
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4074
رؤية تركيا للمواجهة بين إيران وإسرائيل

رغم المعارضة التركية الطويلة لطموحات طهران النووية، فإن لدى أنقرة مصلحة قومية وأمنية راسخة في تفادي أي خطوات قد تؤدي إلى اندلاع مواجهة مباشرة مع إيران أو إلى سقوط النظام في الجمهورية الإسلامية.
في 22 حزيران/يونيو، أصدرت وزارة الخارجية التركية رداً متحفظاً على الغارات الجوية الأمريكية التي استهدفت منشآت نووية إيرانية. وعلى خلاف تصريحاتها الانتقادية الحادة السابقة التي أدانت فيها سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال العقد الماضي، اقتصر موقف أنقرة هذه المرة على التعبير عن "قلقها العميق" إزاء الضربات، مع الإشارة بوضوح إلى استعدادها للاضطلاع بدورها والمساهمة بشكل بناء.
ويُعزى هذا التغير في اللهجة، جزئياً على الأقل، إلى العلاقة المتينة بين الرئيس ترامب والرئيس رجب طيب أردوغان. لكن إلى أي مدى يعكس هذا التحول موقف أنقرة الحقيقي، ليس فقط إزاء الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً بين إيران وإسرائيل، بل أيضًا فيما يتعلق بمصالح تركيا الاستراتيجية طويلة الأمد تجاه البلدين، والدور الذي ينبغي ان تلعبه واشنطن في إدارة التباينات بين السياسات الأمريكية والتركية حيال هذه الملفات.
كيف تنظر تركيا إلى إيران وإسرائيل
المفتاح لتقييم نهج أنقرة هنا هو تذكر أنه نهج غير ثنائي - على الرغم من أن تركيا مرت بفترات من العداء أو التنافس المفتوح مع إيران على مدى قرون، إلا أنها شهدت أيضاً توترات عميقة مع إسرائيل لأكثر من عقد من الزمن. وعلى هذا النحو، فهي لا تُفضل حاليا أيا من البلدين. ويُشير سياق الحرب الأخيرة إلى أن أنقرة لا تمانع في الحد من النفوذ النووي الإيراني، لكنها في المقابل تبدي قلقًا إزاء التفوق العسكري الساحق لإسرائيل، وتخشى العواقب المحتملة لانهيار الجمهورية الإسلامية تحت وطأة الضغوط.
تركيا في مواجهة إيران. عندما أصبحت الإمبراطوريتان العثمانية والفارسية جارتين في القرن الخامس عشر، سرعان ما بدأتا التنافس على السيطرة على ما يعرف اليوم بشرق تركيا وغرب إيران. بعد سلسلة من الحروب الطويلة وغير الحاسمة، التي انتهت بإفلاس خزائن الطرفين - في ما يشبه النسخة ما قبل الحديثة من مبدأ "الدمار المتبادل المؤكد" – انتهى بهما الأمر في منتصف القرن السابع عشر إلى حالة من التكافؤ في القوة، واتفقتا على تجنب الحروب مستقبلاً مهما كان الثمن. وبالفعل، تجنبت كلا الدولتين الدخول في صراعات كبيرة لمدة ثلاثة قرون حتى الآن. وباستثناء حروب صغيرة في العراق الذي كان يخضع للسيطرة العثمانية في القرن التاسع عشر وتبادل بسيط للأراضي، كانت الحدود بين إيران وتركيا من بين أكثر الحدود استقراراً في الشرق الأوسط، حيث بقيت قريبة جداً من حدودها الأصلية التي تم تحديدها عام 1639.
في عهد أردوغان، خاضت إيران وتركيا صراعاً طويلاً بالوكالة في سوريا، حيث دعمت طهران نظام الأسد ودعمت أنقرة المتمردين. لكن هذا لم يسهم في تغيير تفكيرهما الاستراتيجي الأوسع نطاقاً، إذ لا تزالان تنظران إلى بعضهما البعض على أنهما متساويتان في القوة، وبالتالي تتجنبان الأعمال العدائية المباشرة.
وبالنظر إلى هذا التوازن التاريخي، تُعد فكرة تحوّل إيران إلى قوة نووية أمرًا مرفوضاً تماماً بالنسبة إلى تركيا. إذا حصلت طهران على هذه الميزة، فإنها ستُنهي فعلياً التوازن في القوة الذي استمر لثلاثة قرون مع منافستها غير النووية. لذلك، دعمت أنقرة بشكل عام الإجراءات التي تهدف إلى منع حدوث هذه النتيجة، على الرغم من اتخاذها خطوات انتهازية ومضرة في بعض الأحيان (على سبيل المثال، السماح لبنوكها بانتهاك العقوبات النووية المفروضة على إيران من أجل الحصول على الأموال). ومع ذلك، فإن الاتجاهات الأخيرة في العلاقات الإسرائيلية التركية (انظر أدناه) تدفع أنقرة إلى الاقتناع شبه التام بمعارضة أحد أقوى الإجراءات الوقائية، وهو التدخل العسكري الإسرائيلي الواسع النطاق ضد برنامج إيران النووي.
تركيا في مواجهة إسرائيل. كانت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بإسرائيل، وظلت الوحيدة لعدة عقود، حيث منحتها اعترافاً دبلوماسياً في عام 1949. وقد لعبت العلمانية في تركيا في عهد كمال أتاتورك وسياسة إسرائيل في تكوين شركاء إقليميين خارج دائرة جيرانها المباشرين دوراً في هذه الديناميكية، مما أدى إلى إقامة علاقات أمنية واستخباراتية وعسكرية واقتصادية عميقة بحلول نهاية القرن العشرين.
ومع ذلك، تدهورت علاقاتهما بشكل حاد في عهد أردوغان الذي اتبع سياسة خارجية تركية غير متمركزة حول الغرب. في عام 2006، أجج أردوغان التوترات باستضافته وفداً من جماعة "حماس" الإرهابية. وانهارت العلاقات تماماً خلال حادثة أسطول الحرية عام 2010، عندما اقتحمت القوات الإسرائيلية سفينة تركية كانت تحاول كسر الحصار المفروض على قطاع غزة الذي تسيطر عليه "حماس"، مما أسفر عن مقتل ثمانية مواطنين أتراك ومواطن أمريكي- تركي مزدوج الجنسية. ولم يساهم استمرار ولاية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سوى في تسريع انهيار العلاقات، حيث أدت الكراهية العميقة والمتبادلة بينه وبين أردوغان إلى جعل إعادة العلاقات الدائمة بين البلدين أمراً يكاد يكون مستحيلاً. وفي تلك الأثناء، أقامت إسرائيل قنوات اتصال مع "قوات سوريا الديمقراطية"، وهي جماعة يقودها أحد الفروع من الخصم اللدود لتركيا، "حزب العمال الكردستاني"، المُدرج كمنظمة إرهابية. وتأتي هذه الخطوة جزئياً كرد على علاقات أنقرة مع "حماس".
أدت أحداث العامين الماضيين إلى زيادة تعقيد الصورة الثنائية. ففي كانون الاول/ ديسمبر الماضي، ساعدت تركيا في سقوط دمشق على يد جماعات متمردة بقيادة "هيئة تحرير الشام"، وهي جماعة أخرى مدرجة على قائمة الارهاب. أثارت هذه الخطوة غضب صانعي السياسة الإسرائيلية، حيث خلص بعضهم إلى أن تركيا الصاعدة أصبحت منافسهم الإقليمي الجديد. ومع ذلك، يشعر صانعو السياسة في أنقرة بشكل متزايد بنفس الشعور تجاه القوة العسكرية التي أظهرتها إسرائيل منذ تشرين الاول/أكتوبر 2023، من تدمير قيادة "حماس" و"حزب الله" وبنيتهما التحتية إلى استهداف كبار القادة العسكريين الإيرانيين والسيطرة الكاملة على المجال الجوي للبلاد.
تخفيف مخاوف تركيا الأمنية الحقيقية
على الرغم من أن أنقرة ستعارض أي استهداف عسكري إسرائيلي إضافي لإيران للأسباب المذكورة أعلاه، إلا أنها لا تزال من المرجح أن تدعم الإجراءات غير العسكرية التي تتخذها الولايات المتحدة بهدف إنهاء طموحات طهران النووية مرة واحدة وإلى الأبد، بما في ذلك فرض مزيد من العقوبات والحوار والضغط الاقتصادي. لذلك، إذا التزم الرئيس ترامب بالطريق الدبلوماسي وضغط على إسرائيل لفعل الشيء نفسه، فسيجد حليفاً في أنقرة.
لكن على واشنطن أن تدرك أيضاً أن هناك حدوداً محتملة لما قد يكون أردوغان مستعداً للوصول إليه، حتى في حال تجنبت الأطراف المزيد من التصعيد العسكري. فلدى تركيا مخاوف أمنية مبررة حول الاحتمال الحقيقي لتخبط النظام الإيراني أو انهياره تحت وطأة الضغط الدولي:
تدفق اللاجئين. تستضيف تركيا بالفعل ما يقرب من أربعة ملايين لاجئ، معظمهم من سوريا ودول أخرى غير مستقرة، لذا فهي تدرك جيداً أن التصعيد العسكري مع إيران قد يؤدي إلى مزيد من تدفق اللاجئين. وعلى الرغم من أن معظم المراكز السكانية الرئيسية في إيران تبعد مئات الأميال عن الحدود التركية، إلا أن العديد من المواطنين الذين فروا من الجمهورية الإسلامية على مدى عقود اختاروا تركيا كملاذ مفضل لهم، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى علاقاتها الوثيقة والسهلة مع وجهاتهم النهائية في أوروبا والولايات المتحدة.
فراغ السلطة وبقايا "حزب العمال الكردستاني". تشعر أنقرة بقلق عميق من أن تستغل العناصر المعادية لتركيا ضعف أو انهيار النظام في إيران للتخطيط لهجمات عبر الحدود على تركيا، على غرار ما فعلته الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل "تنظيم الدولة الإسلامية" و"حزب العمال الكردستاني" التي استغلت فراغ السلطة في العراق وسوريا في الماضي لقتل الأتراك. ويشكل هذا مصدر قلق كبير بشكل خاص في ظل محادثات نزع السلاح الجارية بين أنقرة و"حزب العمال الكردستاني". ولم يستجب "حزب الحياة الحرة في كردستان" (PJAK) - الفرع الكردي الإيراني لـ"حزب العمال الكردستاني" - بعد لدعوة زعيم الحزب عبد الله أوجلان في شباط/ فبراير إلى نزع السلاح. وإذا انزلقت إيران إلى حالة من عدم الاستقرار، فقد يظهر "حزب الحياة الحرة في كردستان" كأحدث فرع إقليمي لـ"حزب العمال الكردستاني" لتقويض الأمن التركي باستخدام أراضي دولة أخرى.
الاستفادة القصوى من التوافق بين ترامب وأردوغان
نظراً لأن أنقرة ترفض بشكل عام عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، فمن المرجح أن تدعم المسارات الدبلوماسية التي تهدف إلى منع إيران من إعادة بناء قدراتها النووية، مع معارضتها لأي خطوات عسكرية قد تُضعف سلطة الدولة بشكل كبير أو تؤدي إلى إسقاط النظام بالكامل. في هذا الصدد، يمكن لإدارة ترامب أن تتوقع من تركيا تنفيذ عقوبات اقتصادية أكثر صرامة، والالتزام بتجنب الأنشطة المصرفية المشبوهة أو غيرها من الإجراءات التي تمكن إيران من التحايل على العقوبات، والمساعدة في المسار الدبلوماسي بمجرد استئناف المحادثات بين الولايات المتحدة وإيران. والسبيل الامثل هنا هو أن تضيف الولايات المتحدة مجموعة القضايا الإيرانية بالكامل إلى حوارها الاستراتيجي الثنائي مع تركيا، وتؤكد لأنقرة أن الهدف ليس إسقاط النظام، بل الضغط عليه للتخلي نهائياً عن طموحاته النووية، وهي نتيجة يؤيدها المسؤولون الأتراك.
في السياق نفسه، قد يكون التوافق الشخصي بين الرئيسين عاملاً حاسماً يمكنه أن يغير قواعد اللعبة ويمهد لمثل هذا التوافق الاستراتيجي. أردوغان ممتن للغاية لترامب لتعليق العقوبات على سوريا، الأمر الذي يمكن أن يساعد في استقرار الحدود الطويلة لتركيا مع جارتها الجنوبية. بالإضافة إلى ذلك، تتوافق قرارات ترامب السياسية ومواقفه المعلنة بشأن تغيير النظام إلى حد ما مع الخط الأحمر الذي وضعه أردوغان بشأن تجنب انهيار الدولة الإيرانية. لذلك، من المرجح أن يتماشى الزعيم التركي بشكل أقوى مع الخطط الدبلوماسية لإدارة ترامب تجاه إيران.
ومع ذلك، من المستبعد جداً أن تدعم أنقرة أي عمل عسكري أمريكي إضافي ضد إيران، ناهيك عن الانضمام إليه. ولم تكن "الجمهورية الإسلامية" أبداً في وضع أضعف من الآن، وقد تدفعها الضربات المتتالية إلى حافة الانهيار. في هذا السيناريو، قد تفوت تركيا فرصة تأمين مصالحها أو حتى تنحرف تماماً عن سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران. وستظهر مخاطر مماثلة إذا جددت إسرائيل من حربها الجوية. في كلتا الحالتين، يجب على واشنطن الاعتماد على التواصل المباشر بين الرئيسين لمنع تصعيد التوترات إلى أزمة ثنائية شاملة. كما ينبغي على إدارة ترامب أن تنظر في تعزيز جهودها لبناء الثقة بين إسرائيل وتركيا على نطاق أوسع، من خلال جمع الطرفين لإجراء مزيد من المحادثات بشأن أنشطة أنقرة العابرة للحدود في شمال وجنوب سوريا، والتي تُعد مصدراً آخر للتوتر الثنائي.
الدكتور سونر چاغاپتاي هو زميل أقدم في برنامج الزمالة "بايير فاميلي" ومدير "برنامج الأبحاث التركية" في معهد واشنطن.