- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات في ليبيا تشكل رهاناً محفوفاً بالمخاطر
تضغط بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا والهيئات التشريعية المتنافسة من أجل إعادة هيكلة السلطة الانتخابية، في محاولة تنطوي على خطر تسييس إحدى المؤسسات القليلة المتبقية التي تحظى بالثقة في البلاد.
بينما تبذل ليبيا جهداً لإجراء عملية انتخابية طال انتظارها، تبرز "المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات" باعتبارها إحدى المؤسسات القليلة التي لا تزال تحظى بثقة الجمهور واعتراف واسع النطاق، محليا ودوليا، بفضل مهنيتها واستقلاليتها. في حين أن معظم مؤسسات الدولة قد وقعت في براثن الاستقطاب السياسي والتفكك المؤسسي، حافظت "المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات" على كونها هيئة محايدة وتقنية ومنضبطة.
ولهذا السبب بالتحديد، فإن الدعوات المفاجئة إلى إعادة هيكلة مجلس إدارة المفوضية – بقيادة "بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا "وبدعم من كل من "مجلس النواب “ في شرق ليبيا والمجلس الأعلى للدولة "في غرب ليبيا – تثير تساؤلات جدية: لماذا الآن؟ ما هو الدافع الحقيقي وراء هذا التوقيت؟ والأهم من ذلك، ما هي الكلفة؟
دور "المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات"
منذ تأسيس "المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات" في كانون الثاني / يناير 2012 بموجب القانون رقم 3 لعام 2012، أشرفت المفوضية على حملات تسجيل الناخبين؛ ونظمت الانتخابات البرلمانية وانتخابات صياغة الدستور والانتخابات البلدية؛ وحافظت على سمعة تقنية قوية في الداخل والخارج، دون أن تُتهم بالتحيز أو الفشل التقني. وتعتبر المفوضية على نطاق واسع آخر مؤسسة "سيادية" عاملة تعمل بكفاءة ومقبولة من جميع الأطراف السياسية. على سبيل المثال، نجحت "المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات" في تسجيل 2,865,937 ناخباً في عام 2012 و1,509,128 ناخباً في عام 2014، وحظيت بالتقدير لإشرافها على الانتخابات التي أجريت في تلك السنوات. وفي الآونة الأخيرة، في آب/أغسطس الماضي، أجرت المفوضية انتخابات في ست وعشرين بلدية، وبلغت نسبة المشاركة الأولية 71 % . وأكدت المفوضية التزامها بالتصديق على النتائج بشفافية، حيث أصدرت في 10 أيلول/سبتمبر الموافقة النهائية على 34 مجلساً بلدياً، مما عزز شرعية الحكم المحلي.
اكتسبت المفوضية ثقة قوية ودعماً مستمراً من الشركاء الدوليين، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، باعتبارها مؤسسة رئيسية في دفع العملية الديمقراطية في ليبيا. كما ساهم "الاتحاد الأوروبي" ودوله الأعضاء مجتمعين بأكثر من 10 ملايين يورومن خلال مشروع "دعم الانتخابات في ليبيا" التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مما ساعد المفوضية على تعزيز قدراتها الفنية والتشغيلية. كما قدمت المملكة المتحدة مساعدة إضافية بقيمة حوالي 341,000 دولار لتعزيز جاهزية المفوضية. كما ساهمت "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية" بشكل كبير، حيث خصصت حوالي 13.3 مليون دولارمن خلال نشاطها لتعزيز الانتخابات والتشريعات في ليبيا لدعم المفوضية والمؤسسات ذات الصلة، لضمان إجراء عمليات انتخابية موثوقة وشاملة وشفافة في جميع أنحاء البلاد. وتعكس هذه الاستثمارات مجتمعة الثقة الدولية الواسعة في مهنية المفوضية واستقلاليتها.
وفقاً للإطار القانوني للجنة "المتمثل في القانون رقم 8 لعام 2013 بشأن "المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات "، يتألف مجلس إدارتها من ستة أعضاء متفرغين بالإضافة إلى الرئيس. حالياً، هناك ثلاثة مقاعد شاغرة. ومع ذلك، يشكل الأعضاء الأربعة النصاب القانوني، حيث إن صوت الرئيس يعادل صوتين. وقد اتُخذت قرارات المفوضية بنصاب قانوني من أربعة أعضاء لفترة طويلة.
السياسة الليبية وإعادة هيكلة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات
تنقسم السلطة في ليبيا فعلياً بين مجلس النواب و"المجلس الأعلى للدولة". تأسس مجلس النوابفي عام 2014 من خلال انتخابات وطنية ليحل محل "المؤتمر الوطني العام"، وفقاً لما نص عليه الإعلان الدستوري الانتقالي لعام 2011. ويقع مقره في طبرق ويعمل كهيئة تشريعية معترف بها دولياً، على الرغم من أن سلطته على غرب ليبيا موضع نزاع. أما "المجلس الأعلى للدولة" فقد تشكل في عام 2016 بموجب الاتفاق السياسي الليبي "اتفاق الصخيرات" الموقع في عام 2015. ويتألف المجلس بشكل أساسي من أعضاء سابقين في "المؤتمر الوطني العام" المنحل، ويعمل نظرياً كهيئة استشارية لمجلس النواب. لكنه في الواقع، متحالف مع الحكومة في طرابلس.
دعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في خارطة الطريق الأخيرة التي وضعتها، إلى إعادة هيكلة كاملة لمجلس إدارة "المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات"، بما في ذلك تعيين رئيس جديد. والسبب المعلن هو "تصحيح الوضع القانوني" للمجلس وتعزيز "الشفافية والمصداقية".
إذا أعيدت هيكلة المفوضية من خلال مفاوضات سياسية بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، فقد تفقد حيادها. كما يهدد إصلاح مجلس إدارتها بإدخال الصراع السياسي إلى هيكلها الداخلي، حيث إن اختيار الرئيس وأعضاء المجلس قد يستند إلى حصص تقاسم السلطة الإقليمية بدلا من الجدارة أو الكفاءة المهنية. عندها سيمثل الأعضاء المصالح السياسية لمناطقهم، مما يخلق أجندات متضاربة داخل المجلس. قد يؤدي ذلك في النهاية إلى سير المفوضية على نفس مسار المؤسسات السيادية الأخرى في ليبيا، أي الانقسام إلى قسمين. إذا حدث ذلك، فإن ليبيا تخاطر بفقدان أخر مؤسسة لا تزال تتمتع بثقة الجمهور.
إن تغيير قيادة المفوضية الآن سيعطل نظاما يعمل بالفعل. والنتيجة شبه المؤكدة ستكون المزيد من التأخير ومزيداً من البيروقراطية. ومن ثم، سيحتاج أي مجلس إدارة أو رئيس جديد إلى وقت لفهم الوضع الحالي، وبناء العلاقات، والتعامل مع المشهد التقني والسياسي. وخلال ذلك، ستتعطل الاستعدادات للانتخابات، وما كان يمكن تحقيقه في غضون أشهر قد يستغرق سنوات.
علاوة على ذلك، تكافح بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا باستمرار للتغلب على حقيقة أن المسؤولين الليبيين، بما في ذلك مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، يرفضون أي صيغة من شانها أن تجردهم من الامتيازات والأموال التي يتمتعون بها. وفي غياب دعم مستمر من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والجهات الفاعلة الإقليمية، لا يتبقى أمام بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا سوى محاولة ممارسة نفوذها على القضايا الأقل إثارة للجدل.ومع ذلك، أصبح إصلاح المفوضية شرطا سياسيا، ويستخدمه أعضاء مجلس النواب و"المجلس الأعلى للدولة" ذريعة لتعطيل العملية الانتخابية والبقاء في مناصبهم.
ومن الجدير بالذكر أن "المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات" لا تشكل العقبة الحقيقية أمام إجراء الانتخابات في ليبيا، بل الجمود السياسي المستمر بين الهيئات التشريعية المتنافسة حول قوانين الانتخابات وشروط الترشح وترتيبها. هذه ليست من مسؤوليات المفوضية ، بل هي نتيجة للشلل السياسي المستمر والفشل المتكرر للمبادرات التي تقودها الأمم المتحدة في ليبيا. ومسألة إصلاح المفوضية ليست القضية الرئيسية التي تمنع إجراء الانتخابات. أي لجنة ستحتاج إلى توجيهات بشأن قواعد الانتخابات وهيكلها وعدد الدوائر الانتخابية والترتيبات الأمنية قبل تصميم بطاقات الاقتراع وإجراءات فرز الأصوات.
إصلاح ما هو معطل – وليس ما هو سليم
تتمتع المفوضية، في وضعها الحالي، بالقدرة الفنية والثقة العامة لإجراء انتخابات نزيهة وذات مصداقية. وفي بلد منهك بالانقسامات، لا تستطيع ليبيا المخاطرة بالمؤسسة الوحيدة التي لا تزال تحظى بالثقة. وبناءً على ذلك، لا تشكل المفوضية عقبة أمام الانتخابات – بل قد تكون آخر أمل متبقي لها.