
- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تعيين كامل إدريس ووهم الحكم المدني في السودان

تم تعيين رئيس الوزراء السوداني الجديد مؤخراً لتقديم وجه مدني مقبولٍ للمجتمع الدولي؛ غير أن قدرته على تنفيذ الإصلاحات التي تعهد بها في خطابه الأخير ستتوقف على حجم الضغوط الدولية، ومدى قدرته على التعامل مع ديناميات السلطة الداخلية في السودان.
سوف أقف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية، ولكنني سأُلغي هذه المسافة مع الشعب السوداني"، "معاً نستطيع الوصول إلى مشروع وطني"، "لا أريد أن أكون حاكماً للشعب، بل خادماً له ".
كانت هذه بعض العبارات التي وردت في خطاب "كامل إدريس" الأول عقب تعيينه رئيساً للوزراء في السودان، محاولاً رسم صورة قريبة من الشارع السوداني. حمل الخطاب وعوداً طموحة حول التنمية المستدامة ومحاربة الفقر والفساد وتحقيق الأمن القومي وخدمة المواطن السوداني. ورغم نبرة التفاؤل التي غلبت على الخطاب، إلا أن الواقع مشهدًا سياسيًا حرجًا ومعقدًا، تتحكم فيه فوهات البنادق أكثر مما تضبطه قواعد السياسة المدنية، ويُدار بمنطق القوة العسكرية لا بمنطق الدولة.
ففي بلد غارق في حرب أهلية وانقسام مجتمعي عميق ظهر جاء تعيين "كامل إدريس" لمنصب رئيس الوزراء-الشاغر منذ استقالة منذ استقالة سلفه في عام 2022 كمحاولة محسوبة لإضفاء طابع مدني على الواجهة الخشنة للسلطة العسكرية ، من دون أن يكون واضحًا بعد ما إذا كانت هذه الخطوة تشكّل نافذة، ولو ضئيلة، لإدريس لتنفيذ تغيير حقيقي في السودان، والوفاء ببعض الوعود التي تضمّنها خطابه.
الإرث الانقلابي: تكرار السيناريو
مهما بدت النبرة الوردية للرسائل العامة، تظل الشكوك قائمة حيال هذا التطور الجديد، نظراً لتجربة السودان الحديثة مع فترة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك. فبينما وصل حمدوك إلى السلطة في أعقاب موجة مظاهرات شعبية ضخمة أطاحت بالديكتاتور السابق عمر البشير في 2019، أقدم الجيش السوداني بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان ، في عام 2021 على انقلاب، أثبت أن المؤسسة العسكرية السودانية لا تتخلى بسهولة عن امتيازات السلطة لصالح أي مكوّن مدني، حتى وإن كان يحظى بدعم شعبي قوي ومساندة دولية واسعة. ومن دون تحول جذري وحقيقي في موازين القوة المؤسسية والسياسية، سيظل أي رئيس وزراء مدني - مهما كانت مؤهلاته وشعبيته - عرضة للإقصاء والتهمايش في لحظة حاسمة تحددها المؤسسة العسكرية وحدها.
تمتد هذه الديناميكية منذ تاريخ استقلال السودان في 1956؛ فمنذ ذلك الحين، لم يكن الحكم المدني الديمقراطي لا القاعدة أو الأصل، بل ظهر بشكل متقطع كاستثناء عابر في ظل سيطرة مُحكمة ومُستمرة للمؤسسة العسكرية على جميع أجهزة الدولة ومراكز صنع القرار. خلال العقود الماضية، شهدت البلاد سلسلة من الانقلابات العسكرية المتتالية التي شكلت معالم تاريخها السياسي المضطرب: بداية من انقلاب الجنرال إبراهيم عبود في 1958 الذي أطاح بأول تجربة ديمقراطية، مروراً بانقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، عندما أطاح البرهان بشريكه المدني عبد الله حمدوك. يشكل هذا الإرث الانقلابي عقبة هيكلية أمام أي مشروع ديمقراطي مستقر، ويؤكد أن تعيين الدكتور كامل إدريس قد لا يكون بالضرورة تطوراً جديداً أو علامة على مرحلة جديدة في التاريخ السياسي السوداني؛ بل يخشى كثيرون أنه مجرد جزء من الآلية التقليدية لوضع واجهة مدنية دون مساس حقيقي بجوهر السلطة.
الضغوط الدولية: الدافع الحقيقي للتعيين
ترك انقلاب البرهان الأخير السودان يتخبط في فراغ دستوري وتنفيذي لأكثر من ثلاث سنوات، تمكن خلالها الجيش من إحكام قبضته على جميع مقاليد السلطة السياسية والعسكرية، ومن ثم تفاقمت نيران الحرب الأهلية وانهارت بنية مؤسسات الدولة انهياراً شبه كامل. في ظل هذه الظروف المعقدة، جاءت خطوة تعيين "إدريس" في نيسان/أبريل 2025 م كمحاولة لحلحلة المشهد السياسي المتجمد دولياً أكثر بكثير مما هي استجابة حقيقية لضغط شعبي داخلي متصاعد أو مطالب جماهيرية ملحة.
فدوافع المؤسسة العسكرية لم تكن نابعة من قناعة بتقاسم السلطة مع مدنيين، بل هي مدفوعة بضرورات منها: تجنب العقوبات المتصاعدة، تقديم خطاب مدني للمجتمع الدولي بعد الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش في الخرطوم، وكسب وقت إضافي لترتيب بيت السلطة دون تقديم تنازلات جوهرية.
فخلال هذه الحرب، شكلت العقوبات الدولية حاجزاً كبيراً أمام مؤسسة الجيش بشكل متزايد، خاصة مع فرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات مباشرة على البرهان في كانون الثاني/يناير 2025، شملت تجميد أصوله المالية ومنع المؤسسات الأمريكية من التعامل معه. في أيار/مايو 2025، أعلنت واشنطن أيضاً فرض عقوبات اقتصادية على الحكومة السودانية بقيادة البرهان، رئيس مجلس السيادة، بعد اتهامها باستخدام أسلحة كيميائية خلال العمليات العسكرية في 2024.
لماذا "كامل إدريس"؟
ومع هذا الضغط الدولي، والعزلة السياسية التي تتفاقم يوماً بعد يوم، وجدت المؤسسة العسكرية السودانية نفسها مضطرة لاختيار شخصية تُقدّم للعالم على أنها واجهة مدنية، دون أن تشكل تهديداً حقيقياً على هيمنتها على السلطة. وفي هذا السياق، فاختيار كامل إدريس خطوة محسوبة فهو يملك رصيداً دولياً، بصفته المدير العام السابق للمنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، وله علاقات في أروقة الأمم المتحدة والدبلوماسية الدولية. وتمنعه هذه الخلفية قدرة فريدة على مخاطبة المجتمع الدولي باستخدام لغة مألوفة ومريحة: الشفافية، جهود مكافحة الفساد، حقوق الإنسان، والحكم الرشيد. هذه هي اللغة المستخدمة في خطابه وما تبحث عنه العواصم الغربية والمؤسسات المانحة، والتي يسعد الجهاز العسكري بنشرها لتغطية واقع مختلف تماماً.
والأهم من ذلك، أن إدريس "نظيف مؤسسياً"؛ فهو لا ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين السودان (الكيزان)، ولا يرتبط مباشرة بمؤسسات الأمن أو الجيش، مما يجعله مقبولاً خارجياً ولا يثير الحساسية المتزايدة تجاه رموز النظام السابق أو الأفراد العسكريين. وبذلك، فهو خيار ممتاز لأداء وظيفة محددة: طمأنة الخارج دون تهديد الداخل.
حكم "كامل إدريس": بين ورقة تجميلية وفرصة تحول
من خلال قراءة في تاريخ المؤسسة العسكرية في السودان التي تعودت على الانقلاب والإطاحة بأي محاولة مدنية طوال السبعين عاماً بعد الاستقلال، نحن أمام سيناريوهين لا ثالث لهما:
السيناريو الأول: إدريس واجهة لحكم عسكري: هذا السيناريو المرجح والمألوف، يُستخدم "كامل إدريس" كـ"غلاف مدني" لسلطة عسكرية مركزية يقودها "البرهان" وحلقته. ستكون مهامه محدودة النطاق ومقيدة بخطوط حمراء واضحة، تقتصر على إصدار بيانات رسمية مدروسة وتمثيل دبلوماسي في المؤتمرات الدولية وتوجيه الرسائل المطمئنة إلى المجتمع الدولي. لكنه لن يمتلك صلاحيات فعلية حقيقية في صنع القرار، ولا قدرة على تشكيل حكومة مستقلة ذات سيادة، وسيظل يتحرك داخل هامش ضيق ومحسوب بعناية تفرضه المؤسسة العسكرية وتحدد معالمه. نتيجة هذا السيناريو: حكومة ذات واجهة مدنية من دون مضمون سياسي حقيقي، وهو السيناريو الأقرب في حال استمرار الحرب واستبعاد أي توافق داخلي أو ضغط خارجي قوي.
أما السيناريو الثاني، وهو نجاح تجربة "إدريس"، فعلى الرغم من كونه احتمالاً متفائلاً وصعب التحقق، فإن هشاشة السودان، بالنظر إلى الفترات الماضية المليئة بالتقلبات السياسية، قد تتيح مساحة لـ"إدريس" للتحرك بخطوات محسوبة وتدريجية نحو الانفكاك من عباءة المؤسسة العسكرية، وتنفيذ تحول فعلي عبر مشروع مدني متماسك، وربما إتاحة المجال في نهاية المطاف لعملية ديمقراطية. من الناحية النظرية، نفس الضغوط الدولية التي دفعت البرهان لتعيين إدريس في المقام الأول يمكن أن توفر أيضاً نافذة للضغط من أجل التحسينات الفعلية التي تسعى إليها هذه الأصوات الدولية. ومع ذلك، فإن هذا التحول يتطلب مجموعة من الشروط المعقدة والظروف التي نادراً ما تتوفر في السياق السوداني:
- وجود دعم إقليمي ودولي حقيقي يمنحه غطاء سياسياً ومساحة للمناورة
- · امتلاكه القدرة على مواجهة القوى الرافضة لأي انتقال ديمقراطي
- قدرة رئيس الوزراء المدني على إعادة بناء الثقة مع القوى المدنية والمجتمعية المختلفة في الشارع السياسي السوداني والتي تأثرت بالتجربة الديمقراطية قصيرة المدى 2019-2021
تحديات الواقع: الحرب كعائق أساسي
في ضوء تصعيد الحرب وقبضة الجيش على صنع القرار السياسي والمالي في السودان، لا يمكن فصل تعيين رئيس وزراء عن السياق السوداني الأوسع الذي تهيمن عليه أولويات الحرب على كل شيء آخر، حيث تُستهلك موارد الدولة لخدمة المجهود الحربي. وبينما يُقدم كامل إدريس كوجه مدني للسلطة العسكرية في الخرطوم، تتسارع الجهود المتوازية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع لتشكيل حكومة مناوئة تخدم كذلك كغطاء سياسي لتوسع قوات الدعم السريع ومشروعها العسكري بدعم مباشر من قوات الدعم السريع وحلفائها الإقليميين. إذا استمرت هذه الجهود المتوازية دون تدخل حاسم أو إطلاق عملية تفاوض شاملة، فإن احتمالات الانفصال والتجزئة الجغرافية والسياسية ستكون أقرب إلى تهديد ملموس لوجود الدولة السودانية ووحدة أراضيها الوطنية.
علاوة على ذلك، لا يمتلك إدريس قاعدة حزبية منظمة أو قاعدة شعبية مؤثرة داخل السودان، مما يعني أنه يفتقر لآلة سياسية قادرة على الحشد والتأثير. هذا عامل مهم يجعل الدعم الداخلي لإدريس مرتبطاً ارتباطاً مباشراً بالمؤسسة العسكرية، فمن يدعم الجيش سيدعم بالمقابل إدريس. ما لم يتم معالجة هاتين القضيتين، فإن السيناريو الثاني لتحقيق تغيير ملموس سيظل بعيد المنال.
في غضون ذلك، يجب على المجتمع الدولي-بقيادة الولايات المتحدة- ألا يكتفي بالواجهات ويجب أن يركز توقعاته على التغييرات الملموسة في السودان في الوقت الحالي: تسهيل إيصال المساعدات، حماية المدنيين، وبدء عملية تفاوض شاملة يقودها رئيس الوزراء المدني. بدون هذه الخطوات، سيبقى تعيين إدريس مجرد أداة تجميلية تفتقر للشرعية والمصداقية. مع الضغط الخارجي، قد يتمكن إدريس من امتلاك فرصة نادرة تُمنح فقط في اللحظات المحورية إذا كان يملك المهارات القيادية لاغتنامها.