- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
ورثة "الربيع العربي" الرقميّون في المغرب
في حين انبثقت حركة "جيل زد 212" من رحم الاحتجاجات التي اندلعت بسبب وفيات الأمهات وإهمال الحكومة، فإنها سرعان ما تطورت لتصبح شبكة رقمية لامركزية وسريعة التعبئة، تواصل تسليط الضوء على مكامن الخلل في منظومة الحوكمة في المغرب.
تجنب المغرب - الذي طالما اعتُبر "استثناء" للربيع العربي - موجة الثورات التي اجتاحت المنطقة عام 2011، من خلال الإصلاح الدستوري والانفتاح المنضبط وترسيخ شرعية النظام الملكي. ومع ذلك، لم تختفِ يوماً دوافع الاضطرابات المتمثلة في البطالة، وعدم المساواة، وتدهور الخدمات العامة. ومنذ أيلول/ سبتمبر، سلطت حركة "جيل زد 212"، التي تستمد اسمها من رمز الاتصال الدولي للمغرب، الضوء على هذه المظالم عبر نشاطها الرقمي. ورغم أن المظاهرات الكبرى التي تنظمها الحركة في الشوارع تخضع حالياً لقيود أمنية مشددة، فإن طابعها اللامركزي يتيح لها مواصلة نشاطها عبر الإنترنت وإعادة التعبئة بسرعة كلما دعت الحاجة.
والأهم من ذلك أن حركة "جيل زد 212" ليست حركة ثورية، ولا يسعى أعضاؤها إلى تحدي النظام الملكي، إذ يتجه غضبهم نحو الحكومات المتعاقبة التي يرونها فاسدة وعاجزة عن معالجة قضايا البطالة والتعليم والرعاية الصحية. ويضمن الانتشار الرقمي الواسع للحركة أن أي فترة هدوء ستكون مؤقتة ما دامت تلك المظالم بلا حلول.
الاغتراب الحديث
تطالب حركة "جيل زد" في المغرب بتوفير خدمات عامة أكثر جودة، وفرص عمل تقوم على العدالة وتكافؤ الفرص، ورعاية صحية ميسورة التكلفة، إضافةً إلى إنهاء الفساد والمحسوبية السياسية - وباختصار، تسعى إلى حوكمة أكثر كفاءة وشفافية ونزاهة. وقد اندلعت الشرارة في أواخر أيلول/ سبتمبر، عندما أثارت سلسلة وفيات للأمهات خلال فترة وجيزة في أحد المستشفيات العامة في مدينة أغادير، على بُعد نحو 296 ميلاً جنوب الرباط، موجة غضب واحتجاج ضد ما يعتبره كثير من المغاربة إهمالاً مزمناً في قطاع الرعاية الصحية. وجاء ذلك في وقت كان فيه المواطنون يتساءلون بالفعل عن الإنفاق الكبير على كأس العالم، وبطء وتيرة إعادة الإعمار عقب الزلزال، مما حول السخط المتراكم إلى احتجاجات متزامنة في أكثر من عشر مدن مغربية.
انتشرت الاحتجاجات بسرعة في مدن المغرب - من الدار البيضاء والرباط إلى المدن الحدودية النائية - وتم تنسيقها عبر تطبيق "ديكسورد" التابع لـ"جيل زد 212"، وهو تطبيق تواصل اجتماعي مخصص للمجتمعات الرقمية والمراسلة الجماعية. وقد تصاعدت التوترات في 30 أيلول/سبتمبر عندما دخل المتظاهرون مناطق غير مصرح بدخولها، مما أدى إلى اشتباكات مع قوات الأمن. وعلى مدى ليلتين، صدمت سيارات الشرطة المتظاهرين، وتضررت المباني، ولقي ثلاثة أشخاص مصرعهم قبل أن يتمكن المنظمون من استعادة السيطرة، وإدانة أعمال التخريب، والدعوة إلى ضبط النفس.
ومنذ اشتباكات أواخر أيلول/سبتمبر، تراجع حجم المشاركة في الشوارع، لكن المظاهرات الصغيرة ما زالت مستمرة وسط رقابة أمنية مشددة. ومع ذلك، توسعت شبكة "جيل زد 212" على الإنترنت، وبحلول أواخر تشرين الأول/أكتوبر، تجاوز عدد أعضاء تطبيق "ديكسورد" أكثر من 280 ألف عضو، وتحول إلى منظومة رقمية متكاملة تضم قنوات للتواصل الإعلامي، والترجمة، والتنسيق بين المدن، وتنظيم الاحتجاجات. وفى هذا الفضاء، يتقدم المستخدمون بطلبات لتولي أدوار تطوعية تشمل إدارة الاتصالات، وتصميم المواد المرئية، وتنظيم حملات الرسائل. كما يصوت الأعضاء على مواعيد الاحتجاجات، ويناقشون الإصلاحات، ويوزعون تسجيلات صوتية تضم شهادات عائلات المعتقلين أو الضحايا. وبعيدا عن التراجع، أضفت حركة "جيل زد 212" الطابع الاحترافي على معارضتها، وقد تكون الشوارع أكثر هدوءا، لكن الخوادم الرقمية أصبحت أكثر صخباً.
ترى حركة "جيل زد 212" أن دستور عام 2011 أعاد تصنيف المغرب كدولة إصلاحية، لكن العديد من الهياكل الأساسية للحكم بقيت دون تغيير. فقد أبدت المؤسسة الملكية تجاوباً مع المطالب الشعبية، لكن السلطة النهائية ظلت في معظمها مركزة داخل المؤسسات الملكية. وعلى الرغم من الإيماءات الشكلية نحو الشمولية، مثل الاعتراف بلغات وأديان رسمية جديدة، وتعزيز المساءلة، والعدالة الاجتماعية، لا يزال الوصول إلى الخدمات الأساسية محدودا.
ويستشهد المتظاهرون اليوم بالمبادئ نفسها التي أقرها القصر نفسه، من الضمانات الدستورية للمساواة والمساءلة إلى الدعوات المتكررة للملك بشأن إقامة "عقد اجتماعي جديد" و"مواطنة كريمة". كما يرددون شعار (كرامة، حرية، عدالة اجتماعية)، وهو من أبرز شعارات الربيع العربي، للمطالبة بتجسيد تلك المُثل الدستورية على أرض الواقع.
ولطالما احتج المعلمون والأطباء و"الخريجون العاطلون عن العمل" حول الإخفاقات نفسها، غير أن حركة "جيل زد 212" أعادت صياغتها بوصفها وعوداً دستورية لم يتحقق منها شيء. أما شعاراتهم - مثل "الملاعب موجودة، لكن أين المستشفيات؟ " و"الحكومة فاسدة" - فهي توجه رسائل الدولة إلى النظام نفسه.
أصبح التناقض بين الصورة الدولية للمغرب وواقعه الداخلي أكثر وضوحاً. ففي الخارج، يُحتفى بالمغرب بوصفه نموذجاً للاستقرار عقب حقبة ما بعد الاستعمار، وجسراً بين إفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط، ومنصة لعرض مشروعات الطاقة المتجددة والاستثمار في البنية التحتية. وقد تعززت هذه الصورة عقب الإنجاز التاريخي للمنتخب المغربي بحصوله على المركز الرابع في كأس العالم لعام 2022، كأول فريق أفريقي وعربي يصل إلى نصف النهائي، إضافةً إلى دوره المرتقب باعتباره إحدى الدول المستضيفة لكأس العالم 2030.
ومع ذلك، تخفي هذه النجاحات الخارجية شعوراً متزايداً بالإحباط في الداخل، إذ يرى كثير من المغاربة أن مظاهر التقدم لا تزال سطحية ولا تعكس تحولاً حقيقياً في جوهر الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
عقدٌ من إدارة الاضطرابات
منذ أكثر من عقد من الزمن، خرج المغاربة إلى الشوارع حاملين المطالب ذاتها: فرص العمل، والتعليم، والرعاية الصحية، والقضاء على الفساد. وكانت استجابات الدولة تتبع نمطاً متكرراً ومتوقعا بما في ذلك تقديم تنازلات جزئية ومتأخرة يعقبها تجديد السيطرة. ففي عام 2011، دعت حركة 20فبراير إلى تقليص سلطات الملك وتنفيذ إصلاحٍ دستوري؛ وقد حصلت على بعض التنازلات، لكن التنفيذ ظل متعثراً. وفي عام 2014، قادت النقابات العمالية سلسلة إضرابات احتجاجاً على تأخير الأجور وإصلاحات نظام التقاعد، ونجحت في انتزاع زيادات محدودة في الأجور وفتح باب المفاوضات – ولكن فقط بعد أن امتدت الإضرابات إلى قطاعات حيوية مثل النقل. أما حراك الريف عام 2017، الذي قادته منطقة الريف المهمّشة تاريخياً في شمال البلاد، فقد رفع شعارات الكرامة وتوفير فرص العمل والخدمات الأساسية، لكنه قوبل بقمعٍ شديد، شمل فرض حظر التجول، واعتقالات جماعية، وخطابات رسمية وصفت المحتجين بأنهم مثيرو فتنة وانقسام.
تندرج حركة "جيل زد 212" ضمن هذا النمط التقليدي من الاحتجاج، لكن بشكلٍ جديد ومختلف. فقد تم اعتقال نحو ألفي شخص، بينهم قاصرون، وأُحيل أكثر من نصفهم إلى المحاكمة، وحُكم على العديد منهم بالسجن لمدد تصل إلى عشرين عاماً. ولا تزال الاستراتيجية الحكومية مألوفة تتمثل في احتواء المعارضة من خلال الاستنزاف القانوني بدلاً من اللجوء إلى القوة المفرطة. لكن حركة "جيل زد 212" تختلف عن الحركات السابقة. فبينما كانت الاحتجاجات الماضية ترتبط بقادة أو منظمات يمكن للدولة التفاوض معهم (أو قمعهم)، فإن هذه الحركة أفقية، رقمية، ووطنية الطابع. وهي تعمل عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من القيادات التقليدية، مما يترك السلطات من دون نقطة محورية واضحة للتعاون أو القمع. وقد نجحت إجراءات الشرطة المحسوبة، والانتشار المرئي للقوات، والاعتقالات الانتقائية، والدعوات إلى التهدئة في احتواء الاضطرابات في الشوارع، لكن ليس في الفضاء الرقمي. فلا يزال تطبيق "ديكسورد" الخاص بـ"جيل زد 212" نشطاً وقابلاً للتكيف، في تذكير بأن المغرب قد تمكن من السيطرة على مظاهر الاحتجاج، لكنه لم يتمكن بعد من احتواء الشبكة التي تغذيه.
ما يميز حركة "جيل زد 212" ليس شكلها فحسب، بل عقلية الجيل الذي يقف وراءها أيضاً. فقد نشأ الشباب المغربيون الذين يقودون "جيل زد 212" بين الرسوم المتحركة وصور الأقمار الصناعية للثورات، وكان الربيع العربي هو الخلفية الدائمة لحياتهم. وبعد أن شهدوا الوعود والانهيارات التي رافقت الانتفاضات الإقليمية، لم تعد لديهم رغبة في الثورة، لكنهم يُصرون بوضوح على تحقيق المطالب. يستخدمون لغة دستور عام 2011 والخطب الملكية لكشف الفجوة بين خطاب الإصلاح الرسمي والواقع اليومي. وعلى عكس الأجيال الأكبر سناً التي شكّلها الخوف من عدم الاستقرار، فإن هذا الجيل يرى في الشفافية والإنصاف والمساءلة مقوّمات أساسية للحكم الرشيد.
إن هذا التحول ليس سياسياً فحسب، بل هيكلي أيضاً، ففي بلد يقوم على التسلسل الهرمي، يمثل التنظيم الأفقي لحركة "جيل زد 212" تغييراً ثقافياً عميقاً. فلم تعد السلطة تُورث أو تُفرض، بل تُكتسب من خلال المشاركة. وهذا ما يجعل موجة الاحتجاجات الحالية أكثر صعوبة في احتوائها، وأكثر أهمية من أي حركة احتجاجية شهدها المغرب منذ عام 2011. فبينما تسعى الدولة إلى إدارة الاضطرابات، يتكيف المواطنون معها.
الصدى الإقليمي والاستجابة الخارجية
يقع المغرب عند تقاطع الشرق الأوسط وأفريقيا، وتعكس الاحتجاجات الأخيرة هذا الموقع الجغرافي والسياسي الفريد. فبينما كانت تحركات عام 2011 تعيد إلى الأذهان مسار تونس آنذاك، فإن احتجاجات عام 2025 تشبه إلى حد كبير الحركات الرقمية التي قادها الشباب في كينيا ومدغشقر، حيث أدى التنسيق عبر الإنترنت إلى تغييرات في السياسات العامة، بل إلى تحولات سياسية في حالة مدغشقر. ورغم أن الملكية المغربية أكثر مرونة بكثير من الأنظمة الأخرى، فإن النمط آخذ في الانتشار حيث باتت شبكات التواصل الاجتماعي تحول السخط الشعبي إلى تنظيمٍ أسرع مما تستطيع المعارضة التقليدية مجاراته. ولا يكمن الخطر الحقيقي في انهيار النظام، بل في اتساع نطاق التوقعات. فعندما يرى الشباب في مختلف أنحاء القارة أن الحركات الرقمية تحقق مكاسب ملموسة، يتوقعون أن يتمكنوا من تحقيق نتائج مماثلة في بلدانهم. وهذا الضغط يرفع التكلفة السياسية للركود، ويضيق هامش الزمن أمام الاستجابة الحكومية - حتى في الدول التي بُنيت على مبدأ التدرج. أما بالنسبة لحكومات شمال أفريقيا، التي تواجه التركيبة السكانية نفسها من الشباب ونقص الخدمات العامة، فإن تجربة المغرب تمثل تحذيراً واضحاً: ففي العصر الرقمي، أصبحت الأدوات التي حافظت سابقاً على الاستقرار -من الإصلاح التدريجي والرقابة المحكمة وإدارة المعارضة بحذر - تسهم الآن في تسريع وتيرة السخط وتضخيم نفاد الصبر الشعبي.
التطلع إلى المستقبل
مع دخول المظاهرات شهرها الثاني، يواجه رئيس الوزراء العزيز أخنوش تآكل ثقة الجمهور إذ تكتسب مقاطعة شركاته زخماً متنامياً، مما يعكس الإحباط من النخبة السياسية المنعزلة. غير أن هذه اللحظة تتجاوز شخصاً أو أزمة بعينها؛ فهي اختبار جيلي لنموذج المغرب التنموي والسياسي، وستُظهر ما إذا كان نهج الإصلاح التدريجي لا يزال قادراً على تلبية التطلعات المتزايدة في العصر الرقمي. من شبه المؤكد أن المغرب سيظل مستقراً؛ فالنظام الملكي راسخ مؤسسياً بدرجة لا تسمح بانهياره. لكن التحدي الذي يواجهه لا يتمثل في البقاء، بل في التكيف؛ إذ تعكس دعوة الملك محمد السادس الأخيرة إلى تسريع الإصلاحات في مجالات التوظيف والرعاية الصحية والتعليم إدراكاً بأن نهج التدرج بلغ حدوده. على نطاق أوسع، يمكن أن تلهم حركة "جيل زد 212" شباباً آخرين في جميع أنحاء المنطقة، حتى في إيران. إذ قد يؤثر مثالها في الطريقة التي تعيد بها حكومات شمال أفريقيا صياغة عقودها الاجتماعية – وما إذا كان يمكنها الحفاظ على الثقة عبر إصلاحاتٍ مضبوطة الإيقاع، أو أن الجيل الجديد سيطالب بإصلاحاتٍ أسرع، أكثر إنصافاً، وأقل خضوعاً للرقابة. وفي بلد لطالما قُدم بوصفه دليلاً على أن التدرج يضمن الاستقرار، تكشف حركة "جيل زد 212" عن حدود هذا النموذج: فالشرعية اليوم لم تعد تُبنى على الوعد بالتغيير، بل على سرعة تحقيقه.