
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4114
لم يعد الإيرانيون يلتفون حول الجمهورية الإسلامية

محاولات النظام لاستنهاض النزعة القومية وتعزيز شرعيته بعد الحرب باءت بالفشل، فيما تعيش المعارضة أوج قوتها التاريخية.
في 27 تموز/يوليو، كُشف في ميدان "ونك" بطهران عن أكبر تمثال برونزي في إيران حتى الآن: تمثال ضخم بارتفاع نحو خمسين قدماً يجسّد شخصية "آرش الرامي"، البطل الفولكلوري الفارسي القديم الذي تحوّل إلى رمز للحرب الأخيرة التي استمرت اثني عشر يوماً مع إسرائيل. وبحسب الأسطورة، أطلق "آرش" سهماً لتحديد حدود إيران مع "توران"، لكنه قضى نحبه من شدة الجهد، مضحياً بحياته من أجل إنهاء الحرب وضمان بقاء الأمة. وقد استُحضرت هذه الرمزية في لوحات دعائية، وفي تغريدة للرئيس "مسعود بزشكيان"، وفي مناسبات أخرى، بهدف إثارة مشاعر قومية وتوظيف التاريخ ما قبل الإسلامي لتعزيز شرعية النظام في وقت تواجه فيه السلطة مستويات غير مسبوقة من المعارضة الشعبية. غير أن معظم الإيرانيين لا يرون في ذلك سوى محاولة فاقدة للمصداقية.
في محاولة لتسويق هذه الرواية، استعانت وسائل الإعلام الحكومية برموز فارسية قديمة في برامجها. فقد أظهر أحد المقاطع، خلال الحرب، نقشاً بارزاً لجندي أخميني من "برسبوليس" يحمل علم الجمهورية الإسلامية إلى جانب جندي حديث، على خلفية كُتب عليها: "برايه إيران" – من أجل إيران. كانت هذه العبارة تلاعباً بأغنية "شيرفين حاجي بور" الشهيرة "برايه"، الحائزة على جائزة غرامي، والتي تحولت إلى النشيد غير الرسمي لانتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" عام 2022 المطالِبة بإنهاء سلطة المؤسسة الدينية، قبل أن يتبناها لاحقاً الرئيس "مسعود بزشكيان" شعاراً لحملته الانتخابية. وبعد إعلان وقف إطلاق النار مع إسرائيل في 24 حزيران/يونيو، أُعيد إحياء النشيد الوطني ما قبل الثورة "إي إيران" (يا إيران) في مناسبات عديدة – وإن مع بعض التعديلات في كلماته – بما في ذلك في ميدان آزادي الشهير، الذي كان شاهداً في السابق على محطات فارقة من تاريخ الحراك الجماهيري، مثل المظاهرات المناهضة للشاه عام 1979، و"الحركة الخضراء" عام 2009.
والمفارقة أن هذه الصور طُرحت خلال شهر محرم، الشهر المقدس الذي يحيي فيه الشيعة ذكرى استشهاد حفيد النبي "محمد" في كربلاء– وهو رمز ديني طالما استُخدم لتعبئة الإيرانيين ضد ما يُسمى بالإمبريالية الغربية. إلا أن الرمزية استُحضرت هذه المرة من التاريخ ما قبل الإسلامي، بما في ذلك في أول خطاب للمرشد الأعلى "علي خامنئي" بعد انتهاء الحرب، والذي جاء في محرم بنبرة بدت أكثر قومية إيرانية منها إسلامية. وفي مختلف أنحاء البلاد، مزج المداحون في قصائدهم بين رثاء الإمام "الحسين" والثيمات القومية. هذا التوجه استمر لاحقاً، حيث ظهر الرئيس "مسعود بزشكيان" في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وهو يضع على صدره دبوساً على شكل خريطة إيران.
لكن هذا التوجه لم يبدأ مع الحرب، بل سبقه بسنوات. فمنذ مطلع العقد الأول من الألفية، لجأت الجمهورية الإسلامية إلى وسائل غير تقليدية لكسب القلوب والعقول، بدءاً من تنظيم عرض مسرحي للملحمة الفارسية القديمة "الشاهنامه"، وصولاً إلى الاستعانة بمغني الراب السري "أمير تتلو" لأداء أغنية تحمل شعار النظام: "الطاقة النووية حق متأصل لنا". والمفارقة أن "تتلو" نفسه سُجن لاحقاً ويواجه اليوم حكماً بالإعدام. وعلى الرغم من أن النظام يظل في جوهره إسلامياً، فإنه يحاول أن يظهر بمظهر أكثر قومية وربما أكثر إيرانية في محاولة يائسة لتعويض التآكل المتسارع في شرعيته. وقد سرّعت الحرب الأخيرة هذا المسعى، في ظل واقع تشير التقديرات إلى أن نحو 80 في المئة من الإيرانيين يعارضون المؤسسة الدينية ويطالبون بزوالها.
على مدى التاريخ الحديث، احتفى الإيرانيون بالقومية، بل إنهم نظروا إلى حرب إيران– العراق الدامية التي استمرت ثماني سنوات بوصفها إعادة تمثيل لمعركة "كربلاء" بمعناها العادل. غير أن الموقف اليوم يختلف كثيراً؛ فالإيرانيون منقسمون على نحو متزايد إزاء القومية النووية للجمهورية الإسلامية. فبعد ما يقارب جيلاً كاملاً منذ أن بدأت طهران تخصيب اليورانيوم محلياً عام 2006، بات كثيرون يربطون البرنامج النووي بالعزلة الاقتصادية والمعاناة اليومية، نتيجة سوء الإدارة والفساد، فضلاً عن محدودية الفوائد التي جلبها الاتفاق النووي لعام 2015، والتي سرعان ما تبخرت بعد انسحاب الولايات المتحدة منه في 2018.
غير أن الحرب الأخيرة غيّرت جانباً من هذا التفكير. فقد جادل بعض الإيرانيين– معظمهم من أنصار النظام ومن الذين استبدّت بهم نشوة قومية عقب غزو عدو أجنبي لبلادهم– بأن امتلاك طهران سلاحاً نووياً كان سيشكل رادعاً للهجمات الإسرائيلية والأمريكية. وهذه المشاعر لم تولد مع الحرب وحدها، بل سبقتها أيضاً، حين رأى البعض أن على إيران المضي "إلى النهاية" في برنامجها النووي ما دامت قد التزمت باتفاق 2015 ومع ذلك فُرضت عليها العقوبات.
في المقابل، منحت الحرب الإيرانيين المعارضين للنظام إدراكاً صارخاً لمدى هشاشة بلادهم: فلا صفارات إنذار جوية، ولا ملاجئ، فيما جلبت سياسات المؤسسة الدينية– من تسليح وتمويل الوكلاء في الخارج، والدعوة إلى تدمير إسرائيل، إلى تطوير البرنامج النووي– الحرب إلى عتبة بيوتهم. صحيح أنهم لم يرغبوا برؤية بلادهم تُدمَّر في صراع أودى بحياة 1،190 إيرانياً، بينهم ما لا يقل عن 436 مدنياً، لكنهم في الوقت نفسه لم يروا في المؤسسة الدينية حامياً لهم. لقد التفوا حول تراب إيران، لا حول علم الجمهورية الإسلامية. وكما قال الباحث "حسين دهباشي": "إنه خطأ جسيم إذا ظنّ المسؤولون أن تعاطف ووحدة الإيرانيين في مواجهة عدو خارجي يعني رضاهم عن الجمهورية الإسلامية".
الآن، وبعد انقشاع ضباب الحرب، توصّل كثير من الإيرانيين إلى أن أعمق مشكلاتهم ليست خارجية بل محلية الصنع: سوء إدارة ممنهج، فساد متجذّر، وقمع مستمر منذ ستة وأربعين عاماً. فبعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على وقف إطلاق النار، يعيش المواطنون انقطاعات غير مسبوقة في الكهرباء ونقصاً في المياه يشل حياتهم اليومية. بالنسبة للبعض، قد تعني الانقطاعات مجرد تعطيل الأعمال المنزلية، أو احتجاز الناس في المصاعد، أو إجبار الجراحين على إجراء عملياتهم تحت ضوء مصباح يدوي. لكن بالنسبة للإيراني العادي، الأمر يتجاوز الانزعاج؛ فهو صراع يومي من أجل البقاء في ظل اقتصاد فاسد. فالأطعمة تفسد سريعاً، والأجهزة الإلكترونية والأدوات المنزلية تحترق بسبب تقلبات الكهرباء، في حين أن استبدالها بات شبه مستحيل بفعل التضخم المنفلت وريال فقد قيمته. وفي مواجهة هذا الواقع، لجأت السلطات إلى إغلاق المكاتب والمدارس لتخفيف الضغط على شبكة الكهرباء– مفارقة مُدانة في بلد يحتل المرتبة الثانية عالمياً في احتياطيات الغاز الطبيعي والرابعة في احتياطيات النفط.
لكن أزمة المياه تبدو أشد خطورة، إذ تدخل البلاد عامها الخامس على التوالي من الجفاف نتيجة عقود من سوء إدارة الموارد المائية، فاقمها تغير المناخ. من يستطيعون دفع التكاليف يعتمدون على مضخات المياه، غير أن دعاة البيئة بل وحتى بعض مسؤولي النظام يحذرون من احتمال نفاد المياه في العاصمة خلال أسابيع . ومنذ بداية الحرب، اندلعت احتجاجات في مناطق عدة من البلاد، بينها مقاطعة "فارس" في الجنوب الغربي، التي شكّلت الإضرابات فيها ذات يوم مفتاحاً لثورة 1979. غاضبون من إنفاق ثرواتهم على الوكلاء في الخارج، هتف المحتجون: "لا غزة ولا لبنان، روحي فداء إيران"، و"اتركوا فلسطين وفكروا فينا". كما علت أيضاً هتافات: "الحرية، الحرية، الحرية" و"الموت لخامنئي". هذه الشعارات، المألوفة منذ سنوات، اكتسبت صيغة جديدة: "الماء، الكهرباء، الحياة حقوق متأصلة لنا"، في تحوير لاذع لشعار النظام النووي القديم. وفيما حاولت المؤسسة الدينية احتكار النشيد الوطني ما قبل الثورة "إي إيران"، ردّد المتظاهرون النشيد نفسه، مسلّطين الضوء على سؤال جوهري: من يمثل القومية الحقيقية، الجمهورية الإسلامية أم أولئك الذين يجرؤون على تحديها؟
وفي حين يروّج النظام لصورة زائفة عن الوحدة الوطنية، فإنه في الواقع يشن، وفق منظمات حقوق الإنسان، حملة قمع غير مسبوقة: اعتقال ما يقارب 21 ألف "مشتبه به"، وتنفيذ أكثر من ألف حكم إعدام منذ كانون الثاني/يناير– وهو أعلى معدل منذ خمسة عشر عاماً. وإلى جانب ذلك، طُرد أكثر من نصف مليون لاجئ أفغاني منذ حزيران/يونيو بذريعة تعاونهم مع "الموساد" الإسرائيلي. ولم تتوقف الإجراءات عند هذا الحد، إذ وُجهت تهم حتى ضد ممثلة كوميدية لمجرد سخريتها من مؤلف "الشاهنامه"، في محاولة واضحة لاستثارة المشاعر القومية وتوظيفها سياسياً.
خلال شهر محرم، انتشرت صور ومقاطع فيديو لنساء من "الجيل زد" يظهرن في تجمعات مختلطة من دون الحجاب الإلزامي، ما أثار انتقادات بأن السلطات نفسها رتبت تلك المشاهد لإظهار صورة زائفة عن تخفيف القيود. في الواقع، كان النشطاء يوثقون حملة قمع "كارثية" ضد النساء. فمنذ عام 2022، باتت مظاهر التحدي لفرض الحجاب مألوفة في معظم أنحاء البلاد، رغم تهديدات الاعتقال، والغرامات الباهظة، وتشريع قانون أكثر صرامة لفرض الحجاب. وكما قالت الناشطة في حقوق المرأة "زينب زمان" تعليقاً على الصور المنتشرة: "وجود النساء بلا حجاب في الشوارع ليس منحة من السلطات، بل ثمرة سنوات من النضال والشجاعة والمقاومة التي تخوضها النساء من أجل حق اختيار لباسهن– وما زال هذا النضال مستمراً".
في مطلع أيلول/سبتمبر، أثار إعلان مفاجئ عن منح المغني الكلاسيكي "همايون شجريان" تصريحاً لإقامة حفل في ميدان "آزادي" جدلاً واسعاً. فقد اعتبره منتقدون أداة بيد النظام لتلميع صورته وتبييض انتفاضة 2022، التي صادفت ذكراها في 16 أيلول/سبتمبر. وبعد أيام قليلة، أعلن "شجريان" إلغاء الحفل التاريخي، مبرراً ذلك بـ"ضعف الإدارة في التعامل مع حشود قد تصل إلى الملايين"– وهو تفسير يراه كثيرون ستاراً يخفي خشية السلطات من اندلاع احتجاجات معادية للنظام خلال الحدث.
وفي الساحة السياسية، أصدرت "الجبهة الإصلاحية"– وهي مظلة تضم سبعة وعشرين فصيلاً إصلاحياً– بياناً يطرح خارطة طريق لإصلاحات داخلية وخارجية. إصلاحات كان من الممكن أن تلقى ترحيباً واسعاً قبل سنوات، لكنها اليوم تُقابل بقدر كبير من الشكوك. شملت المقترحات تعليق تخصيب اليورانيوم بشكل كامل، الإفراج عن جميع السجناء السياسيين، تعديل القوانين المتعلقة بحقوق المرأة، وحظر مشاركة "الحرس الثوري الإيراني" في السياسة– وهي خطوات من شأنها إحداث تحوّل جذري في بنية الجمهورية الإسلامية. وقد قوبلت هذه المبادرة سريعاً بإدانة شديدة من صحيفة "كيهان"، لسان حال المرشد الأعلى.
الأهم أن انتفاضة 2022 أظهرت بوضوح أن شريحة واسعة من الإيرانيين فقدت الثقة نهائياً في المؤسسة الدينية– وهو شعور تعمّق مع إخفاق الإصلاحيين المتكرر، على مدى عقود، في الوفاء بوعود توسيع الحريات المدنية وإحداث تغييرات ملموسة. وقد تجلى هذا التراجع في انتخابات العام الماضي الرئاسية والبرلمانية، التي سجلت أدنى نسب إقبال في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
وفي آب/أغسطس، وقّع سبعة عشر ناشطاً سياسياً وحقوقياً بياناً يطالب بإجراء استفتاء وتشكيل جمعية تأسيسية. وكما أوضحت الناشطة الحائزة على جائزة نوبل "نرجس محمدي": "الجمهورية الإسلامية كحكومة استبدادية دينية أثبتت أنها غير قابلة للإصلاح". تصريحات مشابهة صدرت في تموز/يوليو عن زعيم "الحركة الخضراء" "مير حسين موسوي"– الموضوع رهن الإقامة الجبرية منذ عام 2011– ولاقت تأييداً من نحو سبعمائة ناشط.
في هذه الأثناء، ومع بدء عملية الثلاثين يوماً في آب/أغسطس لإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة، هبط الريال الإيراني إلى مستويات قياسية مقابل الدولار الأمريكي، مما فاقم التآكل المستمر في القوة الشرائية للإيرانيين منذ إعادة فرض العقوبات. لكن بدلاً من توجيه غضبهم نحو الغرب، وجّهته فئات واسعة إلى حكومتهم. ففي بيان صادر عن "الاتحاد الحر للعمال الإيرانيين" جاء: "نحن، العمال والمتقاعدون وأصحاب الأجور والفئات المضطهدة في المجتمع، نعرفكم جيداً، ولن نسمح لكم بخداعنا بأعذار مثل الحروب والعقوبات والتضخم الذي صنعتموه بأيديكم". ورددت أصوات مماثلة في "كرمانشاه" يوم 21 أيلول/سبتمبر، حيث هتف المتقاعدون: "عدوّنا هنا، ويكذبون حين يقولون إنه في أمريكا"، و"كفى تحريضاً على الحرب، موائدنا فارغة".
يتوقع كثير من الإيرانيين أن حرباً أخرى مع إسرائيل باتت حتمية، فيما تبدو المؤسسة الدينية منشغلة بإعادة بناء ما تبقى من مواقع صواريخها الباليستية وتعزيز العمل في أحد منشآتها النووية. مؤشرات الاستعداد لمواجهة جديدة واضحة: مناورات عسكرية متواصلة؛ إعادة تفعيل "مجلس الدفاع الوطني"– الذي لم يُستدعَ منذ حرب العراق– للتخطيط لتدابير دفاعية مستقبلية؛ وجمع الجيش وصايا الجنود والتجهيز لتوزيع بطاقات الهوية عليهم. ومع ذلك، كما قال "علي أنصاري"، مدير معهد الدراسات الإيرانية في جامعة "سانت أندروز"، للمؤلف: "إن فكرة أن إيران مستعدة لحرب أخرى مع إسرائيل بينما هي حرفياً على وشك أن تنفد من المياه، فكرة هزلية. الأمر أشبه بإعادة ترتيب الكراسي على سطح التايتانيك".
في الواقع، لم تبدُ الجمهورية الإسلامية أكثر هشاشة مما هي عليه اليوم، فيما يبدو مستقبل البلاد مفتوحاً على احتمالات عديدة– تتشكل بفعل الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، وبانتظار مرحلة ما بعد "خامنئي"، وبقرارات "الحرس الثوري الإيراني"، أو بمزيج من كل هذه العوامل. وكما قال "علي أنصاري": "الجمهورية الإسلامية كنظام سياسي تموت موتاً بطيئاً بألف جرح، وأيٌّ من هذه الجروح قد يكون قاتلاً". وفي الأسابيع الأخيرة، غزت الميمات ومقاطع الفيديو المستوحاة من "التايتانيك" فضاء الإيرانيين الرقمي، في انعكاس لرؤية شعبية متنامية بأن الجمهورية الإسلامية في طريقها إلى الغرق.