- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تحرير احتياطيات النفط الليبية المُجمدة
من شأن استئناف برنامج "النفط مقابل الوقود" أن يحول دون وقوع أزمة في المدى القريب، وقد يوفر منصة لإصلاحات أكثر طموحا، غير أن نجاحه يبقى مرهوناً بتعزيز الشفافية، وتوسيع الرقابة الدولية، وإجراء إصلاحات جوهرية على نظام الدعم القائم.
تقف ليبيا عند مفترق طرق؛ فهي تمتلك أكبر احتياطيات نفطية في أفريقيا – يُعد بعضها من أنقى أنواع الخام في العالم – لكن المفارقة أن محطات الوقود في البلاد تكاد تكون خالية. ومع تقنين توزيع الوقود بشكل يطال سبعة ملايين نسمة، تتلاشى النوايا الحسنة بسرعة كما يتبخر الماء فوق التربة المحروقة بالشمس. هذا التناقض ليس جديداً، لكنه ازداد حدة. فقد أدى الانقسام السياسي، وتجميد الموارد المالية، وتعطل نظام الاستيراد إلى خنق قطاع النفط. وباتت ليبيا بحاجة إلى إيجاد آلية مؤقتة لاستيراد المشتقات النفطية المكررة، بالتوازي مع تشجيع الاستثمار بما يضمن نموها واستقرارها على المدى الطويل.
يحتفظ البلد بفائض تجاري كبير بفضل احتياطاته النفطية الهائلة، التي يصدرها في شكل خام ومكثفات. لكنه يفتقر إلى القدرة على تكرير نفطه، مما يجعله يستورد معظم الوقود اللازم محلياً للنقل وإنتاج الطاقة والخدمات العامة الأساسية. هذه التبعية تمثل أحد مظاهر عجز ليبيا عن تطوير مؤسسات فعالة بعد اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011. فمنذ هدنة 2020، تعمل البلاد فعلياً بحكومتين: "حكومة الوحدة الوطنية" في طرابلس، و"حكومة الاستقرار الوطني"، التي تسيطر على الجيش الوطني الليبي، في بنغازي. أما على صعيد الدعم الدولي، فهو منقسم بدوره؛ إذ تؤيد الأمم المتحدة وتركيا وإيطاليا "حكومة الوحدة الوطنية"، في حين تدعم الإمارات العربية المتحدة ومصر "حكومة الاستقرار الوطني".
وبالمثل، فإن البنك المركزي منقسم، حيث يوجد فرع قانوني في طرابلس وفرع فعلي في بنغازي. وقد مكن ذلك الجماعات المسلحة من تحدي حكومة الوحدة الوطنية، كما أتاح لـ"حكومة الاستقرار الوطني" التشكيك في قرارات قيادة "حكومة الوحدة الوطنية" وتقويضها. ومؤخراً أدى قرار طرد محافظ البنك المركزي إلى اندلاع احتجاجات عنيفة، وتوقف إنتاج النفط، وارتفاع دعوات تنادى باستقالة رئيس الوزراء. وقد أصيب البنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط بالشلل جراء هذه التطورات، مما أدى إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الهش في ليبيا. أما بالنسبة للقطاع العام الذي يشغل نحو 85% من القوة العاملة في ليبيا، فقد كانت التداعيات بالغة.
ابتداءً من عام 2021، اعتمدت ليبيا نظام مقايضة يقوم على تبادل النفط الخام مقابل الوقود، لكن مكتب التدقيق أمر بإنهاء البرنامج في عام 2023، مشيراً إلى جملة من المشكلات المرتبطة بالشفافية. وتم إيقافه رسمياً في آذار/مارس2025. وقد شددت المؤسسة الوطنية للنفط على أنها لجأت إلى هذا النظام لغياب بنك مركزي فعّال يمكّنها من الوصول إلى الأموال اللازمة لدفع ثمن واردات الوقود، التي بلغت قيمتها 9 مليارات دولار في عام 2024 وفقاً لتقديرات مكتب التدقيق. ومنذ وقف نظام المقايضة، تراكمت على المؤسسة الوطنية للنفط ديون استيراد غير مسددة تجاوزت مليار دولار. وبات المأزق المستمر بشأن آلية تسديد ثمن الوقود المستورد يهدد بتعطيل تطوير البنية التحتية الحيوية، وتجميد الائتمان، وشل الخدمات العامة، وفي نهاية المطاف إعادة إشعال خطر تجدّد الصراع.
تحتاج صناعة النفط الليبية إلى معالجة عدة قضايا رئيسية. أولها أوجه القصور المزمنة في قطاع التكرير المحلي الناشئ؛ فقد أعلن وزير النفط الليبي في كانون الثاني/يناير 2025، عن خطط لزيادة طاقته الإنتاجية من 300 ألف برميل يومياً إلى 400 ألف برميل. غير أن تحقيق هذا الهدف سيستغرق عدة سنوات، ويتطلب استثمارات أجنبية ضخمة تعتمد بدورها على الاستقرار السياسي والاقتصادي في ليبيا. ومن القضايا المهمة الأخرى نظام الدعم السخي على الوقود والكهرباء المنتجة من النفط. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، بلغت هذه الإعانات مجتمعة 35% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024.
وقد أدى ذلك إلى انخفاض كبير في أسعار الوقود إلى ما دون خمسة سنتات أمريكية للتر الواحد، لكنه في الوقت نفسه شجع على تهريب الوقود من ليبيا إلى الدول المجاورة. ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 2024، تصل قيمة هذه التجارة غير المشروعة إلى نحو 5 مليارات دولار سنوياً. وباختصار، ينبغي على الأطراف الفاعلة الرئيسية في ليبيا التوصل إلى اتفاق حول برنامج يضمن تسديد ثمن الوقود المستورد. وإذا تمكنت البلاد من تأمين احتياجاتها المحلية من الطاقة، فقد تتمكّن من التخفيف من أزمتها الاقتصادية والحصول على فترة استراحة هي بأمس الحاجة إليها، بعيداً عن حالة عدم اليقين التي خيمت على سياستها لعقود طويلة. وفي حزيران/يونيو 2025، عقد كبار المسؤولين الليبيين ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط اجتماعاً لمناقشة تداعيات التخلي عن نظام "النفط مقابل الوقود"، في إشارة إلى وجود اهتمام محلي بإحيائه.
بادئ ذي بدء، يجب أن يخضع نظام "النفط مقابل الوقود" بعد إصلاحه لرقابة طرف ثالث لضمان شفافية المشتريات. فقد كشف تقرير صادر عن منظمة "غلوبال ويتنس" في عام 2021 عن وجود فساد، وأشارت تحقيقات الأمم المتحدة الواردة فيه إلى أمثلة متعددة على ممارسات غير أخلاقية في النظام السابق. ومن ثم، ينبغي أن يتضمن البرنامج الجديد آلية مستقلة للتدقيق والإبلاغ، إذ إن الإشراف الدولي يمكن أن يسهم بدرجة كبيرة في نزع الطابع السياسي عن أكثر جوانب البرنامج إثارة للجدل. علاوة على ذلك، يتعيّن تنفيذ البرنامج على مراحل، نظراً إلى حاجة ليبيا الملحّة لتخفيف عبء الديون واستيراد الوقود. ولمعالجة مسألة الدعم المفرط، اقترح صندوق النقد الدولي خطة تشمل إنشاء لجان لتقدير الاحتياجات الحقيقية من الوقود، ورفع الأسعار تدريجياً بما يردع التهريب. ورغم أن نظام المقايضة لا يشكل حلاً سحرياً، فإنه قد يتيح على المدى القصير استقرار سلسلة التوريد، ويمنع النزاعات حول الموازنة، ويضع الأساس لإصلاحات أوسع نطاقا، بما يساهم في إنعاش اقتصاد أنهكته نحو خمسة عشر عاماً من الحرب الأهلية.
وبطبيعة الحال، سيواجه أي برنامج من هذا النوع مقاومة من الجهات ذات المصالح الراسخة، التي تستفيد حالياً من الاتجار غير المنظم بالنفط، والعقود غير الشفافة، والتلاعب بنظام الدعم. وتمتلك هذه الجهات دوافع قوية للحفاظ على الوضع القائم. ولضمان نجاح الإصلاح، سيتعيّن إقصاء هذه الجماعات عبر مزيج من إنفاذ القانون، والضغط الدولي، وتوفير بدائل اقتصادية تجعل الانخراط في نظام شرعي أكثر جاذبية. كما يتطلب الأمر توفير ضمانات مالية وحشد دعم سياسي من المؤسسات الليبية المنقسمة. ولا يزال غياب الشفافية بشأن الصفقات السابقة من هذا النوع يشكل مصدر قلق مشروع، خصوصاً فيما يتعلق ببعض الشركات غير النزيهة التي شاركت فيها. وفي أماكن أخرى، أثبتت أنظمة المقايضة محدوديتها؛ فعلى وجه الخصوص، ارتبطت الترتيبات بين العراق ولبنان، التي تطورت في وقت متزامن تقريباً مع الترتيبات الليبية، بعدد من قضايا الفساد. ومع ذلك، يكمن الفرق الرئيس في أن لبنان يعتمد بدرجة كبيرة على واردات النفط، في حين أن ليبيا، رغم بعدها عن أن تكون نموذجاً للحكم الرشيد، تبقى دولة مصدّرة للنفط، وهو ما يجعلها أكثر قابلية لنجاح نظام مقايضة.
على الرغم من هذه التحديات، فإن تطبيق نظام "النفط مقابل الوقود" بشكل فعّال قد يوفر مثالاً ملموساً على الانضباط المالي والشفافية في ليبيا. ومن شأن ذلك أن يعزز ثقة السوق ويمهد الطريق لتحرير قطاع النفط والاقتصاد الليبي على نطاق أوسع. وستكون الدول الأوروبية - باعتبارها أكبر مستوردي النفط الليبي - الأكثر استفادة من استقرار تدفقات الطاقة وموثوقية المعاملات. وتُعد إيطاليا، وهي أكبر سوق للنفط الليبي ومستثمر قديم في قطاع التنقيب والإنتاج من خلال شركة إيني، في موقع مثالي للعب دور تنظيمي في دفع تمويل أنظمة التتبع الرقمية، وهي خطوة أساسية نحو جعل نظام استيراد الوقود أكثر شفافية وخضوعاً للمساءلة، إضافةً إلى دعم تحديث قطاع التكرير.
ومع ذلك، يظل انقسام الحكومة الليبية عقبة كبرى أمام أي تطور مستقبلي. غير أن الاستجابة العاجلة لقضايا إمدادات الوقود على المدى القصير يمكن أن تمهد الطريق أمام الاستثمار في مجال التكرير المحلي، وتتيح فرصة لإنهاء دعم الوقود المكلف اقتصادياً وبيئياً. كما ستستفيد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من استقرار ليبيا، وهو مسار يبدأ باستعادة برامج قادرة على تعزيز نشاط سوقي شفاف وقائم على القانون، حيث يمكن للمؤسسات الخاصة أن تنمو وتزدهر.