
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4059
هل بدأت الجمهورية الإسلامية في التصدع؟ علامات يجب وضعها في الحسبان

بالرغم من أن الأزمة لم تستوفِ بعد كل المعايير التي تدل على هشاشة النظام الإيراني بشكل حاسم، إلا أن موازين الأمور قد تنقلب بسرعة، سواء بفعل المتغيرات في ساحة المعركة، أو تصاعد الغضب الشعبي في الشوارع، أو بسبب ما يدور خلف الكواليس في أروقة الحكم في طهران.
قبل وقت طويل من منشور الرئيس "ترامب" بتاريخ 22 حزيران/يونيو على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي دعا فيه إلى تغيير النظام في "إيران"، كانت "إسرائيل" قد بدأت بالفعل التفكير في هذا السيناريو. ففي مقطع فيديو نُشر على الإنترنت بعد وقت قصير من بدء عملية "الأسد الناهض"، أعلن رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو": "لقد حان الوقت للشعب الإيراني للتوحد حول علمه وإرثه التاريخي، من خلال النهوض من أجل حريتكم من النظام الشرير والقمعي".
ورغم أن "نتنياهو" وقادة إسرائيليين آخرين يركزون في الظاهر على إضعاف القدرات العسكرية والبرنامج النووي للجمهورية الإسلامية، فإنهم يبدون في الوقت ذاته تفاؤلاً بأن هذه الخطوات قد تؤدي إلى انتفاضة شعبية، تؤسس في نهاية المطاف لانهيار النظام.
ويتجلى هذا المعنى الضمني في اختيار اسم العملية: "الأسد الناهض". فعلاوةً على كونه موصوفاً رسمياً كمرجع ذي بعد توراتي قد يلقى صدى لدى الإسرائيليين، فإن العبارة تحمل أيضاً رسالة مبطنة مفهومة لدى الإيرانيين أنفسهم. إذ عرض الحساب باللغة الفارسية لقوات الدفاع الإسرائيلية (@IDFFarsi) صوراً لشعار "الأسد والشمس" --- وهو رمز وطني إيراني شهير طالما تصدر الأعلام الرسمية قبل ثورة عام 1979.
كما تكررت إشارات مشابهة في منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، أبرزها من قبل رئيس الوزراء السابق "نفتالي بينيت" ووزيرة الاستخبارات السابقة "جيلا جامليئيل"، التي كتبت: "العام القادم في إيران حرّة!" في تعليق على فيديو يظهر ولي العهد الإيراني السابق "رضا بهلوي"، بعد عامين من زيارته إلى "إسرائيل" في نيسان/أبريل 2023.
تشير هذه التصريحات والرموز إلى استراتيجية تواصل تستهدف مباشرة نحو 80 بالمئة من الإيرانيين الذين تشير استطلاعات الرأي إلى أنهم يعارضون النظام الحاكم (رغم أنه يمكن الجدال بأن هذه الرسائل ستكون أكثر تأثيراً إذا صيغت بالفارسية بدلاً من الإنجليزية). ويبدو أن الرسالة السياسية قد تعززت أيضاً عبر الضربات الإسرائيلية التي استهدفت باحات وسائل الإعلام الرسمية في "إيران"، ومقر "الباسيج"، ومدخل سجن "إيفين" سيئ الصيت في "طهران" --- وهي رموز بارزة لآلة القمع والدعاية في الجمهورية الإسلامية.
ويبقى السؤال الجوهري: هل سينتفض الإيرانيون مجدداً كما فعلوا في محطات تاريخية سابقة، مثل انتفاضة الطلبة عام 1999، والحركة الخضراء عام 2009، والاحتجاجات الجماهيرية في كانون الأول/ديسمبر 2017 -- كانون الثاني/يناير 2018، واحتجاجات "تشرين الثاني/نوفمبر الدامي" عام 2019، وانتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" عام 2022؟ والأهم: إذا ما اندلعت انتفاضة جديدة، فهل باتت الجمهورية الإسلامية هشة إلى درجة قد تنهار أمامها، رغم أن الانتفاضة الأخيرة لم تُحدث تغييراً جذرياً في بنية السلطة؟
مع اندلاع المواجهة الأخيرة مع "إسرائيل"، وثّقت مقاطع الفيديو طوابير طويلة من المركبات التي فرت من "طهران" شمالاً نحو منطقة بحر "قزوين"، فيما يشبه الهجرة الجماعية. البعض تخلّى عن الرحلة بعد نفاد الوقود، فعاد إلى أحياءٍ تفتقر إلى صافرات إنذار أو ملاجئ مناسبة --- في وقت كانت فيه السلطات تحوّل المساجد والمدارس ومحطات المترو إلى ملاجئ مؤقتة وغير كافية. أما من لم يغادروا، فإما لأنهم طاعنون في السن، أو غير قادرين على تحمّل تكاليف المغادرة، أو لأنهم يرفضون الهروب مبدئياً.
وقد أضافت رسالة "ترامب" في 16 حزيران/يونيو، والتي دعا فيها إلى "إخلاء طهران"، مزيداً من القلق لدى الإيرانيين، داخل البلاد وفي الشتات.
رغم أجواء الخوف السائدة، من الصعب تخيُّل أن ملايين الإيرانيين -- لا سيما في العاصمة -- سينزلون إلى الشوارع احتجاجاً في الوقت الراهن، بينما يركّز معظمهم على تأمين ضروريات البقاء. وقف إطلاق النار دخل حيّز التنفيذ منذ الأمس، غير أن كلا الطرفين يبدو أنه قد خرقه بالفعل. لكن، ماذا سيحدث عندما يشعر الإيرانيون أن التهديد المباشر من الضربات العسكرية قد زال؟
تاريخياً، عندما تصل الاحتجاجات الجماهيرية إلى حجم معين، يكون تأثيرها شبه حتمي على استقرار الأنظمة. فعلى سبيل المثال، تشير أبحاث عالمة السياسة "إريكا تشينوويث" إلى أن الحركات السلمية التي يشارك فيها ما لا يقل عن 3.5٪ من السكان -- أي أكثر من ثلاثة ملايين شخص في حالة إيران، التي يبلغ عدد سكانها نحو 90 مليوناً -- تؤدي في معظم الأحيان إلى إسقاط النظام. كما أظهرت دراساتها أن هذا التأثير يمكن أن يتحقق أحياناً حتى بمشاركة أقل، وذلك حسب السياق المحلي.
الفكرة الأساسية هي أن مثل هذا الزخم الشعبي يخلق درجة من التعاطف داخل بنية النظام، ما يدفع بعض أركانه للانحياز إلى الشارع. في الواقع، هناك سابقة لاندلاع احتجاجات خلال فترات الحرب، كما حدث خلال الحرب الإيرانية-العراقية (1980-1988). إلا أن تلك التحركات كانت تركز أساساً على المطالبة بإنهاء الحرب، وليس بإسقاط النظام.
كذلك، هناك نماذج لانتفاضات اندلعت في أعقاب الحروب، كما حصل بعد هزيمة نظام "صدام حسين" في حرب الخليج عام 1991، حينما انتفضت الجماهير الكردية والشيعية في العراق في (آذار/مارس)، لكنها قُمعت بوحشية وارتُكبت خلالها فظائع مروعة.
يرى البعض أن تطوراً أكثر جذرية -- كاغتيال المرشد الأعلى "علي خامنئي" -- قد يُحدث تحولاً حاسماً يمهّد لسقوط النظام. وقد لمح مسؤول إسرائيلي مجهول مؤخراً إلى أن مثل هذا الخيار "ليس مستبعداً"، في حين قال الرئيس "ترامب" إن قتل "خامنئي" لم يكن جزءاً من خطته، "على الأقل ليس الآن".
حتى لو حصل هذا السيناريو، فإن مبدأ "ولاية الفقيه"، الذي يمنح المرشد الأعلى سلطته المطلقة، يتضمن آليات لحفظ الاستمرارية. فعلى الورق، يُناط بـ"مجلس خبراء القيادة" -- المؤلف من (88) عضواً -- مهمة تعيين مرشد جديد حين يحين الوقت، لكن هناك اعتقاداً شائعاً بأن خطة خلافة أُعدت سلفاً، قد تشمل نجله "مجتبى خامنئي" أو مرشحين آخرين.
ومع ذلك، فإن موت المرشد بشكل مفاجئ قد يُحدث تغييرات جذرية في تلك الخطة، من خلال إشعال احتجاجات شعبية واسعة ضد النظام. كما أن استمرار تفاقم الأزمة قد يدفع بعض أعضاء مجلس الخبراء إلى تفعيل صلاحياتهم رسمياً لعزل "خامنئي" -- وهي خطوة تقول تقارير لمجلة The Atlantic إن بعض النخب الإيرانية تناقشها بالفعل. وهناك دائماً احتمال أن يُجبر "خامنئي" على التنحي، سواء عبر الضغط أو الإقناع، للحفاظ على بقاء الجمهورية الإسلامية.
عند تأسيس الجمهورية بعد ثورة (1979)، حرص "آية الله روح الله الخميني" على حماية النظام الجديد من أي انقلاب محتمل من بقايا النظام الملكي. لذلك، منح "الحرس الثوري" دوراً محورياً في حماية الثورة من التهديدات الداخلية والخارجية، وصمم العلاقة بينه وبين الجيش النظامي بطريقة تُصعّب تنفيذ أي انقلاب عسكري.
لكن اليوم، فقدت المؤسسة الأمنية للحرس الثوري عدداً كبيراً من قياداتها العليا بسبب الضربات الإسرائيلية، وفي بعض الحالات، قُتل حتى بدائلهم المحتملين. وتشير تقارير غير مؤكدة إلى أن "خامنئي" نقل جزءاً من سلطاته إلى مجلس مصغّر من قيادات الحرس الثوري.
في الوقت نفسه، تعمل الطبقة الأدنى في الجهاز الأمني -- بما يشمل "الباسيج" والمتطوعين الجدد خلال الحرب -- على إقامة نقاط تفتيش في مناطق مختلفة من البلاد، وتفتيش الشاحنات التي قد تنقل طائرات مسيّرة أو متفجرات أو ذخائر.
تشير المعطيات الحالية إلى أن الجمهورية الإسلامية، رغم تفشي الفساد البنيوي والتغلغل الإسرائيلي العميق داخل أجهزتها، ما تزال قادرة على البقاء -- في الوقت الراهن. لكنها تصبح أكثر هشاشة مع توافر ظروف معينة قد تؤدي إلى اهتزاز بنيتها الداخلية. ويمكن رصد أبرز مؤشرات ضعف النظام من خلال ما يلي، ومعظمها يندرج تحت فئة الانشقاقات:
- عدم قدرة قوات الأمن على التعبئة الفعّالة، أو الأسوأ من ذلك، شروع عناصرها في هجر الثكنات والقواعد العسكرية.
- بروز انقسامات علنية بين النخب السياسية في البلاد.
- إعلان بعض المسؤولين انشقاقهم عن النظام (وقد زعمت صحيفة واشنطن بوست في تقرير حديث أن "إسرائيل" تضغط على بعضهم للقيام بذلك).
- استئناف الاحتجاجات الشعبية ورفض قوات الأمن إطلاق النار على المتظاهرين -- إما لأنهم يرون أن "السفينة تغرق"، أو لأن المحتجين يشملون أصدقاءهم وأقاربهم.
- اقتحام المواطنين للمقار العسكرية والحكومية، أو تنفيذ عمليات انتقامية ضد رموز النظام.
- دخول العمال في القطاعات الحيوية، مثل النفط، في إضرابات واسعة النطاق.
- تفشي النقص في الغذاء أو الوقود أو المواد الأساسية.
- فرار كبار المسؤولين وعائلاتهم إلى دول حليفة مثل "روسيا". (رغم أن مغادرة "خامنئي" شخصياً تظل مستبعدة، إذ من المرجح أن يختار الموت "شهيداً" على أن يفرّ. كما أن ممرات الهروب إلى الغرب تكاد تكون معدومة، وليس هناك ملاذات معروفة للمسؤولين الإيرانيين الراغبين في الانشقاق).
حتى اللحظة، لم يتحقق أي من هذه المؤشرات بشكل واضح. المواطنون يترقبون بحذر، في انتظار ما إذا كان وقف إطلاق النار سيصمد، أو إن كانت الضربات الإيرانية ضد أهداف أميركية في "قطر" ستقود إلى تصعيد جديد.
وكلما طال أمد الحرب، وازدادت القدرة على التنبؤ بمسارها، تعززت فرص النظام في التأقلم والصمود.
في المقابل، على صناع القرار في الولايات المتحدة أن يتعاملوا مع الوضع الإيراني بوصفه مشهداً سريع التحول، ويستخلصوا الدروس من التجارب الحديثة في الشرق الأوسط -- من هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلى انهيار نظام "الأسد" في سوريا وما تلاه -- والتي أكدت مراراً أن الافتراضات التقليدية لا تصلح دائماً كأساس للتقدير أو التخطيط.
لذلك، يجب أن يكون هناك استعداد ليس فقط للتعامل مع حرب طويلة الأمد دون استراتيجية واضحة، بل أيضاً لاحتمال انهيار نظام سلطوي تسبب في فوضى إقليمية وارتكب فظائع بحق شعبه على مدى أكثر من أربعة عقود.