- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4123
المساعي الصينية للتعاون في مجال الأقمار الصناعية في الشرق الأوسط
تسعى "بكين"، عبر الاستثمار في علاقاتها مع العلماء في المنطقة، إلى تعزيز نظامها الخاص "بيدو" ودفع عجلة نموها الاقتصادي، في خطوة قد تحمل دروساً مهمّة لـ"واشنطن".
في أواخر أيلول/سبتمبر، استضافت "الصين" المنتدى الخامس للتعاون بين "الصين" والدول العربية حول نظام "بيدو". هذا المنتدى الذي انطلق في عام 2017 بمشاركة علماء من جامعة الدول العربية والإدارة الوطنية الصينية للفضاء، جاء ليعزز التوافق ويوسع نطاق انتشار نظام الأقمار الصناعية الصيني "بيدو".
يُعد "بيدو" واحداً من عدة أنظمة عالمية للملاحة عبر الأقمار الصناعية (GNSS) العاملة اليوم، إلى جانب نظام تحديد المواقع الأمريكي (GPS)، والنظام الروسي (GLONASS)، والنظام الأوروبي "غاليليو"، فضلاً عن النظامين الإقليميين الياباني (QZSS) والهندي "نافيك" (NavIC). ورغم أن هذه الأنظمة طُوّرت أساساً لأغراض دفاعية، فإنها توفر اليوم مجموعة واسعة من التطبيقات المدنية المهمة، تشمل الزراعة وصيد الأسماك والطيران المدني والإلكترونيات الاستهلاكية وغيرها.
تتطلع العديد من دول الشرق الأوسط إلى تطوير قدراتها على التوافق مع أنظمة الأقمار الصناعية العالمية للاستفادة من تطبيقاتها التجارية والعلمية. وفي هذا الإطار، برزت "الصين" كأكثر الأطراف نشاطاً وحماسة في الترويج لنظامها الخاص "بيدو". غير أن هذا التقارب المتزايد يثير سؤالين جوهريين: ما هي التداعيات العسكرية المحتملة لهذا التعاون؟ وكيف ينبغي لـ"الولايات المتحدة" أن تتعامل مع هذا الواقع الجديد؟
التطلعات الاستراتيجية للصين في قطاع الأقمار الصناعية
بدأت "الصين" العمل على مشروع "بيدو" بعد فترة وجيزة من إطلاق "الولايات المتحدة" لمبادرة الدفاع الاستراتيجي المعروفة بـ"حرب النجوم" عام 1983. ورغم التحديات التكنولوجية والاقتصادية التي واجهتها آنذاك، أصرت "بكين" على جعل المشروع أولوية قصوى بين عامي 1986 و2000. وبالفعل، نجح "بيدو" في اجتياز اختبار الجدوى بحلول عام 1989. غير أن المسؤولين الصينيين ظلوا يشعرون بقلق متزايد من الاعتماد المفرط على نظام "جي بي إس" الأمريكي، الذي كان في ذلك الوقت النظام الوحيد من نوعه في العالم.
تأكدت هذه المخاوف بشكل لافت خلال حادثة سفينة "ينخه" في تموز/يوليو 1993، حين اتهمت "الولايات المتحدة" سفينة حاويات صينية بنقل مواد كيميائية إلى "إيران". آنذاك، لجأت "واشنطن" إلى تشويش إشارات "جي بي إس" الخاصة بالسفينة، ما أجبرها على البقاء عالقة في أعالي البحار ثلاثة أسابيع كاملة، بينما كانت الضغوط تُمارس على "بكين" للعودة أو القبول بالتفتيش. وفي النهاية، استجابت "الصين"، ورست السفينة في "السعودية" حيث أجرى مسؤولون صينيون وسعوديون وأمريكيون عملية تفتيش لم تسفر عن أي دليل على وجود مواد كيميائية. ومع ذلك، ما زالت وسائل الإعلام الصينية حتى اليوم تستحضر هذه الحادثة كأحد أبرز الدوافع لتطوير نظام "بيدو".
أما الحادثة الثانية التي عمّقت هذا القلق فكانت خلال أزمة مضيق "تايوان" بين عامي 1995 و1996، حين زار رئيس الجزيرة آنذاك "لي تنغ هوي" "الولايات المتحدة" وألقى خطاباً أعلن فيه أن بلاده "ذات سيادة مستقلة". ردّت "الصين" بإجراء سلسلة مناورات عسكرية في بحر الصين الشرقي، لكنها فقدت القدرة على تتبع صاروخين أطلقتهما بسبب حرمانها المؤقت من الوصول إلى نظام "جي بي إس". وقد وصف أحد كبار القادة العسكريين تلك اللحظة لاحقاً بأنها "إذلال لا يُنسى"، وكان لها أثر حاسم في دفع "بكين" إلى تسريع بناء نظام ملاحة عالمي خاص بها.
بعد هذه الأحداث، واصل "بيدو" مسيرته عبر مراحل متعاقبة، حيث أنجز مرحلته الأولى من إطلاق الأقمار الصناعية في عام 2003، تلتها المرحلة الثانية في عام 2012، وأخيراً المرحلة الثالثة والنهائية في عام 2020. اليوم، يعمل النظام بكامل طاقته، وحسب الخبراء، فإنه يتفوق تكنولوجياً على أي نظام ملاحة عالمي آخر متوفر حالياً.
الارتباط بين الشرق الأوسط ونظام "بيدو"
كشف منتدى التعاون حول "بيدو" الذي عُقد في أيلول/سبتمبر عن أن منطقة الشرق الأوسط تحتل مكانة محورية في استراتيجية "الصين" لنشر نظام الملاحة الخاص بها، وتأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد جنوب شرق آسيا من حيث الأهمية. فمنذ عام 2017، نظمت "الصين" خمسة مؤتمرات حول "بيدو" مع جامعة الدول العربية، مقارنة باثنين فقط مع مجموعات أفريقية ووسط آسيوية ودولية على التوالي.
يمكن تفسير هذا الاهتمام المكثف بأن العديد من دول الشرق الأوسط، ومن بينها "المملكة العربية السعودية" ودولة الإمارات العربية المتحدةو"البحرين" و"تركيا"، تمتلك طموحات واضحة للمشاركة الفعالة في الأنشطة المتعلقة بالفضاء والأقمار الصناعية، كما أن لديها الموارد المالية الكافية لتحويل هذه الطموحات إلى واقع ملموس. وعلى الرغم من أن هذه الدول قد أنشأت وكالات فضاء وطنية، إلا أنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على قوى أجنبية مثل "الصين" و"الولايات المتحدة" لتزويدها بالمعدات والخدمات الضرورية لتحقيق تطلعاتها. وفي الوقت نفسه، تُبدي "الصين" اهتماماً واضحاً بالتعاون حتى مع الدول الأقل ثراءً في المنطقة، وقد أقامت أول محطة أرضية خارجية لنظام "بيدو" في "تونس" عام 2018.
من جهة أخرى، ربما كشفت حادثة سفينة "ينخه" لـ"الصين" مدى الضعف الذي يمكن أن يتعرض له أسطولها من ناقلات النفط والغاز البحرية نتيجة الاعتماد على أنظمة أجنبية. فبالنسبة لدولة تستورد نحو 74 بالمائة من احتياجاتها النفطية من الخارج، وجزء كبير منها من الشرق الأوسط، يصبح التأكد من تجهيز السفن بأنظمة ملاحة موثوقة عبر الأقمار الصناعية أمراً حيوياً للغاية، خاصة في حالات الأزمات.
إضافة إلى ذلك، فإن أنظمة تحديد المواقع والملاحة والتوقيت (PNT) التي تعتمد على الأقمار الصناعية تتجه بشكل متزايد نحو استخدام أجهزة استقبال "متعددة الكوكبات"، أي أنها مصممة للعمل مع عدة أنظمة في آن واحد لضمان الحصول على أفضل البيانات المتاحة، وخاصة في حال تعطل أحد أنظمة الأقمار الصناعية بشكل مؤقت. هذا الاتجاه لا يقتصر فقط على الطيران التجاري والسفن والمعدات العلمية، بل يشمل أيضاً جميع الأجهزة الاستهلاكية تقريباً في عصرنا الحالي. على سبيل المثال، أحدث إصدارات هواتف "آيفون" المتوفرة في السوق الأمريكية مصممة للعمل مع نظام "بيدو" الصيني إلى جانب نظام "غلوناس" الروسي. من هنا، من الطبيعي أن يسعى العلماء في الشرق الأوسط لضمان توافق أنظمتهم مع "بيدو" بنفس القدر الذي تتوافق به مع "جي بي إس" والأنظمة الأخرى.
المخاطر المحتملة بالنسبة للولايات المتحدة
من النتائج المهمة للاتجاه المتنامي نحو أجهزة الاستقبال "متعددة الكوكبات" أن أي دولة اليوم لم تعد قادرة على ممارسة النفوذ الذي كانت "الولايات المتحدة" تتمتع به ضد "الصين" في التسعينيات. قد تلجأ بعض الدول في حالات استثنائية إلى إزالة وظيفة "جي بي إس" من أنظمتها، كما فعلت "إيران" في أعقاب الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً مع "إسرائيل" في حزيران/يونيو 2025، لكن حتى في مثل هذه الحالات الصعبة، من غير المرجح أن يؤدي هذا التحرك إلى إمالة كفة الميزان بشكل حاسم لصالح "بيدو"، لأن أي دولة تتخذ مثل هذا القرار ستحرص بالتأكيد على الحفاظ على التوافق مع الأنظمة الدولية الأخرى لضمان المرونة والاستمرارية.
بل إن مجلس الأمن القومي الأمريكي نفسه درس إمكانية اعتماد توافق نظام "بيدو" عبر البنية التحتية الحيوية الأمريكية، وذلك بهدف خلق نوع من التكرار والاحتياط، وإضافة حاجز استراتيجي في العلاقة مع "الصين". تستند هذه الحجة إلى فهم بسيط مفاده أن إشارات الأقمار الصناعية للملاحة العالمية هي مجرد بث إذاعي أحادي الاتجاه للوقت وموقع القمر الصناعي، وبالتالي فهي غير قادرة على نقل البيانات مرة أخرى إلى "الصين"، مما يجعل قيمتها الاستخباراتية محدودة للغاية بمفردها.
لكن الوضع سيختلف تماماً إذا كانت الرقائق الإلكترونية المستخدمة في الأجهزة الأرضية المختلفة، سواء كانت هواتف أو أسلحة أو معدات بحث علمي، قادرة أيضاً على إرسال إشارات إلى الأقمار الصناعية، وليس فقط استقبالها. بعبارة أخرى، إذا كانت هذه الأجهزة تعمل كأجهزة إرسال واستقبال في آن واحد، وليس مجرد أجهزة استقبال. والحقيقة أن نظام "بيدو" يتميز بخاصية فريدة عن نظرائه من أنظمة الملاحة العالمية، حيث يمتلك القدرة على استقبال رسائل نصية تصل إلى 1200 حرف، مما يجعل هذا القلق أكثر من مجرد افتراض نظري. فقد تقوم "الصين" ببيع رقائق إلكترونية قادرة على الإرسال والاستقبال إلى دول ثالثة، أو حتى بيع أجهزة مثبت بها هذه الرقائق مسبقاً، وذلك بهدف تعزيز قدراتها على جمع المعلومات الاستخباراتية.
من ناحية أخرى، من المحتمل أيضاً أن تشعر "الولايات المتحدة" بالقلق الشديد حيال البنية التحتية التي قد تسعى "الصين" إلى تطويرها في منطقة الشرق الأوسط لدعم الشبكة الأرضية الخاصة بنظام "بيدو". فكلما زاد عدد المحطات الأرضية واتسع نطاق الخدمات المرتبطة بها مثل عمليات إطلاق الأقمار الصناعية، زادت قدرة "الصين" على الوصول إلى شبكة متنامية من المعلومات الدقيقة والمفصلة. وفي سياق عمليات جمع البيانات، لن تضطر "الصين" بعد الآن إلى انتظار مرور الأقمار الصناعية فوق الأراضي الصينية لتنزيل المعلومات، بل ستتمكن من الوصول إليها من محطات موجودة في الخارج. وعلاوة على ذلك، بمجرد أن تبدأ الدول الأجنبية في إطلاق أقمارها الصناعية عبر المقاولين والبائعين الصينيين لخدمة قطاعات محلية مثل الزراعة والنقل والخدمات اللوجستية، فإنها ستجد نفسها مضطرة للاعتماد على العلماء والفنيين الصينيين لصيانة هذه الأقمار وإدارتها.
الاستنتاجات والتوصيات السياسية
على الرغم من تعدد المنتديات والإنجازات التكنولوجية المبهرة التي حققها نظام "بيدو"، إلا أن "الصين" لا تزال متأخرة عن "الولايات المتحدة" من حيث الانتشار العالمي، إذ يبلغ عدد أجهزة "بيدو" حول العالم نحو 2 مليار جهاز، مقارنة بما يقدر بـ 7 مليارات جهاز نشط من أجهزة "جي بي إس". لكن على عكس "الصين" التي تستضيف منتديات متخصصة مع جامعة الدول العربية وكيانات إقليمية أخرى لدفع عجلة انتشار نظامها، لا تنظم "الولايات المتحدة" منتديات إقليمية مماثلة. بدلاً من ذلك، تكتفي بالتعامل مع المجتمعات الدولية من العلماء من خلال قنوات عالمية مثل اللجنة الدولية للأمم المتحدة المعنية بنظم الملاحة العالمية عبر السواتل (ICG) ولجنة واجهة الخدمة المدنية لنظام "جي بي إس" (CGSIC)، التي من المقرر أن تعقد مؤتمرها الخامس والستين في العام المقبل.
المشكلة أن هذه المبادرات، رغم أنها تهدف إلى ضمان التوافق مع نظام "جي بي إس"، تبدو أقل حماساً وتركيزاً على دفع عجلة التبني مقارنة بمنتديات "بيدو" الصينية. ربما يعود هذا إلى المكانة الراسخة التي تتمتع بها "الولايات المتحدة"، حيث أن أنظمة تحديد المواقع والملاحة والتوقيت في معظم دول العالم كانت مجهزة منذ وقت طويل لاستخدام "جي بي إس". لذلك، فإن التركيز الأمريكي الرئيسي يجب أن ينصب ببساطة على تحسين وتطوير "جي بي إس" لتلبية احتياجاتها التكنولوجية الخاصة واحتياجات شركائها. مع ذلك، بإمكان "واشنطن" أن تتجاوز الإطار التقليدي لمنتديات ICG وCGSIC وتعمل على توسيع نطاق التعاون والمنح الدراسية، ولو فقط من أجل بناء شبكات أعمق وأكثر تماسكاً، وتوليد معرفة محلية متبادلة بين العلماء الأمريكيين ونظرائهم في الشرق الأوسط.
من ناحية أخرى، ليست هناك ضرورة ملحة لـ"الولايات المتحدة" للدخول في منافسة مباشرة مع "الصين" على إنشاء محطات أرضية في جيل "جي بي إس" الحالي، إذ من المحتمل أن تكون قادرة تماماً على تصميم الجيل القادم بالاستفادة من البنية التحتية الأرضية الموجودة بالفعل. لكن إذا كانت "واشنطن" ترغب فعلاً في منافسة "الصين" في مجال إطلاق الأقمار الصناعية لصالح شركائها في الشرق الأوسط، فعليها أن تتحلى بالإبداع والمرونة في التعاون بين وكالة "ناسا" والقطاع الخاص. في الوقت الحالي، تركز تعاونات "ناسا" بشكل رئيسي على الجانب العلمي، بينما تستهدف شركة "ستارلينك" في الغالب الاقتصادات المتقدمة فقط. أما "الصين" فتقدم المجموعة الكاملة من خبراتها التكنولوجية المتطورة في مجال الأقمار الصناعية إلى دول الشرق الأوسط، وذلك جزئياً من أجل تعزيز نظامها الخاص ودفع النمو الاقتصادي. لذا ينبغي على "الولايات المتحدة" أن تفكر جدياً في توسيع آفاقها واعتماد استراتيجية مماثلة.
في نهاية المطاف، لم يعد سباق الفضاء كما كان في القرن العشرين، بل أصبح أوسع نطاقاً وأعمق تعقيداً. فقد ازداد عدد الدول التي تحمل طموحات فضائية كبيرة، كما تزايد عدد الموردين المستعدين لمشاركة تقنياتهم وخبراتهم لتعزيز التعاون والنمو المشترك. تدرك "الصين" جيداً أن تعميق العلاقات وبناء الشراكات يشكل وقوداً أساسياً لصعود صناعة الأقمار الصناعية لديها، وعلى "الولايات المتحدة" أن تستوعب هذا الدرس أيضاً. ومنطقة الشرق الأوسط تمثل المفتاح الحاسم لنجاح كلا الطرفين في هذا المضمار.