- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4128
هل استعادت إيران ثقتها بنفسها ؟
يؤكد القادة في طهران أنهم خرجوا منتصرين من حرب حزيران/يونيو، وأنهم قادرون على مواجهة إسرائيل، مما يضع صانعي القرار في واشنطن أمام تحد معقد يتمثل في كيفية التعامل مع إيران.
تُعد خطابات المرشد الأعلى علي خامنئي مؤشراً دقيقاً على موقف الجمهورية الإسلامية، إذ تعكس تصريحاته خلال الأشهر القليلة الماضية (المتاحة بعدة لغات على موقعه الإلكتروني) قدراً متزايداً من الثقة بالنفس في هذا الشأن. من المؤكد أن خامنئي كان مصدوماً بشكل واضح في أعقاب الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً هذا الصيف. كان خطابه في 26 حزيران/ يونيو غير معهوداً على الإطلاق، إذ بدا مرهقاً، وربما ضعيفاً، وركز على موضوعات قومية عامة بدلاً من تعزيز الأسس الأيديولوجية الإسلامية للنظام. ثم التزم الصمت بشكل غير معهود، ولم يظهر إلا في مناسبات محدودة خضعت لإشراف دقيق، على عكس عادته قبل الحرب.
وقد استعاد خامنئي بعضاً من رباطة جأشه في خطاب متلفز في 23 أيلول / سبتمبر، على الرغم من أن نبرته كانت لا تزال دفاعية. وشكا من "عملاء العدو داخل إيران، في طهران"، مدعياً أن "هناك بعض الأشخاص - الذين تعود أصولهم إلى الخارج، وفقاً للمعلومات التي تلقيناها – يحاولون إعطاء الانطباع بأن الوحدة التي ظهرت أثناء وبعد حرب الاثني عشر يوماً كانت مؤقتة فقط". وبدلاً من التعبير عن ثقته على قدرة ايران على الانتصار دبلوماسياً، حذر من إجراء محادثات جديدة قائلاً: "إذا كنت ستتفاوض مع الطرف الآخر وتقبل مطالبه، فهذا يعني الخضوع، وإضعاف البلاد، وتدمير شرف الأمة... في رأيي، المفاوضات مع الولايات المتحدة حول القضية النووية، وربما حول قضايا أخرى أيضاً، هي طريق مسدود تماماً". فما الحل الذى طرحه ؟ أجاب: "مفتاح تقدم البلاد هو أن تصبح قوية"، وهو ما يختلف تماماً عن تصريحاته السابقة التي أكد فيها أن إيران قوية بالفعل بما يكفي لمقاومة ضغوط الأعداء.
لكن في الشهر الماضي، عاد خامنئي بكامل حضوره السابق لما قبل الحرب. ورغم ظهور علامات التقدّم في العمر عليه بوتيرة أسرع، فقد كان الزعيم البالغ من العمر ستة وثمانين عاماً واضحاً ومليئاً بالتهديدات خلال خطابه في 20 تشرين الأول/أكتوبر أمام مجموعة من أبطال الرياضة، حيث تحدث بنبرة انتصار صريحة عن أداء إيران خلال الحرب قائلاً: "تمكنت الصواريخ الإيرانية من اختراق أعماق العديد من المراكز المهمة للنظام الصهيوني لتدميرها والقضاء عليها... تلقى الإسرائيليون ضربة قوية لدرجة أنهم لم يصدقوا ذلك. لم يكونوا يتوقعون ذلك، وفقدوا الأمل. ذهب ترامب إلى هناك لرفع معنوياتهم وإنقاذهم من يأسهم. بل تفاخر بأن إيران مستعدة لجولة أخرى: "كانت قواتنا المسلحة وصناعاتنا العسكرية قد أعدت هذه الصواريخ. استخدموها، ووظفوها، ولا يزال لديهم المزيد. وإذا دعت الحاجة، فسيتم استخدامها مرة أخرى... هذه الصواريخ صنعها شباب إيرانيون. لم نشتريها من أي مكان آخر ".وعلى النقيض من لهجة الثقة الإيرانية، أشار خامنئي إلى أن سبعة ملايين شخص "في مختلف الولايات الأمريكية" يرددون شعارات ضد ترامب في الشوارع..
التحليل الإيراني يدعم وجهة نظر خامنئي
لا شك أن تصريحات خامنئي تثير قلقاً كبيراً في الأوساط الأمريكية التي اعتادت سماع أخبار هزائم إيران وانتصارات إسرائيل. لكن المهم أن ندرك أن القادة الإيرانيين لديهم رواية تفصيلية ومتماسكة تطرح تفكيراً مختلف تماماً للأحداث. ولعل أكثر هذه التفسيرات شمولاً ووضوحاً هو ما قدمه علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، خلال مقابلة مطولة مدتها سبعون دقيقة مع قناة "برس تي في" 4 تموز/ يوليو (مدبلجة إلى الإنجليزية هنا وهنا (.. أصبح لاريجاني الشخصية المرجعية الأولى في الجمهورية الإسلامية للشؤون الدبلوماسية الحساسة، ومن الواضح أنه يحظى بثقة خامنئي المباشرة.
عرض لاريجاني في مقابلته الحجة الأساسية القائلة بأن "إيران حققت انتصاراً حقيقياً" في الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً. وبعد أن أقر بالضربة القوية التي وجهتها إسرائيل في اليوم الأول من الحملة بهجمات على مسؤولين وعلماء إيرانيين، قال: "مع مرور الوقت، اكتسبت إيران الأفضلية... إسرائيل تغرق وتكافح... العدو هُزم في ساحة المعركة." ولدعم هذه الادعاءات، استشهد بمصادر إسرائيلية مختلفة، منها رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، ووزير المالية الحالي بتسلئيل سموتريتش، وقناتا التلفزيون 12 و13، وصحيفة معاريف، مما يدل على إلمامه الدقيق بالتقارير والتحليلات الإسرائيلية حول الحرب.
هذه الآراء ليست خيالية تماماً. فالحقيقة أن الضربات الصاروخية الإيرانية ألحقت أضراراً بعدد من الأهداف الإسرائيلية الحيوية مثل مصفاة النفط في حيفا، وعدة منشآت عسكرية، وعشرات المختبرات البحثية الرائدة في معهد وايزمان للعلوم؛ بل إن لاريجاني اقتبس تصريحاً للرئيس ترامب يؤكد ذلك. وحتى مع الاعتراف بأن مخزون الصواريخ المتاح لإيران انخفض تدريجياً مع مرور الأيام، أشار لاريجاني إلى تصريحات إسرائيلية وأمريكية تفيد بأن مخزونهما من أنظمة الدفاع الصاروخي آخذ في النفاد كذلك. ومثله مثل غيره من المسؤولين الإيرانيين، خلص إلى أن الجمهورية الإسلامية في موقعٍ أفضل من إسرائيل لمواصلة الحرب، قائلاً إن طهران لم تطلب أبداً وقف إطلاق النار، في حين أن الإسرائيليين هم الذين "توسلوا" لإنهاء القتال. كما أكد أن ترامب هو من أمر بوقف إطلاق النار قبل أن تدمر إسرائيل عدداً من الأهداف الحساسة، وهو قرار فسره لاريجاني على أنه دليل على خشية واشنطن والقدس من استمرار الحرب.
الآثار المترتبة على سياسة الولايات المتحدة
ربما تُبالغ طهران في إبراز أوجه القصور الأمريكية والإسرائيلية، وتُظهر ثقتها بنفسها كأداة للردع أكثر من كونها تعبيراً عن القوة الحقيقية. فالقادة الإيرانيون كثيراً ما يسيئون تفسير نتائج عملياتهم العسكرية، مدّعين أنهم تسببوا في خسائر بشرية تفوق الواقع. على سبيل المثال، أكد علي لاريجاني بثقة أن ستة صواريخ إيرانية أصابت منشآت أمريكية في قطر خلال الحرب، ساخراً من البيان الأمريكي - الصحيح - الذي أوضح أن صاروخاً واحداً فقط أصاب هدفه. وبناءً على ذلك، ينبغي على واشنطن أن تقدّم أدلة موثّقة وواسعة النطاق لا لبس فيها كلما أصدرت بيانات بشأن المواجهات أو الأعمال العدائية مع إيران.
من المحتمل جداً أن طهران لا تشعر بالارتباك أو الضعف جراء انتكاساتها العسكرية الأخيرة، على عكس التصور السائد في واشنطن. صحيح أن تصرفات النظام كانت أكثر حذراً منذ حرب حزيران/يونيو، وتحليلاته العلنية مضللة أو مبالغاً فيها في أفضل الأحوال. ومع ذلك، قد يكون هذا التحليل فعلياً انعكاساً حقيقياً لنظرة إيران إلى ذاتها، وبالتالي ينبغي أخذه في الاعتبار عند إعداد تقييمات واشنطن المستقبلية لما قد يُقدم عليه النظام من خطوات.
ومن الجدير بالذكر أن قادة إيران - على عكس شعبها - لا يُبدون قلقاً كبيراً من احتمال أن تتعرض بلادهم لهجمات عسكرية جديدة من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة. إذ يبدو أنهم يعتقدون أن لديهم الوسائل الكافية للرد على أي هجوم من هذا النوع؛ بمعنى آخر، إذا "أخطأت إسرائيل في الحسابات" وهاجمت إيران مجدداً، فإن طهران قادرة - في رأيهم - على الردّ بطرق تجعل إسرائيل في وضع أسوأ.
يبدو أن هذا الإحساس المفرط بالثقة دفع طهران إلى عدم الشعور بأي حاجة عاجلة لإحياء المفاوضات النووية. فبدلاً من الشعور بـ"الضغط الأقصى" بعد الضربات التي وقعت في حزيران/يونيو، يبدو أن القادة الإيرانيين مقتنعون بأنهم قادرون على تحقيق النصر في أي صراع عسكري، مما يجعل العودة السريعة إلى المفاوضات مع الغرب أمراً غير ضروري في نظرهم. وقد جاءت تصرفاتهم الأخيرة منسجمةً مع هذا التصور؛ فلم تُبدِ طهران اهتماماً يُذكر بإعادة فتح المفاوضات مع أوروبا أو الولايات المتحدة. ومؤخراً، صرّح المتحدث باسم وزارة الخارجية إسماعيل بقائي في 3 تشرين الثاني/نوفمبر أن تبادل الرسائل الأخير مع واشنطن "لا يعني استئناف المحادثات النووية"، موضحاً أن "الظروف الراهنة ليست مواتية لحوار ذي مغزى".
وفي الوقت نفسه، يواصل خامنئي تشديد لهجته "المقاوِمة" يوماً بعد يوم. فخلال اجتماعٍ عقده في 3 تشرين الثاني/نوفمبر مع مجموعة من الطلاب إحياءً لذكرى الاستيلاء على السفارة الأمريكية عام 1979، أعلن قائلأ: "إذا توقفوا [الولايات المتحدة] عن دعم النظام الصهيوني، وسحبوا قواعدهم العسكرية من المنطقة، وكفوا عن التدخل في شؤونها، فقد يكون من الممكن إعادة النظر في هذه الأمور. لكن هذا أمر غير متوقع حالياً، ولا في المستقبل القريب. "
باختصار، لا تتصرف إيران كدولة تخشى هجوماً وشيكاً؛ بل تبدو واثقة تماماً من موقعها الاستراتيجي. ولذلك، ينبغي أن يبنى التخطيط الأمريكي المستقبلي على افتراض أساسي مفاده أنه لن يتم التوصل إلى اتفاقٍ دائم مع إيران، وأن النظام سيستمر في انتهاج سلوكاً عدوانياً لتحدي المصالح الأمريكية في المنطقة.
هذا لا يعني أن طهران تستعد حالياً لاستئناف الهجمات أو دعمها ضد المنشآت أو الأفراد الأمريكيين، لكنها - كما في السابق - تُجيد الانتظار حتى اللحظة المناسبة للتحرك. لذلك، يجب على واشنطن أن تبقى يقظة تجاه أي تحركات مفاجئة أو غير متوقعة.
وفي هذا السياق، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين أن يلاحظوا أن التصريحات الإيرانية الأخيرة ركّزت على برنامج الصواريخ بقدر تركيزها على البرنامج النووي، دون أي إشارة تُذكر إلى حلفاء طهران الإقليميين أو وكلائها المسلحين. وقد يُشير ذلك إلى أن المسؤولين الإيرانيين يُحولون جهود الردع تدريجياً نحو تطوير الصواريخ، وربما يتجاوز هذا التحول التقدم النووي ذاته. وفي الواقع، تعمل إيران حالياً على إعادة بناء مصانع الصواريخ التي دُمرت خلال الحرب، بمساعدة مكونات مزدوجة الاستخدام من الصين (مثل بيركلورات الصوديوم). وبينما ركز معظم المحللين الأمريكيين على مسألة ما إذا كانت إيران تعيد إحياء برنامجها النووي وكيفية ذلك، ينبغي إيلاء قدر مماثل من الاهتمام لسرعة إعادة تزويدها بمخزون الصواريخ وقاذفاتها، لأن هذا العامل قد يشكل مؤشراً أوضح على توقيت اللحظة التي ستشعر فيها طهران بالثقة الكافية لتحدي إسرائيل والولايات المتحدة علناً ومباشرةً من جديد.