
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4076
لا مجال الآن للتساهل مع "حزب الله" أو مع بيروت

بعد أن وجهت للمسؤولين اللبنانيين إنذاراً حاسماً لنزع سلاح "حزب الله" وتنفيذ الإصلاحات المالية، أصبحت واشنطن الآن معرضة لخطر السماح لهم مرة أخرى بتأجيل هذه المهام الحاسمة.
في السابع من تموز/يوليو، سافر المبعوث الأمريكي الخاص توم باراك إلى بيروت، بعد ثلاثة أسابيع من تسليمه الحكومة اللبنانية رسالة تطالبها باتخاذ خطوات فورية لنزع سلاح "حزب الله" والميليشيات الأخرى. وقد أمهل الإنذار النهائي الصادر في التاسع عشر من حزيران/يونيو، وخارطة الطريق المصاحبة له، بيروت عدة أشهر لتحقيق تقدم ملموس نحو هذا الهدف واجراء إصلاحات مالية واقتصادية، مما يعكس إحباط واشنطن المتزايد من جمود هذه الجهود.
وفى هذا السياق، قدم لبنان رداً أولياً على الرسالة خلال زيارة هذا الأسبوع، وعلى الرغم من أن التفاصيل لم تُنشر بعد، صرح باراك أنه "راضٍ بشكل لا يصدق" عن الرد. ولا يزال من غير الواضح سبب رضاه الشديد، إذ تشير تقارير غير مؤكدة من لبنان و"إسرائيل" إلى أن بيروت اكتفت بتجديد التزامها بنزع سلاح "حزب الله" جنوب نهر الليطاني بحلول الموعد النهائي، مع وعد بنزع السلاح على نطاق أوسع في مرحلة لاحقة. وإذا صحت هذه الشائعات، فإن الجماعة الإرهابية المدعومة من إيران ستظل محتفظة بأسلحتها، وقد تتأجل فرصة لبنان في تحقيق سيادته، أو تضيع نهائياً.
مقاربات متباينة
بعد أن هاجم "حزب الله" إسرائيل في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر٢٠٢٣، دعماً للهجوم الذي شنته حركة "حماس" من غزة، ردت إسرائيل بشن حرب استنزاف محدودة ضد الميليشيا اللبنانية. وتفاقمت الأزمة بعد تسعة أشهر، حين أطلقت إسرائيل حملة عسكرية كبيرة أضعفت بشدة قيادة "حزب الله" وترسانته وانتشاره على الحدود. وقد وفرت هذه العمليات فرصة للسلطات اللبنانية لاتخاذ خطوات طال انتظارها ضد الجماعة، بهدف الحد من النفوذ الإيراني في بيروت وبناء دولة ذات سيادة حقيقية. وفي الواقع، نص اتفاق وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ على التزام بيروت بمصادرة أسلحة "حزب الله" وتفكيك بنيته التحتية العسكرية في أنحاء البلاد، بينما تعهد الرئيس ورئيس الوزراء المنتخبان حديثاً بتنفيذ إصلاحات مالية شاملة.
لكن الأشهر التي تلت ذلك كشفت بشكل صارخ عن التباين في وجهات النظر بين واشنطن وبيروت حيال مدى أهمية هذه الإجراءات. فقد قدرت إدارة "ترامب" -عن صواب - أن اللحظة كانت مناسبة لاتخاذ خطوات جريئة، إذ إن "حزب الله" يمر بأضعف حالاته منذ عقود، لكن هذا الضعف قد لا يدوم طويلاً، إذ يمكن للجماعة أن تعيد بناء قدراتها في غياب جهود لبنانية استباقية لترسيخ هذا التراجع، كما فعلت بعد حرب عام ٢٠٠٦. علاوة على ذلك، ترى بيروت أن تفادي مواجهة مباشرة مع "حزب الله" يشكل أولوية تتقدم على مسألة نزع سلاحه، وهو استنتاج لا يستند فقط إلى سجل الحزب الطويل في تصفية خصومه السياسيين، بل أيضاً إلى مخاوف أوسع من إعادة إحياء الحرب الأهلية التي طال أمدها في البلاد
منذ البداية، أعلن الرئيس جوزاف عون أن بيروت لن تنزع سلاح "حزب الله" بالقوة. وبدلاً من ذلك، سعى إلى إقناع الميليشيا بالتخلي عن أسلحتها من خلال المفاوضات أو من خلال دمجها في القوات المسلحة اللبنانية. لكن كلا الخيارين يطرحان إشكاليات كبيرة، فدمج "حزب الله" في الجيش اللبناني من شأنه أن يُقوض واحدة من المؤسسات الوطنية القليلة الفاعلة في البلاد. وعلاوة على ذلك، أظهرت التجربتان السابقتان خلال العقدين الماضيين أن مثل هذا الحوار ليس سوى أسلوب تسويفي معتاد للجماعة وللحكومات اللبنانية المتعاقبة، حيث اعتبر الحزب المناقشات حول "استراتيجية الدفاع الوطني" مجرد تعبير مخفف يهدف إلى الإبقاء على ترسانته (بل وتوسيعها).
واليوم، يؤكد "حزب الله" أنه ليس مهتماً بنزع سلاحه، وقد أشار نائب الأمين العام، نعيم قاسم، إلى أنه لن يناقش ما يُسمى بـ "استراتيجية الدفاع الوطني" أو مسألة التخلص من أسلحته حتى يتم الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية. أما بالنسبة للإنذار الذي وجهه باراك، فقد أعلن قاسم: "لدينا الحق في أن نقول "لا" لهم، "لا" لأمريكا، "لا" لإسرائيل". وخلال مسيرة نُظِمت في بيروت في الخامس من تموز/يوليو لإحياء ذكرى عاشوراء الشيعية، اتخذ أعضاء "حزب الله" نبرة متحدية ورفعوا أسلحتهم في شوارع العاصمة.
فقدان الزخم
يبدو أن الوضع الحالي مُخيب للآمال بشكل خاص، خاصةً بالنظر إلى التفاؤل الذي أبدته الولايات المتحدة وإسرائيل عقب وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر. في البداية، استجابت القوات المسلحة اللبنانية، وصادرت مراراً أسلحة "حزب الله" وفككت بنيته التحتية بعد أن أبلغتها آلية وقف إطلاق النار التي تقودها الولايات المتحدة، والتي تعتمد إلى حد كبير على الاستخبارات الإسرائيلية، بمواقع هذه الأصول. ورغم سعيها الجاد لتجنب المواجهة قدر الإمكان، كانت القوات اللبنانية فعالة إلى حد كبير، حيث اتخذت إجراءات ضد أكثر من 400 موقع لـ"حزب الله" جنوب نهر الليطاني. لكن الجهود الرامية إلى نزع سلاح الحزب شمال الليطاني لم تكن قوية منذ البداية، وتوقفت منذ ذلك الحين، ليس نتيجة تقاعس القوات اللبنانية، بل بسبب الافتقار إلى التوجيه السياسي من بيروت.
كما لم تقر الحكومة الجديدة بعد الإصلاحات المالية اللازمة، إذ أن هناك حاجة ماسة إلى تشريعات شاملة لإنقاذ الدولة من أزمة شملت انخفاض قيمة العملة بنسبة 98% منذ عام 2018، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 40%، وخسائر مصرفية بلغت قرابة 80 مليار دولار. ومع ذلك، لم يقر البرلمان ـ بقيادة رئيسه نبيه بري، الحليف القوي لـ"حزب الله" ـ سوى إجراء واحد من هذا القبيل حتى الآن، وهو قانون السرية المصرفية. ورغم الإلحاح الشديد، يتردد المشرعون في اتخاذ قرارات تقشفية صعبة وغير مرغوبة قبل الانتخابات البرلمانية المقرر عقدها العام المقبل.
أدى فقدان الزخم إلى إحباط الداعمين الخارجيين للبنان، حيث تحول اهتمام واشنطن ودول الخليج بشكل متزايد إلى أولويات إقليمية أخرى. وعلى ما يبدو، أصبحت سوريا بديلة لبنان كرهان أكثر إثارة للاهتمام. فخلال زيارته إلى الرياض في أيار/مايو، لم يذكر الرئيس ترامب لبنان سوى مرة واحدة، لكنه التقى مباشرة بالرئيس السوري الجديد وأعلن أنه سيرفع جميع العقوبات المفروضة على دمشق. الآن، تتدفق أموال إعادة إعمار الخليج إلى سوريا بينما لبنان يقبع تحت أنقاض الحرب. بالإضافة إلى ذلك، يجتمع المسؤولون السوريون مع إسرائيل ويقال إنهم يفكرون في إقامة علاقات أكثر طبيعية مع القدس، في حين يتشاجر المشرعون اللبنانيون حول أفضل السبل لتهدئة الميليشيات الإرهابية التي جلبت مراراً وتكراراً الدمار العسكري الإسرائيلي على بلادهم.
توصيات سياسية
كان من المفترض أن يشكل رد لبنان على إنذار باراك نقطة تحول. فإذا أكدت بيروت نيتها اتخاذ خطوات أكثر جدية لمصادرة ما تبقى من أسلحة "حزب الله"، لتمكنت الولايات المتحدة من الضغط لوقف الغارات الجوية الإسرائيلية، وانسحاب القوات الإسرائيلية المتبقية، وتحقيق تقدم في ترسيم الحدود، وإطلاق عملية إعادة الإعمار بعد الحرب.
بدلاً من ذلك، كان موقف باراك المتساهل تجاه "حزب الله" غير مبرر على الإطلاق، حيث وصف وكيل إيران الإرهابي الأكبر في الشرق الأوسط بأنه "حزب سياسي" يمتلك جانباً مسلحاً. يبدو أن الإدارة الأمريكية تحاول إقناع الجماعة بالاستسلام، غير أن الوقت الراهن ليس مناسباً للتساهل مع "حزب الله" أو مع الحكومة اللبنانية في بيروت.
وقد صرح باراك أنه إذا تخلت لبنان مرة أخرى عن الإصلاحات وجهود نزع السلاح على نطاق أوسع، فإن الولايات المتحدة ستنسحب سياسياً. وسيكون لدى واشنطن عدة خيارات أخرى:
- فرض عقوبات على نبيه بري وغيره من البرلمانيين الذين يعرقلون التقدم.
- تأخير الدعم الأمريكي للمؤسسات المالية الدولية التي من شأنها تمويل إعادة إعمار لبنان (مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي)، وتشجيع المانحين الآخرين على أن يحذوا حذوها. وقد حذرت السعودية بيروت بشكل مستقل من أنها لن تقدم أي مساعدات ما لم ينزع "حزب الله" سلاحه.
- إنهاء أو تقليص بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام بشكل كبير. يناقش مجلس الأمن حالياً تجديد ولاية قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، التي يبلغ قوامها أكثر من 10 آلاف جندي في الجنوب - وهو أعلى تركيز لقوات حفظ السلام في العالم - والتي طالما ثبطت الحكومة اللبنانية عن ممارسة سيادتها هناك. والآن أكثر من أي وقت مضى، يمكن أن يدفع زعزعة هذه الديناميكية المعطلة بيروت إلى التحرك.
- التعامل بجدية أكبر مع استهداف نفوذ "حزب الله" داخل الدولة اللبنانية. ركزت العقوبات الأمريكية الحالية إلى حد كبير على تمويل حزب الله. لكن لتقويض سيطرة التنظيم على مؤسسات الأمن اللبنانية، يجب على إدارة ترامب النظر في استهداف المسؤولين الرئيسيين داخل هذه المؤسسات الذين يتواطؤون مع حزب الله. ويمكن أن تضغط واشنطن أيضاً على الجيش اللبناني وقوات الأمن الداخلي لإنهاء تنسيقهم مع الميليشيات.
في غضون ذلك، ستواصل إسرائيل بلا شك شن غاراتها الجوية التي أصبحت روتينية على أهداف حزب الله في جميع أنحاء الدولة. وفي الواقع، وبالنظر إلى رفض الحكومة اللبنانية المزمن لمواجهة الجماعة، فقد تكون العملية العسكرية الإسرائيلية هي السيناريو الذي تفضّله بيروت. وفي العقود التي تلت الحرب الأهلية، تجنب المسؤولون اللبنانيون عموماً الخوض في القضايا الصعبة بهدف تجنب إحياء ذلك الصراع المدمر، وتتماشى ردودهم الواضحة على باراك مع هذا النهج. ومع ذلك، فمن غير "الآمن" الاستمرار في تأجيل مشكلة أسلحة "حزب الله"، التي غالباً ما استُخدمت ضد الشعب اللبناني أو أدت إلى هجمات إسرائيلية.
من الواضح أن الحكومة الجديدة في بيروت تسعى إلى إنهاء الضربات الإسرائيلية والحفاظ على علاقتها مع واشنطن. لكن طالما احتفظ "حزب الله" بقدرات عسكرية متبقية، فإن السياسة اللبنانية لن تعكس الواقع الجديد بعد الحرب، وستظل السيادة هدفاً بعيد المنال.