- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
استعادة المسار: الاتجاه السياسي المتجدد للعراق
للحيلولة دون استعادة الفاعلين المتشددين زمام المبادرة مرة أخرى، يتعيّن على الفصائل الكردية والعربية السنية والقوى الشيعية المعتدلة أن تتوحد خلال مرحلة ما بعد الانتخابات، وأن تعمل على أولويات أساسية، من بينها تنفيذ الدستور وتعزيز المؤسسات.
يشكل بروز مشهد سياسي جديد في العراق خطوة مفصلية نحو استعادة الاستقرار السياسي وإعادة رسم المسار السياسي للبلاد. فقد كان النظام الذي أُنشئ بعد عام 2003 قائماً على نموذج الديمقراطية التوافقية، حيث تشاركت مختلف الطوائف والمجموعات العرقية في العراق سلطة اتخاذ القرار. غير أن هذا الاتجاه بدأ يتراجع عندما تمكنت الأحزاب والفصائل الشيعية العربية تدريجياً من توطيد وتوسيع سلطة الدولة على حساب المجموعات العرقية والطائفية الأخرى، بحجة تعزيز السيادة العراقية وتنظيم شؤون الدولة. وفي الوقت عينه، تنامى الدور الإيراني في تشكيل المجالين السياسي والأمني في العراق بشكل ملحوظ، متزامناً مع تراجع مماثل في نفوذ الولايات المتحدة. وقد أسفر ذلك عن تفكك التوافق الكردي - الشيعي العربي - السني العربي، الذي كان يشكل العمود الفقري لإعادة هيكلة الدولة العراقية بعد عام 2003، بدعم أمريكي مباشر.
أُجريت الانتخابات البرلمانية السادسة بعد سقوط نظام صدام حسين في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025. ووفقاً لـ"المفوضية العليا المستقلة للانتخابات"، شارك حوالي 56.11 في المئة من الناخبين المسجلين، أي12,009,453 ناخباً من أصل 21,404,291 . وتجدر الإشارة، مع ذلك، إلى أن حوالي 70 في المئة فقط من العراقيين البالغين، الذين يُقدَّر عددهم بنحو 28 مليوناً ، مدرجين في سجلات الناخبين، مما يشير إلى أن أقلية من العراقيين المؤهلين شاركوا فعلياً في الانتخابات. وجاءت هذه الانتخابات بعد عامين من الصراع الدموي في الشرق الأوسط. وخلال هذه الفترة، شهد ما يُعرف بـ "محور المقاومة" الشيعي، بقيادة إيران والممتد من غزة إلى لبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى إيران، تراجعاً ملحوظاً، وهو ما خلف تداعيات كبيرة على المشهد السياسي العراقي.
منذ عام 2003، لم يتمكن العراق من بناء مؤسسات قوية قادرة على صياغة وتنفيذ سياسات داخلية وخارجية من دون تدخلٍ خارجي. ولا تزال الدولة تفتقر إلى رؤية شاملة وخطة طويلة الأمد، متسقة واستراتيجية، توجه الإجراءات والسياسات ومسارات التنمية. وفي هذا السياق، قام مجلس الوزراء، الذي يهيمن عليه الشيعة - وهو، وفقاً للدستور، أقوى مؤسسة تنفيذية في العراق - برسم النهج السياسي للدولة وتنفيذ سياسات منسجمة مع ذلك، استناداً إلى رؤية وأيديولوجيات الشخصيات أو القوى المهيمنة فيه. فعلى سبيل المثال، كان إبراهيم الجعفري، أول رئيس وزراء بعد عام 2003، يتبنى رؤية يغلب عليها الطابع الإسلامي ويميل إلى تحقيق نوع من التوازن العملي. في المقابل، وفي ظل الظروف العسكرية والسياسية الأمريكية، يميل نوري المالكي، رئيس الوزراء الثاني والذي لا يزال شخصية بارزة داخل "الإطار التنسيقي"، إلى الانحياز إلى إيران وربط العراق بمحور المقاومة.
ومع ذلك، حاول خليفة المالكي، حيدر العبادي، في مواجهة تهديد الإرهاب واستفتاء استقلال إقليم كردستان العراق، تحقيق توازن دقيق بين الحصول على دعم الولايات المتحدة من جهة والتعاون مع الميليشيات الشيعية المتحالفة مع إيران من جهة أخرى. غير أن هذا النهج جرى التراجع عنه في عهد رئيسي الوزراء عادل عبد المهدي ومصطفى الكاظمي، اللذين اتخذا موقفاً أكثر تأييداً للولايات المتحدة، لكنهما تعاملا بحذر مع إيران والجماعات التابعة لها في العراق. وأخيراً، صرح رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، الذي تم ترشيحه ودعمه في البداية من قبل " الإطار التنسيقي"، بوضوح أن سياسة إدارته تقوم على الحياد، والحفاظ على توازن بالغ الصعوبة بين المصالح المحلية، والرعاية الإيرانية، والضغط الأمريكي.
موقف الشيعة في العراق
ضمن ما يُسمى البيت الشيعي، برز "تحالف إعادة الإعمار والتنمية" بقيادة السوداني كأكبر مجموعة منفردة، بحصوله على ستة وأربعين مقعداً برلمانياً . وفي هذه الانتخابات، انضم تحالف السوداني رسمياً إلى " الإطار التنسيقي"، الذي يضم أيضاً "تحالف دولة القانون" بقيادة نوري المالكي (تسعةً وعشرين مقعداً)، و"تحالف قوى الدولة الوطنية" بقيادة عمار الحكيم وحيدر العبادي (تسعةَ عشر مقعداً)، و"تحالف الأساس" بقيادة نائب رئيس البرلمان محسن المندلاوي (تسعة مقاعد)، "وتحالف أبشر يا عراق" بقيادة همام حمودي، زعيم المجلس الأعلى الإسلامي العراقي (أربعة مقاعد). وعلى الرغم من الثقل السياسي لمقتدى الصدر وحركته ضمن المشهد الشيعي، واللذين شكّلا في الانتخابات السابقة عامل توازن في مواجهة "الإطار التنسيقي"، قاطع الصدر وحركته الانتخابات الحالية، ولم يحصلوا على أي مقاعد في البرلمان الجديد، رغم شعبيتهم الواسعة في انتخابات عام 2021، حين حصلوا على ثلاثة وسبعين مقعداً من أصل 329 مقعداً في البرلمان.
أشارت النتائج الأولية إلى أن إحدى النتائج السياسية الرئيسية لهذه الانتخابات كانت الهزيمة الواضحة للأحزاب السياسية المرتبطة بالفصائل الشيعية المسلحة الموالية لإيران في العراق. وتشمل هذه الجماعات: "كتلة الصادقون"، الجناح السياسي لـ "عصائب أهل الحق"، بقيادة قيس الخزعلي؛ و"منظمة بدر"، بقيادة هادي العامري؛ و"حركة حقوق"، التي تمثل "كتائب حزب الله" وتخضع لقيادة أبو فداك أو أحمد محسن الحميداوي؛ و"كتائب سيد الشهداء"، الممثلة في البرلمان من خلال "كتلة المنتصرون" بقيادة أبو علاء الوالي؛ و"تحالف خدامات"، الذي يمثل "كتائب الإمام علي" بقيادة شبل الزايدي. وقد حصلت الأذرع السياسية لهذه الفصائل الشيعية المسلحة مجتمعة على ستين مقعداً، ما يشكل حوالي 36 في المئة من إجمالي كتلة " الإطار التنسيقي" البالغة 165 مقعداً.
يشير فوز قائمة السوداني إلى أن غالبية الناخبين الشيعة العراقيين يرغبون في حماية الخط السياسي الحالي الذي يمثله السوداني. وقد خاض السوداني الانتخابات تحت شعار "العراق أولاً "، متجنبتاً اتخاذ مواقف طائفية صريحة، ومقدماً رسالة تتجاوز الانقسامات العرقية والطائفية. وبناء على ذلك، ركز برنامجه الانتخابي على تحقيق إعادة إعمار مستدامة، وتعزيز الاقتصاد، ومكافحة الفساد، وتوطيد الاستقرار، والأمن. وتتطلب هذه البرامج، بالضرورة، الحفاظ على بيئة مستقرة وآمنة في العراق. وفي هذا السياق، كان أحد أكبر إنجازات حكومة السوداني السابقة قدرتها على منع العراق من الانجرار إلى مواجهة عسكرية بين إسرائيل وإيران، إذ كان كثيرون يخشون أن تؤدي تصرفات ومواقف الميليشيات المسلحة الموالية لإيران إلى جعل العراق الهدف التالي لإسرائيل . كما يؤكد فوز السوداني أن الناخبين الشيعة يفضلون شخصية تكنوقراطية تركز على الرفاهية والخدمات العامة وتتمتع بالقدرة على السعي إلى تسوية استراتيجية عبر الحفاظ على التوازن بين المطالبات العامة بالسيادة والمطالب الدولية لاحتواء نفوذ إيران.
على النقيض من ذلك، ينظر الأعضاء التقليديون في "الإطار التنسيقي" إلى إيران بوصفها الراعيَ الرئيسي للبعد السياسي والأمني والعسكري للشيعة في العراق، حيث يعتبر بعض أعضائه آية الله علي خامنئي مرجعهم الأساسي في التقليد والزعيم المطلق للإسلام الشيعي العالمي. على الرغم من أن الإطار التنسيقي" تأسس في البداية بوصفه قوة موازنة للكتلة السياسية التي يقودها الصدر بعد انتخابات 2021، تطور تدريجياً وبصورة غير رسمية ليصبح أعلى هيئة سياسية واقتصادية وعسكرية لصنع القرار داخل ما يُعرف بـ"البيت الشيعي"، حيث بات يتخذ القرارات المتعلقة بأهم شؤون الدولة.
في غضون ذلك، يمكن اعتبار حركة الصدر إحدى نقاط الضعف في المؤسسة السياسية الشيعية العراقية. إذ يصور الصدر نفسه بوصفه شخصية دينية وسياسية مناهضة للمؤسسة تتنافس مع الفصائل الموالية لإيران التي تقوم بتنظيم مقاطعات وانسحابات جماعية وتعبئة الشوارع، الأمر الذي يؤدي إلى إضعاف البيت الشيعي بصورة متكررة. ويرى الصدر أن حركته، الأكثر تنظيماً وانضباطاً، تمتلك القدرة على التدخل لتولي إدارة شؤون الدولة كلما انهارت تحت حكم منافسيه. ويبدو أنه ينتهج استراتيجية طويلة الأمد، هدفها النهائي تشكيل حكومة وفقاً لشروطه.
موقف السنة في العراق
بعد سنوات من الإرهاب والتمرد وسفك الدماء، تخلى السنة في العراق عن التنافس مع العرب الشيعة على حكم البلاد. ومع ذلك، فإن مقاطعتهم للنظام السياسي العراقي بعد عام 2003 - ولا سيما فيما يتعلق بالمشاركة في كتابة الدستور وإنشاء المؤسسات والعمليات السياسية - جعلت من الصعب للغاية على السنّة التعامل بفاعلية مع التعقيدات السياسية. ونتيجة لذلك، لم تحصل التجمعات السياسية السنية الثلاثة الرئيسية - "حزب تقدم" (ثلاثة وثلاثون مقعداً)، و"تحالف السيادة" (تسعة مقاعد)، و"تحالف عزم" (خمسة عشر مقعداً) – على الأغلبية إلا في الأنبار وصلاح الدين، وهما المحافظتان اللتان تقطنهما أغلبية سنية.
ومن الجدير بالذكر أن القوى السياسية العربية السنية لم تطرح رؤية سياسية واضحة ومتسقة لمستقبل ناخبيها ولا للعملية السياسية الأوسع في العراق بصورة عامة. وعلى العكس من ذلك، اكتفت هذه القوى بإيصال رسائل غير مباشرة حول الجهة التي تراها والتي يحق لها شغل أعلى المناصب السياسية في الدولة. وقد ركزت الرسائل السياسية السنية على إمكانية اندلاع توترات بين الأكراد والسنة في العراق، نتيجة عدة عوامل. ويستفيد الأكراد، ولا سيما "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، من مصادر الدعم الإقليمي ذاتها التي يعتمد عليها العرب السنة، لا سيما تركيا ودول الخليج العربية.
يعتقد العديد من العرب السنة أن دول المنطقة تسعى إلى إضعاف الأكراد في العراق، ولا سيما في ظل القضايا الكردية الإقليمية، وكذلك رغبة دول الخليج العربية وتركيا في تعزيز العنصر العربي السني في العراق على حساب الأكراد. وفضلاً عن ذلك، فإن القضية الحساسة المتعلقة بالمناطق الحدودية المتنازع عليها بين المناطق الأساسية لإقليم كردستان العراق والمحافظات العربية السنّية في العراق ترتبط ارتباطاً مباشراً بالأكراد والعرب، ولا سيما السنّة، الذين جلبتهم الأنظمة العربية السنّية السابقة للإقامة في هذه المناطق.
مصير الأكراد في العراق
في الفترة التي سبقت الانتخابات، انتشرت شائعات حول احتمال قيام "الحزب الديمقراطي الكردستاني" بمقاطعة الانتخابات، سواء مع الصدر أو من دونه، وذلك احتجاجاً على السياسات التي اعتمدها " الإطار التنسيقي" منذ عام 2022 ضد إقليم كردستان، بما في ذلك القضايا المتعلقة بالنفط والميزانية. غير أنه، وبعد تقييم الكلفة والفوائد، قرر "الحزب الديمقراطي الكردستاني" المشاركة في الانتخابات. وتُظهر نتائج الانتخابات أن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" حصل على اثنين وثلاثين مقعداً، ونال عدداً من الأصوات يفوق ما حصل عليه أي حزب منفرد آخر في العراق.
قد تمهد نتائج انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر، إلى جانب التحولات الإقليمية الأوسع نطاقاً في ميزان القوى، الطريق أمام الأكراد لتجاوز مرحلة ما بعد الاستفتاء والاندماج الكامل في العملية السياسية العراقية. وقد شكّل الأكراد والعرب الشيعة، بوصفهما مجموعتين معارضتين، عنصرين أساسيين في عمليات بناء الدولة العراقية بعد عام 2003، إذ أسهما معاً في تشكيل جوهر النظام السياسي وإدارة الدولة في إطار شراكة سياسية. غير أن هذه العلاقة بدأت تتدهور تدريجياً عقب دعم الأكراد لتحالف "الحركة الوطنية العراقية " عام 2010، إضافة إلى تجاهل الحكومة لبنود دستورية تتعلق بمصالح إقليم كردستان، ما أدى إلى تباعدٍ متزايدٍ تُوِّج بالاستفتاء المصيري على الاستقلال عام 2017. وخلال تلك المرحلة، شهد الأكراد بصورة مباشرة غياب الدعم من الجهات التي طالما اعتبروها حلفاء تقليديين لهم.
خاتمة
أدى ضعف طهران الجيوستراتيجي في أعقاب تدمير دفاعاتها الأمامية في حرب الاثني عشر يوماً ، وصعود نظام عربي سني في سوريا بدعم من تركيا ودول الخليج العربية، إضافة إلى سياسة الرئيس دونالد ترامب الهادفة لتقليص التزامات الولايات المتحدة في العراق، إلى خلق بيئة مقلقة للعديد من الشيعة في العراق. وينبغي أن تدفع هذه التطورات القوى الشيعية المعتدلة إلى انتهاج مسارٍ أكثر استقلالية، عبر تعزيز المؤسسات الديمقراطية والفيدرالية في العراق.
كما تتيح الانتخابات فرصة للأكراد لإعادة بناء تحالفهم مع الأغلبية الشيعية بهدف إدارة شؤون الدولة، إذ سيتعين على الكتل الكردية والعربية السنية الرئيسية أن تتعاون بجدية مع القوى الشيعية المعتدلة لضمان إنجاح الدستور. أما إذا شعرت القوى الشيعية الأكثر تشدداً بأن السلطة قد تُسلب من أيدي الشيعة، فقد تستعيد زخمها عبر اتهام المعتدلين بالتفريط بهذه السلطة التي جرت حيازتها بشق الأنفس. ويبقى التساؤل مطروحاً حول ما إذا كان الأكراد، بالشراكة مع التجمعات السياسية العراقية الرئيسية الأخرى، سيتمكنون من العودة إلى المشاركة في العملية السياسية في العراق، وما إذا كان هذا الانخراط المتجدد سيخفف من التهديد الوجودي الذي يواجهونه، وأن يضع حداً للظروف القمعية التي عانوا منها لما يقرب من قرن.