
- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
موازنة الأمن القومي والأولويات الاقتصادية في العلاقات الأردنية - الأمريكية

مع تحول الإدارة الأمريكية إلى نهج يُركز على الجوانب الاقتصادية في سياستها الخارجية، سيتعيّن على الأردن أن يعمل على سد هذا الفراغ - سواء لحماية مصالحه الأمنية الوطنية أو لطمأنة الرأي العام.
أثارت التطورات الأخيرة في العلاقات الأمريكية الأردنية - من إعلان الرئيس ترامب عن خطة "الريفييرا الشرق أوسطية" لغزة إلى فرض الرسوم الجمركية - تساؤلاً ملحاً: كيف سيتعيّن على الأردن التعامل مع التحديات الإقليمية الراهنة في ظل إعادة الولايات المتحدة توجيه نهجها نحو التركيز على الاقتصاد؟
ولذلك، فإن التحدي بالنسبة لبلدٍ مثل الأردن، الذي اعتمد منذ أكثر من سبعة عقود على مزيجٍ من الدعم العسكري والمشاركة الدبلوماسية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، يكمن الآن في دمجِ هذه الرؤى الجديدة، القائمة على السوق، مع حقائقِ الصراعاتِ السياسيةِ الراسخة مع واقع الصراعات السياسية المتجذرة التي تحيط بأمنه القومي الداخلي وتؤثر عليه. ومن ثم، تجد عمّان نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في نهجها الاستراتيجي التقليدي تجاه توازن الديناميات الإقليمية؛ فرغم أن تحالفات الأردن طويلة الأمد مع الولايات المتحدة وإسرائيل لا تزال مهمة، فإن مستقبل هذه العلاقات بات يعتمد بشكل كبيرعلى قدرة الأردن على تقديم حوافز جديدة - سواء كانت اقتصادية أو استراتيجية - تتوافق مع أولويات واشنطن الراهنة.
ستواجه الأردن تحدياً مزدوجاً يتضمن إدارة المواقف الداخلية إزاء إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية، علاوة على اعتماد استراتيجية خارجية أكثر ديناميكية واستشرافاً للتعامل مع تداعيات تغيّر أولويات الولايات المتحدة على التحالفات الإقليمية وديناميكيات القوة المتبدلة في الشرق الأوسط.
من ناحية، تبدو خيارات الأردن في مواجهة تباعد الولايات المتحدة محدودة وبعيدة عن المثالية؛ ومع ذلك، يمتلك الأردن دوافع قوية لتعزيز الاستقرار الإقليمي، ومن المرجح أن يظل استقراره وأمنه ضمن أولويات حلفائه الآخرين. وفي هذا السياق، يمكن للأردن أن يواصل التأكيد على أن قيمة علاقته بالولايات المتحدة تتجاوز الأبعاد الاقتصادية البحتة.
ولعل الأهم من ذلك أن الأردن كان ولا يزال، بل ويمكن أن يظل، خط الدفاع الأول في المنطقة ضد مختلف أشكال التطرف - سواء كانت يسارية أو قومية أو دينية. غير أن ضمان إيصال هذه الرسالة بوضوح إلى صانعي القرار في الولايات المتحدة قد يتطلب اتباع سبل أكثر شمولاً وابتكاراً مما كان عليه الحال في الماضي، بما في ذلك تفعيل قنوات التأثير من خلال الكتل السياسية وجماعات الضغط في كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي ومع مؤسسات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والدراسات ووسائل الإعلام الأمريكية. وينبغي أن تركز هذه الجهود على المصالح المشتركة بين كافة الأطراف، وعلى أن استقرار الأردن وأمنه الوطني يبقيان من مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. كما سيكون من الضرورى التأكيد على القيمة المستمرة للعلاقة بطرق لا يمكن ترجمتها مباشرة إلى مكاسب مالية فورية. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن يعمد الأردن إلى تعديل توقعاته من الولايات المتحدة، بحيث تُبنى الخطط والبرامج على أسس راسخة لا تتأثر بتقلبات الإدارات المتعاقبة في واشنطن.
إدارة التحول في الرأي العام الأردني
بالنسبة للكثير من الأردنيين، تُعد مبادرة الرئيس ترامب التي أُطلقت عليها وسائل الإعلام اسم "ريفييرا الشرق الأوسط" تحولاً جذرياً عن الأساليب الدبلوماسية التقليدية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب الباردة، سواء من حيث الشكل أو المضمون. وقد تجلى ذلك في اللقاء التاريخي الذي جمع الرئيس ترامب مع الملك عبد الله الثاني في البيت الأبيض في 11 شباط/فبراير 2025، حيث تم عرض الفكرة الرئيسة للمبادرة التي تعتمد على الحلول التي تحركها قوى السوق الرأسمالية التقليدية على حساب التدابير السياسية والاجتماعية والأمنية المعتادة.
داخل الأردن، لا تزال معظم المناقشات ووسائل التواصل الاجتماعي تعكس شكوكاً وخوفاً حقيقيين من أن المكاسب الاقتصادية ستُعطى الأولوية على الاحتياجات الملحة لسكان غزة. كما يوجد تصور قوي بأن خطة ترامب تبدو خيالية مقارنة بالبدائل العربية المقترحة، وذلك رغم التحديات العملية التي تواجه هذه البدائل أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، لم تعترف "حماس" بعد بالهزيمة أو توافق على نزع السلاح والتخلي عن السيطرة على قطاع غزة، وهما شرطان أساسيان للبدائل العربية. كما تفتقر الدول العربية الضامنة، وخاصة دول الخليج ومصر، إلى إطار موحد ومتين لتنفيذ هذه الخطة، خصوصاً فيما يتعلق بعملية إعادة الإعمار وتمويلها.
ويتفاقم هذا الاستياء في الداخل الأردني، لا سيما في الأوساط الشعبية، في ظل التصور المتنامي بأن السياسة الأمريكية الحالية تميل بشكل متزايد نحو الحلول الاقتصادية والمشاريع الرأسمالية، متجاهلة الأبعاد الأمنية والاجتماعية والسياسية لعدم الاستقرار الإقليمي. ومع ذلك، يعكس النقاش حول الخطة مخاوف أعمق تتعلق باتجاهات السياسة الخارجية الأمريكية وتأثيرها على استقرار المنطقة.
تفاقمت هذه المخاوف في أعقاب قرار الإدارة الأمريكية رفع التعريفات الجمركية بنسبة 20٪ على الأردن، وكذلك الوقفِ المؤقتِ للمساعداتِ المالية، رغم أن الأردن يُعد حليفاً مهماً ومقرّباً للولايات المتحدة.
يؤثر الرأي العام الأردني حالياً بشكل سلبي ملحوظ على العلاقات الأردنية الأمريكية، وذلك في ضوء الحرب المستمرة في غزة والاتهامات الموجهة إلى الولايات المتحدة بتقديم دعم غير محدود لإسرائيل. وقد استغلت جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة منذ عام 2020) من خلال ذراعها السياسي، حزب "جبهة العمل الإسلامي"، وقاعدتها الشعبية المؤيدة لـ"حماس"، وبدعم من النظام الإيراني، هذه الظروف لشن حملة منهجية تهدف إلى تأجيج المشاعر المعادية للولايات المتحدة. يتتطلب هذا الواقع من الأردن، بالتعاون مع الولايات المتحدة، العمل على تفكيك الروابط والتحالفات بين هذه الأطراف ("الإخوان"، "جبهة العمل الإسلامي"، "حماس"، إيران) لإعادة تأهيل المواقف الشعبية بما يخدم تحسين العلاقات الأردنية الأمريكية ويضمن الاستقرار الوطني في الأردن.
إضافة إلى ذلك، يُدرك العديدون الأبعاد الأوسع والأكثر تأثيراً في هذه العلاقة، خصوصاً الشراكة الاستراتيجية الممتدة بين البلدين، بما في ذلك المساعدات الاقتصادية والعسكرية، فضلاً عن الروابط الثقافية الراسخة. ومن ثم، يمكن للأردن تعزيز علاقاته السياسية مع الإدارة الأمريكية الجديدة من خلال حوار هادف، مع التأكيد على دوره كعنصر استقرار في منطقة تأمل الإدارة الأمريكية أن تشهد فيها مزيداً من القيادة الإقليمية. على مدار العقدين الماضيين، كانت الأردن حصناً أساسياً ضد الدعاية المضللة التي تروج لها إيران في المنطقة، ونجحت بذكاء في احتواء الحركة الشعبية التي تسيطر عليها جماعة "الإخوان المسلمين"، بالإضافة إلى الدعم المتطرف لحركة "حماس" ومحور المقاومة.
يُسهم التصور السائد بأن "حماس" قوة لا تُقهر في غزة، إلى جانب الزخم الذي حققته "هيئة تحرير الشام" السلفية الجهادية من خلال بسط نفوذها في سوريا، في ترسيخ الانطباع داخل الأردن بأن التيارات الإسلاموية، وعلى رأسها "جماعة الإخوان المسلمين"، تشهد صعوداً متجدداً. ويعزز هذا الانطباع الغموض الذي يكتنف الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة، التي أُقرت خلال قمة القاهرة، بما يؤكد غياب خيارات فعّالة لاحتواء أيديولوجيا تُعد تهديداً مشتركاً للدول العربية كافة
من خلال تطوير آليات فعالة لتبادل المعلومات الاستخباراتية، وإجراء مشاورات دورية رفيعة المستوى، ووضع بروتوكولات منسقة لإدارة الأزمات، يمكن تعزيز الأمن القومي الأردني، وبالتالي ضمان استقرار المملكة في منطقة تتسم بتقلبات متكررة. وتزداد أهمية هذه الإجراءات عندما تكون مرتبطة بزيادة مخصصات الميزانية العامة أو بتوسيع الاتفاقيات العسكرية التي تضمن استمرارية العمليات اليومية في القواعد العسكرية الأردنية، التي تستضيف آلاف الجنود والضباط.
وفى السياق نفسه، أعلنت دائرة المخابرات العامة الأردنية يوم الثلاثاء 15 نيسان/أبريل 2025، عبر المتحدث باسم الحكومة محمد المومني عن إحباط مخطط إرهابي كبير يتألف من أربع خلايا تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، واعتقال 16 عضواً. وقد اعترف المتهمون عبر شاشات التلفزيون الحكومى بتلقيهم تدريبات في لبنان، وتصنيع صواريخ باستخدام أدوات محلية ومستوردة لأغراض غير مشروعة، وحيازة متفجرات وأسلحة نارية، وإخفاء صاروخ جاهز للاستخدام، وتنفيذ مشروع لتصنيع طائرات بدون طيار، وتجنيد عناصر داخل الأردن وتدريبهم وإخضاعهم لتدريبات خارجية. وتنظر محكمة أمن الدولة حالياً في القضية.
يسلط الكشف عن هذه المؤامرة الإرهابية الخطيرة الضوء على الحاجة الملحّة لتعزيز الاستقرار الداخلي في الأردن، من أجل حماية أمنه القومي وتحصينه ضد تهديدات جماعة الإخوان المسلمين بالتنسيق مع "حماس" والنظام الإيراني. وينبغي على الولايات المتحدة أن تعلن عن دعمها للمملكة من خلال إصدار بيان رسمي يدين هذه المؤامرة ويعرب عن تأييدها الكامل لجهود الأردن (علماً أنه، حتى الآن، لم يصدر مثل هذا البيان عن وزارة الخارجية أو البيت الأبيض)، لا سيما بعد أن أدان البرلمان الأردني، في جلسته المنعقدة بتاريخ 21 نيسان/ أبريل 2025، بالإجماع ممارسات جماعة "الإخوان المسلمين" وحزب "جبهة العمل الإسلامي".
من الضروري ايضاً مواصلة دعم أجهزة الأمن والمخابرات والجيش والاقتصاد الوطني في الأردن، بما في ذلك تقديم الدعم المالي وتخفيض التعريفات الجمركية إلى مستويات لا تقل عن تلك المعمول بها في مصر وإسرائيل، وذلك لمساعدة المملكة على مواصلة صمودها في وجه جميع المحاولات الرامية إلى زعزعة أمنها واستقرارها أو دفعها نحو الفوضى.
ومن جانبه، يمكن للأردن أن يُظهر تفهمه وحساسيته تجاه المخاوف الاقتصادية للإدارة الأمريكية الحالية من خلال اتخاذ خطوات جدية لمعالجة التهرب الضريبي، وتشديد الرقابة على الإنفاق العام، والتصدي للترهل الإداري، ومعالجة أوجه القصور في كفاءة مؤسسات الدولة، بما يعكس التزاماً بالإصلاح الاقتصادي ويعزز الثقة المتبادلة بين الجانبين.
ويبقى من المهم أن تفتح عمان حواراً جدياً مع الجانب الأمريكي حول موضوع التعريفات الجمركية، كونه شريكاً اقتصادياً مهماً في اتفاقية التجارة الحرة بين الشريكين، التي تُعد أول اتفاقية من نوعها للتجارة الحرة بين الولايات المتحدة ودولةٍ عربية، وقد جرى توقيعها بين البلدين في 24 تشرين الأول/أكتوبر 2001.
يمكن أن تسهم الرسائل العامة أيضاً بشكل ملموس في معالجة مواقف الرأي العام تجاه العلاقات الثنائية. فعلى الرغم من رد الفعل السلبي الواسع تجاه خطة ترامب بشأن غزة، فإن الاجتماع الذي تلا ذلك بين الرئيس ترامب والملك الأردني وولي العهد، ترك أثراً إيجابياً واضحاً على الرأي العام، لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الداخلية. فقد حظي الملك عبد الله الثاني باستقبال شعبي حافل عند عودته من واشنطن، حيث كان الناس في الشوارع يرددون شعار "الأردن أولاً" و"الأردن للأردنيين" تماشياً مع شعار الإدارة الأمريكية "أمريكا أولاً". وقد عبر الملك عن هذا الموقف بقوة ووضوح، رغم بعض الانتقادات الموجهة من جماعة "الإخوان المسلمين" والجماهير الفلسطينية المؤيدة لحركة "حماس". كما شكلت رسالة الرئيس ترامب الموجّهة إلى الشعب الأردني في 12 شباط/فبراير 2025، التي أشاد فيها بالملك عبد الله الثاني والشعب الأردني عقب اللقاء التاريخي بين الزعيمين، نموذجاً فعّالاً على أهمية تنسيق إدارة الأزمات؛ إذ كان لها أثر إيجابي ملحوظ في رفع معنويات الملك وتعزيز الثقة لدى قطاعات واسعة من المجتمع الأردني.
إن التفاعل بين التعاون الأمني والنشاط الاقتصادي والمساءلة الإنسانية يشكل حجر الزاوية لإطار إقليمي مرن. وعلى النقيض من ذلك، فإن المقاربة المعتمدة على السوق الحرة بالكامل - كما تجسدها خطة ترامب - تعرض الأمن الإقليمي للخطر، حيث قد يتم تهميش التدابير الأمنية الحيوية التي ساهمت تاريخياً في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة. في حين أن التركيز الحصري على القوة العسكرية قد يتجاهل الأسس الاقتصادية اللازمة لتحقيق السلام الدائم. وفى هذا الصدد، يمكن للأردن أن يتعامل بفعالية مع الشكوك والتحديات الحالية، بينما يستمر في لعب دور محوري في الشرق الأوسط، لا سيما في بلاد الشام، في ظل حالة التشرذم التي تشهدها فلسطين التاريخية والفشل السياسي في سوريا ولبنان.
ولضمان التعاون الأمني الدائم، يجب على الأردن وإسرائيل والولايات المتحدة إقامة شراكة قوية تتجاوز الأطر التقليدية. ومن ثم، سيهم الاستثمار في البنية التحتية المشتركة ومشاريع الطاقة والمياه – التي توقفت للأسف بسبب الحرب – ونقل التكنولوجيا، في بناء الثقة وتعزيز التعاون بين البلدين على المدى الطويل. كما ينبغي أن تُوجه هذه الجهود بمبادئ الشفافية والمساءلة والالتزام بالمصالح الاستراتيجية المشتركة وفقاً للمعايير الإدارية الأمريكية الحالية، مما يضمن توافق الأولويات الوطنية مع الهدف الأوسع المتمثل في استقرار المنطقة. ومن خلال تبني هذا النهج الشامل، ستتمكن جميع الأطراف من مواجهة التهديدات الناشئة بفعالية وتأمين شراكة مستدامة وطويلة الأمد.
في حين توفر آفاق التنمية الاقتصادية رؤية مغرية لمنطقة محاصرة ومدمرة مثل غزة، يجب أن تُنَفَّذ هذه الرؤية مع مراعاة الحفاظ على المتطلبات الأمنية والإنسانية الحيوية التي تظل أولوية أساسية. وبناءً على ذلك، ينبغي للأردن أن يواصل الوفاء بالتزاماته التاريخية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، مع التكيف مع التحديات الناشئة عبر استراتيجيات مبتكرة ومتكاملة. إن تحقيق التوازن بين جاذبية الحلول التي يحركها السوق والضروريات العملية للأمن والاستقرار سيتطلب اتخاذ قرارات حكيمة، ولا يمكن أن ينجح ذلك إلا بدعم أمريكي راسخ وسخي، فضلاً عن تعاون وثيق بين جميع الأطراف المعنية.