخرى من التطرف. وقد أوضح مسؤولو الإدارة الحالية أن الجماعات الإسلامية وإيران تبقى في أعلى القائمة، لكن عليهم بيان ما إذا كان التطرف العنيف ذو الدوافع العرقية والإثنية يظل أولوية أم لا. وكان قد بدأ الكثير من هذا العمل في عهد إدارة "ترامب" السابقة، حيث صنّفت وزارة الخارجية للمرة الأولى كيانات تندرج تحت التطرف العنيف ذي الدوافع العرقية والإثنية في عام 2020، وذلك عندما فرضت عقوبات على الحركة الإمبراطورية الروسية. وفي حين أن مصطلح التطرف العنيف ذي الدوافع العرقية والإثنية قد يكون إشكالياً وفضفاضاً للغاية، إلا أن التهديد العابر للحدود الذي يعبّر عنه هذا المصطلح موجود فعلاً على أرض الواقع، وهذا ما يجب أن تعترف به الاستراتيجية.
القيادة والدبلوماسية الأمريكية العالمية
في صلب الأمر، يجب على الاستراتيجية الجديدة لمكافحة الإرهاب أن تبيّن بوضوح كيف ترى الدور الأمريكي في قيادة الجهود العالمية لمكافحة الإرهاب، وهو الدور الذي تحملته أمريكا بنجاح كبير منذ هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وقد اعترفت استراتيجية عام 2018 بأن الولايات المتحدة ستواصل قيادة الشركاء ودعمهم في محاربة الإرهاب، غير أنها حذّرت من أن أمريكا ليست بحاجة إلى تحمل المسؤولية الأساسية عن أنشطة مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم.
وقد أبدت الإدارة الحالية إدراكاً واضحاً لأهمية الانخراط الدبلوماسي الأمريكي في قضايا الشرق الأوسط التي تمس مهمة مكافحة الإرهاب، لا سيما من خلال جهودها الرامية إلى إنهاء الحرب بين "حماس" وإسرائيل والتعامل مع تبعات سقوط نظام "الأسد". والسؤال هنا: هل سيقتصر هذا الانخراط المستدام رفيع المستوى على الملفات البارزة، أم سيمتد على نطاق أوسع ليشمل سياسة مكافحة الإرهاب الأمريكية في مختلف أرجاء المنطقة؟
على سبيل المثال، من غير المرجح أن يحافظ التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وهو هيئة تضم تسعة وثمانين عضواً أسستها واشنطن في عام 2014، على فعاليته دون قيادة أمريكية قوية. وفي ظل احتمال عودة ظهور الجهاديين عالمياً في العراق وسوريا، ناهيك عن الوجود القوي الحالي لمثل هذه الجماعات في أفريقيا، لا يمكن للإدارة أن تتجاهل هذه التهديدات. وكانت الولايات المتحدة قد لعبت دوراً محورياً في الحملة الدبلوماسية الممتدة على مدى سنوات لإضعاف القدرات الإرهابية لإيران خارج حدودها، إذ نجحت في حث حكومات أخرى على تصنيف "حزب الله" و"الحرس الثوري الإسلامي الإيراني" كمنظمات إرهابية، كما أنشأت منتديات دولية تركز على النشاط الإرهابي الذي تمارسه طهران بالتعاون مع حلفائها ووكلائها. من هنا، ينبغي أن تؤكد استراتيجية مكافحة الإرهاب الجديدة أن واشنطن، وعلى وجه الخصوص وزارة الخارجية، ستواصل قيادة الأجندة الدولية لمكافحة الإرهاب.
المساعدات الخارجية
على مدى عقود طويلة، شكّل استخدام المساعدات الخارجية وغيرها من الوسائل لبناء قدرات الدول الأخرى في مجال مكافحة الإرهاب ركيزة أساسية في السياسة الأمريكية. فقد أنفقت وزارتا الخارجية والدفاع مليارات الدولارات لمساعدة حكومات أخرى على كشف الإرهابيين واعتراضهم وتعطيل عملياتهم والقبض عليهم. وعلى الرغم من الإخفاقات التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، مثل مهمة المساعدة الأمنية في أفغانستان، إلا أن ثمة العديد من قصص النجاح التي ساعد فيها التمويل الأمريكي الجهات الفاعلة المحلية على الحيلولة دون وصول التهديدات الإرهابية إلى السواحل الأمريكية.
وقد اعترفت استراتيجية عام 2018 بأهمية هذا المسعى، مؤكدة على ضرورة مساعدة الشركاء الأمريكيين على تعزيز فهمهم لهذه التهديدات وتطوير قدرتهم على التصدي لها. كما شددت على أن الانخراط الدبلوماسي الأمريكي والمساعدات الإنمائية والمساعدات الأمنية جميعها تمثل أدوات لا غنى عنها لتحقيق هذه الأهداف.
غير أن الإدارة الحالية تبدي موقفاً أكثر تشككاً إزاء جميع أشكال المساعدات الخارجية. وبناءً على ذلك، يجب أن توضح استراتيجية مكافحة الإرهاب الجديدة ما إذا كانت هناك أنواع معينة من المساعدات الخارجية، لا سيما على المستوى الأمني، التي تعتبرها الإدارة مكونات جوهرية لمهمة مكافحة الإرهاب الأمريكية. فترك الدول الأخرى تواجه هذه التهديدات بمفردها ليس بالتأكيد وصفة صحيحة للأمن الأمريكي، ذلك أن تداعيات ذلك قد تنعكس سلباً على الوطن نفسه.
وتبرز هذه المسألة بشكل خاص في ظل السياق الحالي من الدبلوماسية المكثفة المتعلقة بغزة، والتي تؤثر على خطط إعادة الإعمار والأمن على حد سواء. فخطة الرئيس "ترامب" المكونة من عشرين نقطة تنص على أن قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار ستتولى تدريب قوات الشرطة الفلسطينية المدققة في غزة ودعمها بالتنسيق مع مصر والأردن. وعلى مرّ التاريخ، كانت الولايات المتحدة ممولاً رئيسياً ومدرباً أساسياً للقوات الفلسطينية. من هنا، ينبغي أن توضح وثيقة استراتيجية مكافحة الإرهاب القادمة ما إذا كانت الإدارة الحالية ترغب في مواصلة هذا الدور، وإن لم تكن راغبة في ذلك، فما هي البدائل الدولية المحددة التي تقترحها لسد الفراغ الناجم عن غياب المساعدة الأمريكية.
مكافحة التطرف العنيف
في ضوء إلغاء مكتب مكافحة التطرف العنيف التابع لوزارة الخارجية، وتفكيك وكالة التنمية الدولية الأمريكية، وإلغاء العديد من المنح التي كانت تقدمها وزارة الأمن الداخلي، ستحتاج استراتيجية مكافحة الإرهاب القادمة إلى توضيح ما إذا كانت برامج مكافحة التطرف وجهود منع الإرهاب الأوسع نطاقاً ستبقى جزءاً من أجندة مكافحة الإرهاب الخاصة بالإدارة. وقد أبرزت استراتيجية عام 2018 هذا المحور بشكل لافت، إذ أشارت إلى أن الولايات المتحدة لم تطور بعد بنية وقائية لإحباط التطرف والتجنيد الإرهابي، وحذرت من أن أمريكا ستخوض معركة لا نهاية لها ضد الإرهاب ما لم تتخذ خطوات لمعالجة هذه الثغرات بشكل أفضل.
من المؤكد أن هناك العديد من الانتقادات المشروعة لجهود مكافحة التطرف العنيف وبرامج الوقاية القائمة، بما في ذلك صعوبة قياس النجاح وإثباته بشكل ملموس. إلا أن ذلك لا يشكل مبرراً للتخلي عن مشروع مكافحة التطرف العنيف برمته، وهذا ما يجب أن تشدد عليه الاستراتيجية القادمة لمكافحة الإرهاب. ففي غزة، تدعو خطة السلام التي أعدها "ترامب" إلى تنفيذ برامج مكافحة التطرف وجهود الوقاية وإعادة التأهيل الأخرى الشبيهة ببرامج مكافحة التطرف العنيف، مما يجعل من الضروري بمكان توضيح نطاق هذه البرامج وحدودها.
الخلاصة
تشير الإجراءات التي اتخذتها إدارة "ترامب" في مجال مكافحة الإرهاب خلال الأشهر التسعة الأولى إلى أنها تتبنى نهجاً مغايراً بشكل ملموس عن النهج الذي اتبعته في الولاية الرئاسية الأولى. ومن شأن إصدار وثيقة استراتيجية مكافحة الإرهاب القادمة في أقرب وقت ممكن أن يساعد على توضيح مدى تمثيل هذه التغييرات لتوجه جديد، وأن يكشف عن رؤية المسؤولين للمسار الذي ستسلكه معركة مكافحة الإرهاب خلال السنوات الثلاث المقبلة.