- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كوريا الجنوبية وحملة توطين الدفاع في الشرق الأوسط: توافق استراتيجي جديد
بفضل استعداد كوريا الجنوبية لنقل التكنولوجيا، وإبرام ترتيبات الإنتاج المحلي، وتبني شراكات سياسية مرنة، باتت البلاد بديلا جذابا عن الموردين الغربيين والروس، مما يفتح فرصاً وتحديات تنافسية أمام السياسة الأمريكية في المنطقة.
شهد الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة نمواً متسارعاً في سوق الدفاع. إذ ضخت دول مثل السعودية والإمارات العربية المتحدةمليارات الدولارات في برامج لتوطين الصناعات العسكرية ضمن مبادرات طموحة مثل "رؤية السعودية 2030" و"برنامج التوازن الاقتصادي" الإماراتي. ولا يقتصر الهدف الرئيس لهذه البرامج على بناء صناعة دفاع محلية وتنويع مصادر الإمداد العسكري فحسب، بل يسهم أيضاً في خلق فرص عمل جديدة، وتحفيز نقل التكنولوجيا، وتقليل الاعتماد على موردي الأسلحة التقليديين.
وقد برزت كوريا الجنوبية كشريك مثالي بشكل لافت لهذه المبادرات، إذ طورت صناعتها الدفاعية ووسعتها بسرعة، وأظهرت كفاءة تقنية ورغبة حقيقية في توطين الإنتاج. من خلال مجموعة واسعة من العروض تمتد من المدفعية والمركبات المدرعة إلى الطائرات المسيرة والمنصات البحرية، تسعى كوريا الجنوبية لترسيخ موقعها كشريك موثوق وفعال من حيث الكلفة في التعاون الدفاعي، مع قدر أقل من القيود السياسية مقارنة بالموردين الغربيين والروس. ويُعد هذا التقاطع بين رغبة دول الشرق الأوسط في توطين الإنتاج وطموحات كوريا الجنوبية في تصدير الأسلحة عاملاً مهماً يؤثر في الاستقرار الإقليمي وفي سياسة الولايات المتحدة على حد سواء.
صعود كوريا الجنوبية كدولة مصدرة للدفاع
شهدت صناعة الدفاع في كوريا الجنوبية تطوراً ملحوظاً على مر السنين. ففي عام 2022، وقعت سيول عقداً دفاعياً ضخماًلتوريد دبابات وقطع مدفعية إلى بولندا، كما حققت نجاحات بارزة في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، إذ وقعت شركات كورية جنوبية، بما في ذلكشركات مثل "هانوا ديفنس" و "هيونداي روتم " و"كيا"، عقوداً مهمة مع عملاء في المنطقة. فقد أبرمت شركة "هانوا" صفقة بقيمة 1.7 مليار دولار لتوريد مدافع "هاوتزر" إلى مصر في شباط/ فبراير 2022، وعقداً بقيمة 3.5 مليار دولار لبناء نظام صاروخي مع الإمارات العربية المتحدة في كانون الثانى/يناير 2022، واتفاقية بقيمة 3.2 مليار دولار للدفاع الجوي مع المملكة العربية السعودية في تشرين الثانى/نوفمبر 2023. هذه الصفقات جذابة للمشترين في الشرق الأوسط ليس فقط بسبب المعدات العسكرية، ولكن أيضاً بسبب انفتاح كوريا الجنوبية على الإنتاج المحلي والتطوير المشترك. على سبيل المثال، تشمل العقود الأخيرة التي وقعتها شركة "هانوا إيروسبيس" مع بولندا ورومانياالتجميع المحلي ونقل التكنولوجيا، مما يعكس توجه كوريا الجنوبية نحو دمج الإنتاج المشترك ضمن استراتيجيتها لتصدير الأسلحة.
لا تطبق سيول رقابة شاملة على الاستخدام النهائي ولا تفرض قيوداً سياسية على المشترين كتلك التي تفرضها واشنطن على استخدام أنظمة الأسلحة الأمريكية في مناطق النزاع. وهي ليست شريكاً غير موثوق يخضع لعقوبات غربية مثل روسيا، التي واجهت تحديات في صادراتها الدفاعية منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، أو الصين، التي تواجه قيوداً أمريكية على الصادرات وحظراً على المكونات ذات الاستخدام المزدوج. وبدلاً من ذلك، تقدم كوريا الجنوبية أنظمة عالية الجودة بأسعار معقولة، وتتمتع بمرونة في تلبية متطلبات المشترين المتعلقة بالتعويض أو التوطين.
التوافق مع جهود التوطين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تدعو "رؤية السعودية 2030 "إلى توطين ما لا يقل عن 50 % من الإنفاق الدفاعي بحلول عام 2030. في حين يهدف برنامج "التوازن" الإماراتي إلى بناء صناعة دفاعية محلية قادرة على تصدير الأسلحة على المدى الطويل. ولا يقتصر التوطين بالنسبة لهذين البلدين على تحقيق الاستقلال العسكري فحسب، بل يرتبط أيضاً باكتساب الشرعية السياسية من خلال إنشاء صناعة عالية التقنية توفر فرص عمل، وتنتج المعرفة، وتقلل من الاعتماد على موردي الأسلحة الخارجيين.
وتتمتع صناعة الدفاع الكورية الجنوبية بموقع متميز يتيح للسعودية والإمارات تحقيق هذه الأهداف، إذ تمتلك نموذجاً للأعمال موجهاً نحو التصدير، فضلاً عن خبرة واسعة في نقل التكنولوجيا والتجميع المحلي من خلال مشاريع في أوروبا وآسيا. علاوة على ذلك، اتبعت كوريا الجنوبية مسار "القوة المتوسطة"، فطورت صناعتها الدفاعية عبر الشراكات الصناعية والتراخيص والإنتاج المشترك. ومن الأمثلة البارزة على ذلك التعاون بين شركة"كيا" وشركة "لوكهيد مارتن" في تطوير وتصنيع طائرة T– 50 النفاثة، وإنتاج سيول لأنظمة أسلحة أمريكية مثل دبابات M48 والطائرات المقاتلة F– 5 بموجب ترخيص، فضلاً عن الإنتاج المشترك لمدافع K9 مع بولندا، مما يعكس نهجاً تدريجياً في التصنيع. وتنسجم هذه النماذج مع ما يسعى صانعو السياسات في السعودية والإمارات إلى محاكاته.
وبالمثل، وافقت مصر على إنتاج قطع المدفعية K9 التابعة لشركة "هانوا ديفنس" ، إذ أظهرت صفقات كوريا الجنوبية مع تركياوبولندا كيف يمكن تكييف هذا النظام مع الصناعة المحلية. على سبيل المثال، وبحسب الاتفاقية التي أبرمتها القاهرة مع سيول في عام 2022، لم توفرشركة هانوا" قطع المدفعية K9A1 EGY فحسب، بل وافقت أيضاً على إنتاجها في المصنع العسكري 200خارج القاهرة، ونقلت تكنولوجيا التحكم في إطلاق النار إلى الشركة العربية العالمية للبصريات المصرية – الفرنسية. وقد أجرت السعودية محادثات مع مجموعة "هانوا" بشأن إنشاء مشاريع مشتركة، ليس بهدف الشراء فحسب، بل أيضاً لتمكين الإنتاج المحلي واستخدام منتجات "هانوا" ضمن منظومتها الدفاعية. وفي الوقت نفسه، أبدت الإمارات اهتماماً بتقنيات الطائرات بدون طيار والصواريخ الكورية الجنوبية التي تطورها شركات مثل"هانوا سيستمز و"هانوا أيروسبيس" و"LIG Nex1 "، والتي يمكن دمجها ضمن شركات الدفاع الإماراتية الممولة من برنامج التوازن.
التداعيات على الاستقرار الإقليمي
يمثل الدور المتنامي لكوريا الجنوبية في تصدير الأسلحة خياراً جذاباً للمشترين في الشرق الأوسط الذين يسعون إلى مواجهة القدرات المتزايدة لإيران في مجال الطائرات بدون طيار والصواريخ. أولاً، سيساعد شراء الأسلحة من سيول تلك الدول على تنويع الموردين، مما يتيح لكل من المشتري والبائع تقليل الخضوع لقانون مراقبة تصدير الأسلحةالأمريكي ومراجعة نقل الأسلحة من قبل السلطة التنفيذية. كما يوفر ذلك حماية من تدابير مراقبة الصادرات الأوروبية، وعلى رأسها الحظر الألماني على مبيعات الأسلحة الجديدة إلى السعودية. إضافة إلى ذلك، تتميز أنظمة الأسلحة الكورية الجنوبية بتوافقها مع المنصات الغربية.
ثانيا، يعكس نهج سيول في هذا المجال الاستراتيجيات الموجهة نحو التصدير التي تتبعها الشركات الكورية الجنوبية، والتي تركز على التنافسية من حيث التكلفة والتكنولوجيا والإنتاج المحلي. وتعد سيول صادراتها الدفاعية أداة للمشاركة الاقتصادية والدبلوماسية، لا وسيلة للضغط الجيوسياسي، إذ تقدم دعمها في إطار استراتيجيتها كدولة محورية عالمية. ونتيجة لذلك، تسهم صادرات الأسلحة الكورية الجنوبية في تعزيز الشراكات الدولية دون التسبب في الاضطرابات التي عادة ما تصاحب عمليات نقل الأسلحة لأغراض سياسية.
في المقابل، تشترط روسيا في مبيعات أسلحتها وجود مستشارين عسكريين والتزامات جغرافية، مثل الانتشار في سوريا أو مالي، أو اتفاقيات التعدين والقواعد العسكرية في جمهورية أفريقيا الوسطى أو السودان. وبما أن كوريا الجنوبية تحافظ على علاقات جيدة مع كل من الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط الرئيسية مثل مصر والسعودية والإمارات، فإنها تستطيع البيع دون الانخراط في سياسات المحاور والتحالفات.
ثالثاً، يمكن أن تساهم الأنظمة الكورية الجنوبية المنتجة محلياً في تعزيز الردع. على سبيل المثال، تساعد قدرات المدفعية والدفاع الجوي المطورة عبر شراكاتها في الشرق الأوسط على التصدي لتهديدات الصواريخ والطائرات المسيرة من الفاعلين غير الحكوميين أو المنافسين الإقليميين. ومن الأمثلة على ذلك قيام شركة "هانوا إيروسبيس"بتزويد مصر بـمدافع K9 وسعيها إلى إقامة إنتاج محلي مع السعودية، فضلاً عن جهود شركة " LIG Nex1" و"هانوا" في تطوير برنامج الدفاع الجوي M– SAM مع الإمارات.
الآثار المترتبة على سياسة الولايات المتحدة
بالنسبة لصانعي السياسات في واشنطن، تمثل البصمة المتنامية لكوريا الجنوبية في صناعة الدفاع بالشرق الأوسط فرصة وتحدياً في الوقت نفسه. فمن جهة، يمكن لسيول أن تدعم الأهداف الأمريكية عبر تعزيز متانة تحالفات الخليج، وتحسين تقاسم الأعباء الدفاعية، وضمان عدم انجراف جهود التوطين نحو الموردين الصينيين أو الروس. وفي الوقت ذاته، يضع توسع كوريا الجنوبية في الشرق الأوسط صناعتها الدفاعية في منافسة مباشرة مع الصين، التي سعت لسنوات إلى تقديم بدائل منخفضة التكلفة. وعلى عكس المنصات الصينية، تتوافق أنظمة الأسلحة الكورية الجنوبية مع المعايير الغربية، وتُرفق باتفاقيات نقل تكنولوجيا، وتتيح للمشترين تجنب الإشكالات السياسية التي تحيط بالصادرات الدفاعية الصينية. وقد مكنت هذه الجودة والموثوقية سيول من الفوز بعقود في دول مثل مصر والإمارات والسعودية، بينما واجهت بكين صعوبة في توفير الصيانة طويلة الأجل ودعم التحديث.
من ناحية أخرى، يجب على واشنطن أن تدرك أن البراغماتية التي تنتهجها سيول تشكل جزءاً من منافسة جيوسياسية أوسع نطاقاً. وإذا لم تنو الولايات المتحدة تلبية الطلب المتزايد على التوطين، فإن كوريا الجنوبية ودولاً أخرى ستسعى إلى سد هذا الفراغ. وهذا يستوجب من واشنطن التفكير بطريقة أكثر ابتكاراً في كيفية دمج حلفائها، ومن بينهم كوريا الجنوبية، في هيكلها الأمني بالشرق الأوسط. ويمكن لمبادرات مثل مشاريع الإنتاج المشترك بين الولايات المتحدة وكوريا في السعودية، أو المحادثات الدفاعية الثلاثية مع دول الخليج، أن تضمن التكامل بدلاً من التنافس.
خاتمة
يرتبط صعود كوريا الجنوبية كمصدرٍ للأسلحة الدفاعية ارتباطاً وثيقاً برغبة دول الشرق الأوسط في التوطين. ومن خلال توفير أنظمة موثوقة، وتعويضات مرنة، ونموذج شراكة مستمد من تجربتها التنموية الخاصة، أصبحت سيول شريكاً مثالياً يتماشى مع "رؤية السعودية "2030 وبرنامج "التوازن" الإماراتي.
وبناءً على ذلك، يجب على واشنطن أن تدرك أن صادرات سيول من الأسلحة إلى الشرق الأوسط لن تقتصر على إعادة تشكيل سوق الدفاع، بل ستؤثر أيضاً في هيكل الحوكمة الدفاعية الإقليمية. وإذا استُثمر هذا الاتجاه بحكمة، فقد يسهم في استقرار المنطقة ويتماشى مع مصالح الولايات المتحدة. وبينما تسعى دول الخليج إلى تنفيذ مشاريع طموحة للتوطين، تكشف كوريا الجنوبية أن مستقبل الدفاع في الشرق الأوسط لم يعد حكراً على الولايات المتحدة وأوروبا، بل يشمل أيضاً القوى المتوسطة.