- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
«ترامب المنتصر»: الشرق الأوسط بين اتفاقين نوويين
صورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ يوقع «اتفاق نزع السلاح النووي» إلى جانب الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، في سنغافورة يوم الثاني عشر من حزيران يونيو الجاري، تقدم مادة خصبة إضافية لكل من السرديتين المتنافستين في الإطار العربي، لتدفعهما باتجاه تأكيد الرؤيتين المتضادتين لواقع الأمور في الشرق الأوسط. فالرؤية الأولى تدرج اللقاء في سياق تصحيح شامل لسياسات القوة العظمى الوحيدة في مختلف الملفات الدولية، بما يخدم تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، فيما الرؤية المضادة ترى في اللقاء عينه إرهاصاً بالمزيد من التوتر والنزاع في المستقبل المنظور للمنطقة. أما المفارقة فهي أن الرؤيتين تتفقان أن ترامب هو الممسك بزمام المبادرة، وأن الولايات المتحدة هي في موقع القوة، وإن اختلفتا في تقييم هذا الإنجاز، سلباً وإيجاباً.
وإدارة الرئيس ترامب، إذ هي تشهر تخليها عن سياسات الرئيس السابق باراك أوباما، بل تجاهر بإدانتها لهذه السياسات، تجد تأييداً يكاد أن يكون دون تحفظ من ثلاث عواصم شرق أوسطية، هي القدس والرياض وأبو ظبي. وكان وجه الاعتراض الأول في هذه العواصم إزاء الإدارة الأميركية السابقة أن واشنطن تزاحمت للاستحصال على اتفاق مع إيران، وفق شروط يرى البعض أنها غير موائمة للمصالح الأميركية، ودون اعتبار لمصالح الشركاء والحلفاء في المنطقة، ودون إصغاء لنصائحهم. بل شكواهم هي أيضاً أن إدارة الرئيس أوباما قد أخفت عنهم تفاصيل تواصلها مع إيران رغم الأثر البالغ للموضوع على أمنهم الوطني.
فمن وجهة نظر كل من السعودية والإمارات وإسرائيل يظهر انسحاب إدارة الرئيس ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، وإعلانها السعي إلى توجه جديد بعيد المدى للتصدي للتوسع الإيراني، كتصويب لشطح في المواقف على درب تصحيح لعلاقات كانت قد تضررت. وبعد أن كانت الوسائل الإعلامية المرتبطة بكل من السعودية والإمارات قد سايرت الاهتمام العام بمتابعة مواقف الرئيس ترامب، بعيد انتخابه، كنموذج جديد في الرئاسة، غير مقيّد بأصول معتادة وميّال إلى المعارك الجانبية، فإنها قد شهدت تدريجياً إعادة تصوير لترامب بما يتيح فهم مواقفه وأقواله على أنها منسجمة مع ذاتها ومندرجة في إطار خطة محكمة متجانسة، وإن لم تكن جليّة للمشاهد العادي.
والواقع أن هذا النموذج لشخص القائد، والذي جرى اعتماده أخيراً لقراءة ترامب، متوافق مع الصيغة السائدة في التأطير المعياري للحكم والحاكم لدى كافة الوسائط الإعلامية الخليجية، وإن اعترى بعض الإعلام المرتبط بقطر قدر من الارتباك بهذا الشأن، وفق منطق أبوية الحاكم كمسؤولية واستحقاقه إزائها للولاء. أبوية الحاكم جلية في الإعلام المدعوم إماراتياً بالتركيز على دور قادة الإمارات في دفع بلادهم قدماً إلى التطور، ولكنه واضح كذلك في النقد الضمني والصريح لمسارات «الربيع العربي» على أنها تجارب هدّامة في تحديها لمشروعية الحكام الوطنيين وهيبة الدول. والأبوية قد نالت زخماً جديداً في السياق السعودي، في التركيز على شخصية الأمير الشاب ولي العهد محمد بن سلمان، وفي تصويره على أنه الحاكم المسؤول الراشد صاحب الرؤية والصائب على الدوام.
ويلاحظ أن الإعلام المدعوم قطرياً (والمدان سعودياً وإماراتياً للمساحة الانتقائية والمتفاوتة) التي يمنحها للقراءات النقدية)، لم يعتنق التصوير المضاد لترامب كزعيم متهور طائش، رغم شيوع هذا التصوير في الإعلام الغربي عامة وفي الولايات المتحدة خاصة. ففيما ترد التعليقات في هذا الاتجاه الطاعن ضمن المساحة المخصصة للرأي في هذا الإعلام، فإن الجهد التحريري ينحو إلى ما يظهره على أنه موضوعية أو حيادية، لتأتي التغطية الجمالية منافية للتصوير السلبي لدونالد ترامب. بل إن طاقة النقد اللاذع لدى قناة الجزيرة وغيرها من الوسائل الإعلامية التي تدعمها قطر أمست تقتصر أو تكاد على شؤون الخصوم الخليجيين.
والأسلوب المعتاد في الإعلام العربي لتغطية أخبار القادة السياسيين هو من خلال التركيز على الشكل مع تطرق ضئيل للمضمون، وعليه فإن قمة سنغافورة الأميركية الكورية الشمالية، قد وافقت هذا الأسلوب في تقديمها استفاضة استعراضية كدليل مرئي على أهميتها. والعبارات المستعملة على مدى الإعلام الناطق بالعربية، بما فيه المحطات الدولية التي تبثّ من أوروبا، لم تميّز في تغطيتها لحفل التوقيع عند نهاية اللقاء بين بيان قمة واتفاق مبرم. بل، وعلى الرغم من تنويه متكرر من عدد من الضيوف والمراسلين، جرى التأكيد على الطبيعة «التاريخية» للقاء وعلى مفصليته في العلاقات الدولية وعلى الإنجاز غير المسبوق المتحقق على مستوى نزع السلاح النووي. وقد لا تكون هذه المواقف الإعلامية تعبيراً عن قراءة متأنية للمجريات بقدر ما هي إعادة تموضع عملي إزاء الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب.
ففي الإعلام العربي الذي يدعمه حلفاء الولايات المتحدة وشركاؤها، يظهر ترامب بصورة الرئيس الحازم صاحب المبادرة والإقدام والقادر على تمزيق اتفاق نووي لا يفي مصالح بلاده حقها (مع إيران)، وعلى تحقيق اتفاق آخر ينسجم مع مطالبه (مع كوريا الشمالية). ولا فارق سواء شكل هذا التصوير قناعة لدى أصحاب القرار في السعودية والإمارات وقطر، أم لا. فكوريا الشمالية هي خارج الأفق السياسي لهذه الدول، فيما همّ اجتراح البديل للاتفاق النووي مع إيران قد تراجع إلى المرتبة الثانية أو الثالثة بالنسبة لها.
إيران، دون شك، تبقى في صلب الهمّ الأول، غير أن الخطر الذي تشكله إيران بالنسبة لكل من السعودية والإمارات هو ذو بعد جغرافي أولاً، وليس نووياً. فعلى مدى أعوام استطالت إلى الثلاثة وتزيد، تجد القوات العسكرية السعودية والإماراتية نفسها متورطة في حرب مكلفة في اليمن، تهدف إلى منع سقوط اليمن بالكامل بيد القوات المسلحة غير النظامية الحوثية، ذات الانتماء الزيدي الشيعي، والتي تجتهد إيران في استمالتها سياسياً وعقائدياً. وفي حين أن الهجوم السعودي الإماراتي على اليمن كان قد انطلق ابتداءاً دون استشارة واشنطن، وذلك قبل انتخاب دونالد ترامب، فإنه قد فشل في تحقيق مبتغاه، في حين أنه قد ضاعف من الأزمة الإنسانية في اليمن، عبر قطعه لخطوط إمداد المساعدات، وعبر إيقاعه أعداد مرتفعة من الضحايا في صفوف غير المحاربين، بما لا يمكن تبريره.
فالهمّ السعودي والإماراتي الأول في واشنطن هو أن تتمكن إدارة الرئيس ترامب من تجاوز اعتراضات الكونغرس وأن تقدم الدعم الميداني والإمداد بما يتيح للتحالف العربي الانتصار في اليمن. أما الهمّ الثاني هنا لكل من السعودية والإمارات فهو أن تسمح الولايات المتحدة بتحركهما المشترك ضد قطر، أو على الأقل أن تلتزم موقفاً حيادياً إزاء مضاعفتهما للضغوط الاقتصادية والسياسية والإمدادية لإرغام الدوحة على الانكسار. أما من وجهة النظر القطرية، فالهمّ الأعلى هو الرغبة المعاكسة، أي المحافظة على المظلة الأميركية المعترضة للخطوات العدائية السعودية الإماراتية. ففي هذه الدول الثلاث، وفي غيرها في عموم المنطقة، الشأن الكوري الشمالي بحد ذاته ليس ذا اعتبار، فالإشادة بالإنجاز المفترض في سنغافورة هي وسيلة متوفّرة دون تحفظ، ودون كلفة، لتمتين العلاقة المرجوة مع إدارة الرئيس ترامب.
أما في الإعلام العربي المعادي للولايات المتحدة، فالغالب عند تقييم خطوات الرئيس ترامب ومواقفه وصولاً إلى لقاء القمة مع الزعيم الكوري الشمالي في سنغافورة، هو التشديد على المناورات الوصولية والتي تراوحت من التهديد المدوي بالنار والغضب، إلى الوعود الناعمة بالحماية والدعم، ومن الإلغاء المباغت للقاء المرتقب إلى العودة المفاجئة كذلك إليه، بما يحفظ للرئيس الأميركي اليد العليا، وذلك كله في سياق التشديد على أن الولايات المتحدة متعنتة في فرضها لمشيئتها وملتزمة فقط بمصالحها. البعض، في هذا الإعلام المعادي للولايات المتحدة، تناغم مع الموقف الإيراني القائل بأن هذا الرئيس الأميركي حديث العهد بالسياسة ويفتقد لسلامة الرأي. ولكن حتى عند الجنوح إلى هذا التصوير، فإن الميل كان بالإبقاء على التأكيد على خبث الولايات المتحدة إذ تحكمها، وفق هذا القول، «الدولة العميقة» والتي تتأصل فيها النوايا السيئة. وهدف الإقرار السريع للاتفاق النووي مع كوريا الشمالية، وفق كافة هذه القراءات، هو الانتهاء من قضية دولية شائكة، أي التوتر في شبه الجزيرة الكورية، أو التخفيض من حدتها، وذلك لحصر الاهتمام والجهود بقضية أخرى، أي إيران تحديداً. فالإشارات التي وردت على لسان الرئيس الأميركي بشأن إيران خلال مؤتمر الصحافي في سنغافورة لم تكن عرضية على الإطلاق. بل إن الهدف النهائي من لقاء كيم جونغ أون هو تحسين موقع الولايات المتحدة في عدائها لإيران.
والآراء السياسية العربية قد ذهبت في اتجاهين متعارضين حول المقتضى من لقاء القمة الأميركي الكوري الشمالي. الأوساط المعادية للولايات المتحدة اعتمدت النصيحة الإيرانية لكوريا الشمالية بألا تثق بالولايات المتحدة، والتي إذ أخلّت بتعهداتها وفق الاتفاق مع إيران، لن تفي بالتزاماتها ضمن الاتفاق الجديد مع كوريا الشمالية. أما الإعلام المدعوم من حلفاء الولايات المتحدة فقد توجه بالتنبيه إلى إيران حول وجوب السير على خطى كوريا الشمالية والإقرار بمتوجبات التصميم والعزم لدى الرئيس الأميركي الجديد.
قليل ما وردت في الإعلام والسياسة في الوسط العربي مساءلة لهذا النجاح المفترض لدونالد ترامب هل نتج عن لقاء سنغافورة بالفعل إنجاز ملموس، وهل بيان اللقاء قد أرسى بالفعل، فيما يتعدى النوايا المبهمة، عملية نزع سلاح نووي؟ لا تصوير ترامب على أنه قد استدرج من خصم فاقه دهاءاً، ولا أنه نمر من ورق يسوّق انتصارات وهمية لأغراضه السياسية، من القراءات المفيدة، لا للمواقف المؤيدة للسياسة الأميركية إزاء إيران، ولا المعارضة لها. فبالنسبة للمؤيدين للولايات المتحدة إثارة قراءات من هذا النمط يشتت القدرة على استنهاض تأييد واشنطن لقضاياها، فيما بالنسبة للإعلام الداعم للموقف الإيراني، تضعف هذه القراءات الزخم للتعبئة لمواجهة الغطرسة والاستكبار والقوة الغاشمة، والمنسوبة للولايات المتحدة. بل والتقييم الراجح لدى وسائل الإعلام العربية هي أن المتابع العربي غير معني بتفاصيل من واشنطن ذات دوافع وأبعاد محض داخلية أميركية. فبالنسبة لأصحاب القرار، وبالنسبة للمولجين بتعميم الآراء بشأنه، في كل من المعسكرين الموالي والمعادي للولايات المتحدة، فيما يتعلق بهذه المقايضة التي أطاحت باتفاق نووي ونصّبت آخر، التوافق متحقق حول اعتماد مقولة «ترامب المنتصر».