- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تحت شعار "الأخلاق"... خطاب الأخلاق وحرية التعبير في العراق
على مدار السنوات القليلة الماضية، تزايد قلق الكثير من العراقيين إزاء القيود التي تفرضها السلطات على وسائل الإعلام، والتي شملت حظر العديد من التطبيقات والمنصات الإلكترونية والمواقع الإخبارية.
منذ عام 2003، يزداد قلق العراقيون بشأن القيود المفروضة من قبل السلطات العراقية، في حظرها لعدد من التطبيقات والمنصات الإلكترونية والمواقع الصحفية. تًشكل تلك الخطوات الحكومية ازدواجية واضحة بين هدفها المعلن في مجال تحول البلاد الرقمي، وما بين الإجراءات التي تقوم بها وزارة الاتصالات لتضييق نطاق التواصل العام في العراق. وعلى الرغم من كفالة الدستور العراقي الذي صُوت عليه عام 2005، لحرية التعبير والنشر، إلا أنه ليس هناك إطار واضح وقانوني يحمي تلك الحريات، ما يترك الباب مفتوحاً أمام السلطات لاستخدام تلك القوانين كأداة قمع لحرية التعبير، تحت ذريعة المحتوى الهابط أو تهديد الأمن القومي أو سبُّ النظام ورموز الدين. وفي الآونة الأخيرة، تداول العراقيون تصريحات وزارة الاتصالات المتكررة حول عزمها حظر تطبيق "تيكتوك"، الذي يُعدّ من أشهر منصات التواصل الاجتماعي في العراق، وذلك بسبب ما تصفه الوزارة بـ"المحتوى الأخلاقي غير اللائق". بيد أنّ هذه الرقابة الأخلاقية نفسها كثيراً ما تستهدف المنصات التي يعتمد عليها العراقيون في مناقشة قرارات الحكومة وانتقادها.
مؤخراً، أعادت وزيرة الاتصالات العراقية، هيام الياسري، إحياء الجدل حول احتمال حظر تطبيق "تيكتوك"؛ وهو ملف مثير للجدل طُرح قبل أكثر من عام، عندما أعلنت الوزيرة عن تقديم طلب إلى مجلس الوزراء لحظر التطبيق. وقد قدّمت الوزيرة آنذاك مبرراً مفاده أن التطبيق يساهم بشكل كبير في تفكك النسيج الاجتماعي العراقي. وقد أعادت الوزيرة طرح هذا النقاش حول الحظر في الساحة العامة، حيث أكدت في الخامس من نيسان/أبريل أن وقف تطبيق "تيكتوك" يتطلب قراراً برلمانياً، وأنها أرسلت طلباً إلى البرلمان العراقي في هذا الشأن، غير أنها لم تتلقَّ رداً حتى الآن. وبالرغم من أنه من غير المرجح أن يتخذ البرلمان خطوة نحو إقرار مثل هذا القرار غير الشعبي، فإن موقف وزارة الاتصالات لا يزال يثير القلق.
من الجدير بالذكر إن هذه الدعوات لحظر تطبيق "تيكتوك" موجودة أيضاً في الولايات المتحدة، لكن الاختلاف في طبيعة الحظر المقترح يعكس بوضوح تباين الأولويات والسياقات السياسية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تستند المطالبات بالحظر في الولايات المتحدة إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي، وليس إلى الاعتبارات الأخلاقية كما هو الحال في العراق. وتتركز المخاوف الأمريكية على احتمال أن تستخدم الحكومة الصينية المنصة لأغراض تجسسية، أو أن تؤثر سلباً على أمن البيانات الأمريكية. لذلك، يتمحور النقاش في الولايات المتحدة حول قضايا الأمن القومي، وليس حول ما يُصنَّف بأنه محتوى غير أخلاقي.
في العراق، تُهدِّد الانتقادات الرسمية للتطبيق بإغلاق منصة يُنظر إليها على نطاق واسع كوسيلة للتعبير والترفيه، في بلد يشهد قيوداً متزايدة على حرية التعبير. وقد ونشرت وزارة الاتصالات العراقية في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 على موقعها الرسمي بيان أشارت فيه إلى أن الوزارة لا تقوم بحجب أي موقع وفقاً لأمزجة أو اجتهادات شخصية، إنما تنفيذاً لما يردها رسمياً من مؤسسات الدولة المعنية وتنفيذاً لما ورد في قرار المحكمة الاتحادية العليا وقرار مجلس النواب الموقر المتضمن حجب المواقع الإباحية.
غير أن الحكومة العراقية تمتلك سجلًّا حافلاً في حجب المنصات بهدف تقييد الأصوات المعارضة والحد من حرية التعبير السياسي. فقد اتخذت السلطات العراقية في وقتٍ سابق قرارات بحجب منصات مثل "فيسبوك" و"إنستغرام" و"X " خلال احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019، مما عزّز الشكوك في أنّ محاولات الحظر تتعلق بتقييد الحريات والحد من الوصول إلى المعلومات. و في ظل التضييق المتزايد على وسائل الإعلام المحلية، بات العراقيون يعتمدون على تطبيق "تيكتوك" بشكل واسع كمنصة أساسية للتعبير عن آرائهم السياسية وتداول الأخبار.
وخلال العقدين الماضيين، تعرض عدد كبير من الصحفيين والمدونين والناشطين السياسيين بداخل العراق إلى حملات ممنهجة من القتل والتهديد والاعتقال من قبل جهات مسلحة معروفة وغير معروفه، بسبب نشاطهم الصحفي أو تعبيرهم عن آرائهم بشكل صريح وجريء، مما اضطروا إلى مغادرة البلاد بحثاً عن بيئة أكثر أماناً تكفل لهم مزاولة عملهم بحرية. وامتدت هذه الحملة على مدار عقد كامل، بما في ذلك موجة من الصحفيين الذين غادروا البلاد عام 2015، بعد تعرضهم للترهيب والتهديد بالقتل، نتيجة انتقادهم لبعض القوى السياسية الحاكمة أو النافذة في البلاد.
في مقابلة مع الكاتب، وصف حيدر حمزوز من مؤسسة أنسامللحقوق الرقمية الإعلانات بأنها تمثّل عودةً من الوزارة إلى "حجب العديد من المواقع الإلكترونية غير الإباحية التي تقدم خدمات مهمة لمستخدمي الإنترنت وأن هذه الإجراءات التي تم تنفيذها دون استشارة واضحة أو توفير معلومات دقيقة حول الأسباب الموجبة لها، أثرت بشكل سلبي على العديد من القطاعات الاقتصادية والتعليمية والثقافية، مما أوقع المواطن العراقي في حالة من الإحباط والضيق." وأكد حمزوز مدى التأثير الواسع لهذا الحظر على المجتمع العراقي، قائلاً: "من هذا المنطلق، نؤكد على ضرورة إعادة النظر في هذه الإجراءات وضرورة ضمان حرية الوصول إلى المعلومات التي تعد حقاً أساسياً لكل مواطن في عصر المعلومات، إذ يعد حجب الإنترنت انتهاك صارخ لحق من حقوق الإنسان الرقمية".
كما أكد الصحفي الاستقصائي والباحث المستقل صفاء خلف في مقابلة مع الكاتب: "أن حق الوصول إلى الأنترنت مضمون دستورياً ضمن حرية الإعلام والتعبير وحق الوصول للمعلومة، بالتالي ما تقوم به وزيرة الاتصالات هي جريمة وطنية تستوجب تحرك المجال العام (المجتمع الأهلي والمجتمع المدني المنظم الذي تمثله المنظمات غير الحكومية الفاعلة)، فضلاً عن تحرك المؤسسات الوطنية الضامنة أو الحارسة للحقوق الدستورية مثل القضاء والادعاء العام. في حين تكون المؤسسة الرقابية التشريعية مسؤولة بشكل مباشر عن محاسبة الوزارة/الوزيرة عبر آلية الرقابة والمحاسبة النيابية، وهذا يستوجب حراكاً واسعاً للتعريف بخطورة خطوات تقييدية مثل هذه الخطوة".
سلط خلف الضوء على الاستخدام المتزايد للمخاوف الأخلاقية لتبرير قيود حرية التعبير في العراق؛ فحراسة أخلاق المجتمع والآداب العامة "هي ذريعة باتت صاعدة في ظل محاولة فرض أجندة دينية على المجتمع. بالنتيجة، لابد أن يبادر المجال العام لوقف تعزيز سلوكيات مصادرة حرية التعبير. هناك مخاطر هائلة تحيط بمثل هكذا نوع من السياسات الاستبدادية، النظام والجماعات يحاولون نسخ تجارب مهينة للجمهور مثل التجربة الإيرانية والسورية، في مراقبة الفضاء العام وفرض أنماط منسجمة مع خطاب الدولة / النظام، وغالباً ما تنتج رفضاً مضاداً يؤدي إلى انفجار شعبي يهدد النظام بالنهاية".
من الواضح أن هناك أسباباً متعددة وراء تقييد السلطات للحريات الفردية في البلاد، حيث تلعب دور المراقب وتمنع الأفراد من الوصول إلى المحتوى أو المنصة التي يختارونها. تزداد هذه القيود مع هيمنة بعض الأحزاب وتدخلها في عملية صنع القرار، وذلك بهدف حماية مصالحها وتقويض أي انتقادات موجهة إليها، أو أي تعليقات تتعارض مع توجهاتها. تخشى السلطات الحاكمة، على وجه التحديد، تكرار الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد على مدى سنين متعددة، ولذلك تلجأ إلى تقييد حرية التعبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمنع أي تحركات احتجاجية قادمة. لقد لعبت منصات التواصل الاجتماعي في الاحتجاجات الشعبية السابقة دوراً بارزاً في تمكين الشباب المتظاهرين من نشر الأخبار اليومية عن المظاهرات وكشف القمع الذي يتعرضون له يومياً، على الرغم من قطع السلطات للإنترنت وتقييد النشر في ذلك الوقت.
إن التراجع الحاد بشعبية النظام الحاكم والجماعات المسلحة والأذرع السياسية المرتبطة بها، كما يتحدث خلف، يدفعه إلى فرض هيمنة مفرطة على فضاء التعبير بكل أشكاله في العراق. ترك الفضاء مفتوحاً أمام الجمهور، يعني بالضرورة نمواً متوقعاً على الناس على التعبير عن مطالبهم وزيادة مساحة نقد النظام وتفكيك خطابه وسرديته والرد عليها وهذا ما يقلق النظام الحاكم ونخبته السياسية. ونظرا لان أي خطاب تحاول جماعات النظام تسويقه سيتم مواجهته بخطاب مضاد من قبل الجمهور إذا تم الاحتفاظ بالوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، فإن تقليص هذا الوصول سيصبح أمراً ملحاً بشكل متزايد.
وبغض النظر عن النتيجة النهائية لحملة وزارة الاتصالات ضد تطبيق "تيكتوك"، فإن مخاوف العراقيين من استمرار فرض القيود على حرية التعبير تسلط الضوء على التآكل الذي حدث بالفعل في هذه الحريات. يشعر الجمهور العراقي بقلق متزايد إزاء مراقبة أنشطته على الإنترنت، مما يدفعه إلى استخدام الشبكة الافتراضية الخاصة (VPN) على نطاق واسع لتجنب المراقبة والاستهداف. إلا أن هذه الإجراءات ليست آمنة، مما يعرض بيانات المواطنين للخطر من سوء استخدامها. وعليه، فإن القرارات التي تتخذها السلطات العراقية، بما فيها وزارة الاتصالات، لا تخدم مصالح المواطنين، بل تشكل خطراً على بياناتهم الشخصية ومصالحهم العامة.
ريثما تتوقف سلطات الاتصالات العراقية عن التركيز على ذريعة "الأخلاق" وتعمل بدلاً من ذلك على تعزيز حرية التعبير التي يكفلها الدستور، سيخسر الإنترنت العراقي مساحات مهمة للنقاش العام. وقد قامت منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية بدورها من خلال الدعوة والضغط من أجل إصلاح هذه السياسات، وتقديم الدعم اللازم للعراقيين الذين ناضلوا لسنوات طويلة من أجل التمتع بالحرية وحقهم المشروع في الوصول الحر والآمن إلى المعلومات، غير أنه يبقى على الحكومة مسؤولية تنفيذ هذه الحقوق والحريات.