- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
هل أوشك "النضال المسلح" الفلسطيني على نهايته؟
Also published in "جيروزاليم ستراتيجيك تريبيون"
تواجه الجماعاتُ المسلحة ضغوطا متزايدة، ويبدو أن شن عمليات نضال مسلح واسعة النطاق قد أصبح أمراً صعب المنال، غير أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كان الفلسطينيون مستعدّين، في نهاية المطاف، للتخلّي عن شعارهم التاريخي.
شكل "النضال المسلح" الركيزة الأساسية، والراية العالية، وجوهر روح الحركة الوطنية الفلسطينية منذ السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. وقد أدى الاعتقاد بأن الحركة الصهيونية لا يمكن مواجهتها إلا في ساحة المعركة إلى ظهور العديد من الجماعات العسكرية الفلسطينية على مدى عقود متتالية. وقد أصبح هذا النهج هو السردية المُهيمنة للمنظمات التي ظهرت في أواخر الخمسينيات مع تأسيس "فتح"، وإنشاء "منظمة التحرير الفلسطينية" في الستينيات من قبل الجامعة العربية. وقد لخص ياسر عرفات، الذي تولى قيادة "منظمة التحرير الفلسطينية"، هذا النهج بقوله إن "الحرية والعدالة تأتيان من فوهة البندقية". كما غذت جميع الفصائل الفلسطينية على طول الطيف السياسي هذا الشعار من خلال حملات تلقين مكثفة، وتجنيد الشباب المراهقين للمشاركة في معسكرات صيفية شبه عسكرية، وإنشاء أنظمة محسوبية وشبكات تمويل سمحت بتجهيز عشرات الآلاف من الشباب الفلسطيني بالأسلحة مع وعدهم بأنهم سيصبحون شهداء مجيدين في حالة موتهم.
ماضي وحاضر ""النضال المسلح"
توقع العديد من المحللين أن تمثل اتفاقيات أوسلو لعام 1993 نقطة تحول في مسار منظمة التحرير الفلسطينية بعيداً عن "النضال المسلح" نحو البحث عن مصالحة سلمية تدريجية مع إسرائيل. غير أن تلك الآمال تبددت في أقل من عامين عندما أقر عرفات سراً بالعمليات الانتحارية التي شنتها حركة "حماس". وبالفعل، أصبح خطاب منظمة التحرير الفلسطينية أكثر غموضاً وأقل تحدياً. الا أن كوادر التنظيم أي ميليشيا "فتح" تم تزويدهم بالأسلحة سرياً، بينما ظل عرفات يشير إلى أتباعه بأن عملية أوسلو ليست سوى هدنة، أو وقف مؤقت لإطلاق النار حتى "يزحف ملايين الشهداء إلى القدس".
في عام 2000، أطلق عرفات العنان للعنف في الانتفاضة الثانية الدموية. وعلى عكس رغبات الكثيرين، لم تشكل اتفاقيات أوسلو نقطة تحول، بل كانت مجرد فترة هدوء دبلوماسية في مأزق دموي مستمر. وفي أواخر عام 1995، كان رئيس الوزراء رابين نفسه يفكر في إعادة تقييم اتفاقيات أوسلو، حيث كان يخطط لإرسال رسالة صارمة إلى عرفات في اجتماعهما القادم المقرر عقده في كانون الثاني/ يناير 1996، لكنه اُغتيل بصورة مأساوية قبل انعقاد الاجتماع.
ومما يُحسب لمحمود عباس أنه كان أول زعيم فلسطيني رفيع المستوى ممن تجرأ على التشكيك، خلال الانتفاضة الثانية في الفترة 2000-2005، في مشروعية التمسك بـ"النضال المسلح"، ودعا إلى استبداله بمعركة دبلوماسية وقانونية ضد إسرائيل. لكن عباس فشل في إقناع الكثيرين من أعضاء حركته "فتح"، كما واجه صعوبة كبيرة في التأثير على المنظمات المسلحة الفلسطينية الأخرى لتغيير نهجها حتى بعد تسلُّمه القيادة من عرفات في عام 2005. ونتيجة لذلك، ظل العديد من أعضاء أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية تحت قيادته متورطين في أنشطة إرهابية، متحدين بذلك أوامره الصريحة.
أدى التفوق المطلق لـ"النضال المسلح" في الخطاب الفلسطيني إلى تثبيط أي محاولة جادة لمناقشة المستقبل أو التخطيط له في دولة فلسطينية. وتخلو الأدبيات السياسية الفلسطينية من أي نقاش جاد حول نوع الدولة التي يطمح الفلسطينيون في إقامتها، وما ستكون عليه سياساتها الاقتصادية والخارجية والاجتماعية.
وكان الاستثناء الوحيد المهم ندوة عقدتها حركة "حماس" في غزة - برعاية الراحل يحيى السنوار - قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. وقد كان التركيز الرئيسي لما وُصف بأنه جلسة عصف ذهني منصباً على مسألة كيفية التعامل مع اليهود في الأراضي التي سيتم تحريرها. وتم التوصل إلى توافق واسع بين المشاركين على أن معظم اليهود الإسرائيليين يجب إبادتهم أو طردهم، بينما سيُجبر أولئك الذين ساهموا في نجاح إسرائيل في مجال التكنولوجيا المتقدمة وغيرها من المجالات الحيوية على خدمة السلطات الفلسطينية الجديدة.
ومع ذلك، فإن التداعيات المستمرة للحرب الدائرة في غزة تثير تساؤلات بين الفلسطينيين حول جدوى "النضال المسلح". وحتى الآن، ينعكس هذا الاتجاه بشكل رئيسي في تبادل الآراء المحتدم على منصات التواصل الاجتماعي، وفي الجدل الداخلي في حركة "حماس". وتزداد الانتقادات الموجهة إلى كل من محمد ضيف ويحيى السنوار لشنهما هجوماً غير محسوب أدى إلى "نكبة ثانية" - وهو تكرار للهزيمة والتشريد الجماعي اللذين نتجا عن نشوب الحرب في عام 1948.
من المؤكد أن "النضال المسلح" لا يزال يُروَج له يومياً في أوساط المجتمعات الفلسطينية من قبل إيران ووكلائها، ويعتقد ما لا يقل عن نصف الفلسطينيين - وفقاً لاستطلاعات الرأي المختلفة - أنه لا يزال ضرورياً. غير أن الشكوك بدأت تظهر. وربما نكون على وشك الوصول إلى نقطة يشعر فيها الفلسطينيون بأنهم مضطرون للاختيار بين الطريق الذي أدى إلى إخفاقات الماضي ومحاولة شق طريق جديد. وسيتطلب ذلك بالتأكيد وقتاً، وسيؤدي حتماً إلى انقسامات وصدوع، وربما حتى إلى صراع عنيف، بين الفلسطينيين.
في الوقت الحالي، يقترح عدد قليل من المثقفين الفلسطينيين التخلي عن "النضال المسلح" بسبب عواقب الحرب المستمرة. وتتركز الانتقادات الموجهة إلى حركة "حماس" على التوقيت والتخطيط، إذ شنت قيادة "حماس" في غزة هجوم "طوفان الأقصى" بتهور، وتصرفت بشكل مستقل دون أن تضمن مسبقاً هجمات منسقة من لبنان وسوريا والعراق وأجزاء أخرى من "محور المقاومة" الذي ترعاه طهران، ودون مشاركة مباشرة من إيران نفسها في المراحل الأولى. وتؤكد هذه الأصوات أن هجوماً مفاجئاً على جبهات متعددة كان يمكن أن يؤدي إلى نتيجة مختلفة.
قد يبدو هذا الادعاء معقولاً، لكنه غير واقعي. فلم تكن إيران و"حزب الله" والرئيس بشار الأسد مستعدين في السابع من أكتوبر 2023 لشن حملة شاملة. والأهم من ذلك أن هذا النمط من التفكير، أي "النضال المسلح" الفلسطيني يخضع للاستراتيجية التي يفرضها شركاء غير فلسطينيين. وقد أكد عرفات منذ بداية مسيرته السياسية أن العرب خانوا الفلسطينيين، وأن "النضال المسلح" الفلسطيني يجب أن يستند حصرياً إلى مبدأ استقلالية صنع القرار الفلسطيني.
التوقعات الإقليمية لنهج "النضال المسلح"
في الوقت الحالي، يواجه التمسك بأولوية "النضال المسلح" قائمة طويلة من العوائق الناجمة عن الحرب التي شنتها حركة "حماس" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وتُشكّل هذه العوامل مجتمعة بيئة إقليمية معادية للجماعات المسلحة الفلسطينية. فقواتها آخذة في التناقص، وانتشارها الجغرافي آخذ في التقلص، وترسانة أسلحتها متدهورة، مع تراجع التسامح من جانب الحكومات العربية، بينما أصبح التهديد المستمر بعمليات الجيش الإسرائيلي ضد قادتها وقواعدها جزءاً لا يتجزأ من المعادلة.
في قطاع غزة، تعرّض الجناح العسكري لحركة "حماس" - كتائب عز الدين القسام - لضربة قاسية. فقد قُتل نحو 20 ألفاً من مقاتليها، بما في ذلك معظم قادة الصفين الأول والثاني تقريباً، كما دُمرت أو أُغلقت معظم شبكة أنفاقها، وتعرّضت معظم ترسانتها الصاروخية وأسلحتها المضادة للدبابات لدمار كبير. وتتعرض "حماس" حاليًا لهجوم من قبل خمس قوات مهام تابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي، بينما تواجه صعوبات متزايدة في إعادة تكوين سلسلة قيادة وفرض الانضباط على بقية مقاتليها.
وقد أبدت الحركة استعدادها للتخلي عن إدارة غزة وتسليمها لفريقٍ من التكنوقراطيين المرتبطين بالسلطة الفلسطينية. وقد ابلغ مفاوضو "حماس" المبعوثين الأمريكيين أنهم مستعدون لهدنة مدتها من خمس إلى عشر سنوات مع إسرائيل. علاوة على ذلك، ألمح بعض كبار القادة سراً إلى إمكانية موافقة "حماس" على ترحيل قادتها وعدد غير محدد من عناصرها من الرتب الدنيا. وفي الوقت نفسه، تُمارَس ضغوط دولية متزايدة على "حماس" لقبول نزع السلاح. وقد اقترح الرئيس عباس تخزين أسلحة "حماس" الثقيلة تحت إشراف مسؤوليه في السلطة الفلسطينية. وقد أوضحت السعودية والإمارات ومصر أن "حماس" يجب أن تنزع سلاحها قبل أن تتدفق أموال إعادة الإعمار إلى غزة. وباختصار، مهما كانت الترتيبات لإنهاء حرب غزة، فإن "حماس" لم تعد تشكل تهديداً عسكرياً لإسرائيل.
في الضفة الغربية، شنت قوات الدفاع الإسرائيلية سلسلة من العمليات التي لم تحظَ بتغطية إعلامية كبيرة ضد قوات " الكتائب" التي أنشأتها حركة "الجهاد الإسلامي" و"حماس" في مخيمات اللاجئين الشمالية وبعض القرى المجاورة، بتمويل إيراني وأسلحة مهربة عبر نهر الأردن. وقد تم اعتقال معظم مسلحي الكتائب، أو استسلموا للسلطة الفلسطينية، أو قُتلوا خلال التوغلات الإسرائيلية، بينما اختبأ آخرون. كما تم تدمير المعاقل المحصنة التي أُقيمت في مخيمات اللاجئين في جنين ونابلس. وتبدو حركة "حماس" عاجزة عن إعادة بناء شبكتها السرية في المنطقة، وقد فشلت حتى الآن في حشد قواها لخوض اشتباكات مع الجيش الإسرائيلي في جنوب الضفة الغربية، بما في ذلك مدينة الخليل، التي تُعتبر عادة موالية لحركة "حماس".
أما أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، والتي يبلغ قوامها 35 ألف فرد، فقد شهدت في الأسابيع الأخيرة ما يشبه عملية تطهير شملت غالبية كبار الضباط من قدامى عهد عرفات، إلى جانب آخرين متقاعدين، مع تجنيد عناصر شبابية جديدة. ويأتي ذلك في أعقاب فشل الكتيبتين المتخصصتين، التاسعة والمئة والواحدة، في استعادة القانون والنظام في مخيمات اللاجئين الشمالية.
في لبنان، نجح الرئيس جوزيف عون والحكومة الجديدة في الضغط على حركة "حماس" لوقف إطلاق الصواريخ على إسرائيل، واعتقال بعض عناصرها. ويواجه حلفاء "حماس" المحليون في لبنان، مثل "الجماعة الإسلامية"، ضغوطاً للانسحاب من التعاون مع "حماس" ونزع سلاح جناحها العسكري المتمثل في "قوات الفجر". كما تضغط القيادة المخضرمة لجماعة "الإخوان المسلمين" في لبنان من أجل إقالة الشيخ طاقوش من منصبه كزعيم للحركة، نظراً لتعاونه الوثيق مع حركة "حماس".
وفوق كل ذلك، تواجه حركة "حماس" وغيرها من الفصائل الفلسطينية المسلحة مطلب السلطات اللبنانية بنزع سلاح اثني عشر مخيماً للاجئين الفلسطينيين. وقد قبل الرئيس عباس هذا المطلب نيابة عن حركة "فتح" و"منظمة التحرير الفلسطينية"، وقد يتمكن من إقناع الجماعات الموالية له بحلّ نفسها. ومن ناحية أخرى، قد يحث "حزب الله" حركة "حماس" على رفض نزع السلاح، معتبراً ذلك مقدمةً لمحاولة استكمال نزع سلاح "حزب الله" نفسه، حتى بعد تسليمه معظم مواقعه جنوب نهر الليطاني. ويُقدَر عدد المسلحين الفلسطينيين في المخيمات ببضعة آلاف، وتتمثل الخطة في بدء العملية في مخيمات العاصمة بيروت، ثم الانتقال شمالاً وشرقاً، ومحاولة التوصل في النهاية إلى اتفاق لنزع سلاح أقوى المخيمات الفلسطينية، وهو مخيم "عين الحلوة" بالقرب من صيدا، الذي تسيطر عليه حركة "حماس" إلى حد كبير. وقد استولى الجيش اللبناني بالفعل على عدة قواعد لجماعات فلسطينية مسلحة صغيرة خارج المخيمات.
في سوريا، اتخذ النظام الذي أعقب عهد الأسد، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، إجراءات للحد من الأنشطة العسكرية الفلسطينية، حيث اعتقل بعض القادة البارزين، وأفادت تقارير بأنه أقال اثنين من القادة الفلسطينيين المتحالفين مع حركة "هيئة تحرير الشام" في محافظة إدلب.
ولا تسمح دول الخليج ومصر والأردن بأي نشاط عسكري فلسطيني على أراضيها. وتسمح تركيا وقطر لحركة "حماس" بالاحتفاظ بمقراتها وتوجيه عملياتها من بُعد، لكنها لا تسمح حتى الآن بنشر قوات مسلحة تابعة لها.
وفي العراق، تُعرب "قوات الحشد الشعبي"، التي تُعد جزءاً من شبكة الوكلاء الإيرانيين، عن دعم واضح لحركة "حماس" و"النضال المسلح" عموماً، لكن لم يتم حتى الآن رصد أي وجود عسكري مباشر لحركة "حماس" هناك.
والخلاصة أن الجماعات الفلسطينية المسلحة تتعرض لضغوط متزايدة في الداخل والخارج. وفي المستقبل المنظور، يبدو أن احياء النضال المسلح على نطاق واسع أمر مستبعد، باستثناء العمليات الإرهابية المتفرقة. والسؤال الكبير هو ما إذا كان الفلسطينيون مستعدين للتخلي عن هذا المبدأ القديم.
إيهود يعاري هو زميل في برنامج "ليفر" الدولي في معهد واشنطن، ومعلّقٌ لشؤون الشرق الأوسط في القناة الثانية عشرة الإسرائيلية.