
- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
بوسع الأكراد العراقيين الاضطلاع بدور الوساطة في عملية السلام بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني".

تشكل التطورات الأخيرة في عملية السلام بين "حزب العمال الكردستاني "وتركيا فرصة مهمة أمام الأحزاب الكردية العراقية لتعزيز الاستقرار في إقليم كردستان العراق الذي أنهكته الصراعات، وتمهد الطريق لإرساء سلام دائم.
في تطور لافت، أعلنت قيادة "حزب العمال الكردستاني "في 12 أيار /مايو أن الجماعة ستقوم بحل نفسها، ما قد يمثل نهاية لصراعها المستمر منذ أربعة عقود مع تركيا، وذلك بعد انطلاق عملية سلام بين زعيمها المسجون عبد الله أوجلان والدولة التركية في تشرين الأول / أكتوبر. ومع ذلك، فإن الكثير من هذا الصراع لم يحدث داخل تركيا، بل في العراق أيضا - وتحديداً في إقليم كردستان العراق -، حيث تخوض تركيا مواجهات مع "حزب العمال الكردستاني" منذ ثمانينيات القرن الماضي، في صراع هدد حياة المدنيين وأدى إلى نزوح داخلي وألحق أضراراً بالاقتصاد المحلي.
نظراً للدور المزعزع للاستقرار الذي يلعبه هذا الصراع في المنطقة، أبدى "الحزب الديمقراطي الكردستاني" حرصه على نجاح عملية السلام في تركيا، لأنها قد تُزيل ما يعتبره تجاوزاً من قبل "حزب العمال الكردستاني" على أراضي كردستان العراق. كما لعب كل من "الاتحاد الوطني الكردستاني" و "الحزب الديمقراطي الكردستاني " دور الوساطةفي عمليات السلام السابقة بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني".
وفى حين دخل " حزب العمال الكردستاني" جبال قنديل في كردستان العراق عبر اتفاق مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني " في عام 1982، وسّع الحزب لاحقاً وجوده خارج قنديل في التسعينيات، ودخل في صراع مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني "خلال الحرب الأهلية الكردية. وخلال العمليات العسكرية التركية عبر الحدود ضد "حزب العمال الكردستاني "في كردستان العراق، والتي تصاعدت منذ عام 2019، حيث وقعت اشتباكات وتوترات أيضا بين الحزبين في كردستان العراق، بما في ذلك اشتباكات بين حزب العمال الكردستاني والبيشمركة، وعمليات اغتيال، وحرائق في الأسواق، وهجمات بطائرات بدون طيار على قوات البيشمركة. كما أدى الصراع بين تركيا و "حزب العمال الكردستاني "إلى سقوط ضحايا مدنيين في كردستان العراق، من بينهم مقتل ثمانية سياح عراقيين في عام 2022جراء غارات تركية، ما أثار توترات دبلوماسية بين بغداد وأنقرة. وقد أثارت هذه الأحداث قلقاً عميقاً لدى" الحزب الديمقراطي الكردستاني "، مما دفعه إلى دعوة "حزب العمال الكردستاني" إلى العودة إلى جبل قنديل ومغادرة مناطق أخرى من كردستان العراق في عام 2021، معبّراً عن دعمه لمحادثات سلام جديدة مع تركيا في المقابل.
الدعم الشعبي والتطلعات نحو إنجاح عملية السلام
أعرب "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مرة أخرى عن دعمه لعملية السلام علناً ورحب بدعوة أوجلان في 27 شباط / فبراير إلى "حزب العمال الكردستاني" لنزع سلاحه"، وأعرب عن استعداد حكومة إقليم كردستان للمساهمة ولعب دور في دفع عملية السلام في تركيا، بما في ذلك عقد اجتماعات مع مسؤولين أتراك ودعوة رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو، أحد مهندسي عملية السلام السابقة، إلى منتدى أعضاء البرلمان الأوروبي في تشرين الثاني / نوفمبر. وقد زارت وفود "حزب المساواة والديمقراطية" الموالي للأكراد إقليم كردستان ثلاث مرات حتى الآن لنقل رسائل من زعيم "حزب العمال الكردستاني" أوجلان.
وأشار رئيس "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني في تصريحاته في15 أيار/مايو، إلى الفرص الاستثنائية التي تتيحها الجولة الحالية، قائلاً: "ندعم هذه العملية بكل إمكانياتنا، ونحن مستعدون للقيام بكل ما يُطلب منا. ما يحدث الآن يختلف بالفعل عن كل ما شهدناه في السنوات الماضية". هذه المرة، تُجمع مختلف الأطراف في تركيا، من السلطة والمعارضة، على ضرورة تسوية هذه القضية.
وشملت جهود "الحزب الديمقراطي الكردستاني" لإشراك جميع الأطراف المعنية في العملية، لا سيما من الجانب الكردي، عقد اجتماعات مع ممثلين عن الأكراد السوريين؛ ففي 16 كانون الثاني /يناير، التقى رئيس "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني بقائد "قوات سوريا الديمقراطية" الجنرال مظلوم عبده في أربيل، وهو لقاء ما كان ليتم لولا محادثات السلام الجارية في تركيا، وأثار فيه بارزاني مطالب تركيا بطرد "حزب العمال الكردستاني" من سوريا. كما أرسل رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني ورئيس "الحزب الديمقراطي الكردستاني" مسعود بارزاني ممثلين عنهما إلى احتفالات نوروز الكردية في مدينة ديار بكر ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا في 21 آذار /مارس، في بادرة دعم للعملية. من المحتمل أن يكون الرئيس نيجيرفان بارزاني قد لعب دوراً في تسهيل عقد الاجتماع الذي جرى في10نيسان/أبريل بين "حزب المساواة وديمقراطية الشعوب" والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
ومن شأن إنهاء الصراع بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني "في تركيا سلمياً أن يكون له أثر إيجابي عبر الحدود في كردستان العراق وما وراءها، فإنهاء الصراع المسلح سيسهم في إرشاء الاستقرار الإقليمي، ويعزز الاقتصادات الإقليمية، ويدعم أهداف سياسة إدارة ترامب الرامية إلى إحلال السلام وإنهاء "الحروب الأبدية " المحلية. ومن ثم، يأمل مسؤولو "الحزب الديمقراطي الكردستاني "في أن يؤدي انسحاب كل من "حزب العمال الكردستاني "والجيش التركي من إقليم كردستان إلى مزيد من الاستقرار في هذه المناطق الحدودية وإزالة نقطة التوتر بين تركيا والعراق.
وإذا تم طرد "حزب العمال الكردستاني " من مناطق في دهوك، فقد يساعد ذلك في نهاية المطاف على إنعاش الاقتصاد المحلي والسياحة الداخلية في هذه المناطق الحدودية، التي تزخر بالأنهار الجبلية الباردة. إذ تم إجلاء أكثر من 400 قرية في محافظة دهوك بسبب الصراع. وقد جذبت مناطق في محافظة دهوك السياح من أجزاء أخرى من العراق خلال أشهر الصيف الحارة، مثل جيلي شيران بالقرب من أميدي، على الرغم من الصراع النشط بين "حزب العمال الكردستاني "وتركيا في المنطقة.
منذ عام 2019، وسعت تركيا أيضاً قواعدها ومواقعها العسكرية التي يزيد عددها على 200 موقع عسكري (تقع في الغالب قرب مناطق نفوذ "الحزب الديمقراطي الكردستاني" في إقليم كردستان) وصعدت من غاراتها الجوية باستخدام الطائرات بدون طيار. وعندما ينسحب "حزب العمال الكردستاني" من هذه المناطق، فإن التنسيق بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" وتركيا، وكذلك بين بغداد وتركيا، لتسليم هذه القواعد إلى قوات البيشمركة أو قوات حرس الحدود العراقية، سيسهم في إزالة نقطة خلاف في العلاقات التركية – العراقية. في السابق، دعت بغداد إلى إخراج كل من الجيش التركي و"حزب العمال الكردستاني" من الأراضي العراقية، ووعدت تركيا بتسليم قاعدة بعشيقة في نينوى إلى العراق العام الماضي. وقد يساعد انتفاء الحاجة العملياتية من جانب تركيا في تسريع هذه العملية.
معالجة قضية تسريح وإعادة إدماج مقاتلي "حزب العمال الكردستاني"
ومع ذلك، فإن السؤال الأهم هو كيفية تسريح حوالي 5000مقاتل مسلح من "حزب العمال الكردستاني" في كردستان العراق، حيث لا يزال من غير الواضح إلى أين سيتجه قادة ومقاتلو الحزب في المستقبل إذا تم نزع سلاحهم. وقال أحد مسؤولي "الحزب الديمقراطي الكردستاني ": "إذا بقي جميع هؤلاء المقاتلين في كردستان، أو سلموا أنفسهم، أو ذهبوا إلى أوروبا، فهذا أمر لا أعرفه ". في هذه الحالة، يمكن لكل من "الحزب الديمقراطي الكردستاني "و "الاتحاد الوطني الكردستاني "، الحزب الآخر المهيمن في إقليم كردستان العراق، أن يلعبا دوراً في استضافة كوادر "حزب العمال الكردستاني" السابقين الذين تم تسريحهم في المناطق التي يسيطران عليها، لا سيما وأنهم غالباً ما لا يملكون وثائق قانونية تتيح لهم السفر إلى الخارج.
يمكن أن يلعب "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" دوراً في عملية نزع السلاح، من خلال نقل الأسلحة الثقيلة التي بحوزة "حزب العمال الكردستاني" إلى قوات البيشمركة التابعة لهما. وقد أشارت وسائل الإعلام التركية بالفعل إلى أن نزع سلاح "حزب العمال الكردستاني" يمكن أن يتم تحت إشراف مشترك من حكومة إقليم كردستان وتركيا.
وتتمتع هذه الأحزاب ببعض الخبرة في إدارة عمليات نزع سلاح الجهات الفاعلة غير الحكومية في أراضيها، كما هو الحال مع الأحزاب الكردية الإيرانية التي فرت من إيران بعد الثورة الإسلامية في عام 1979 إلى إقليم كردستان العراق، وسلمت أسلحتها إلى البيشمركة بموجب اتفاقية الأمن الإيرانية– العراقية الموقعة في آذار / مارس 2023. ويمكن اتباع نموذج مماثل مع "حزب العمال الكردستاني "، من خلال إخراج عناصره من المناطق الحدودية والجبال وتوطينهم كمدنيين في مخيمات مؤقتة، مع استبدالهم بأفراد من قوات البيشمركة الكردية التابعة لحرس الحدود العراقي.
وفيما يتعلق بالمكان النهائي لإقامة هؤلاء المقاتلين السابقين، يمكن لـ"الاتحاد الوطني الكردستاني" و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" منحهم بطاقات إقامة تتيح لهم الاندماج في المجتمع المحلي والعثور على فرص عمل في الاقتصاد المحلي. يوجد بالفعل ما لا يقل عن مئات من قادة ومقاتلي "حزب العمال الكردستاني "السابقين (بالإضافة إلى مقاتلي "قوات سوريا الديمقراطية " السابقين (الذين يعيشون في إقليم كردستان العراق، حيث وجدوا أدواراً في القوات العسكرية الكردية العراقية، وكذلك وظائف مدنية، بما في ذلك في قطاعات مثل الإعلام والبناء والضيافة. فقد انضم بعضهم، مثل عزيز وايسي، وهو قائد سابق في "حزب العمال الكردستاني"، إلى قوات الأمن التابعة لـ"الحزب الديمقراطية الكردستاني"، بينما اختار آخرون الحياة المدنية، مثل عثمان أوجلان، شقيق عبد الله أوجلان، الذي عاش في مدينة كويا الخاضعة لسيطرة "الاتحاد الوطني الكردستاني" قبل وفاته وكان يدير حزبه السياسي الخاص. كما نجح أعضاء سابقون في "حزب العمال الكردستاني" في الحصول على اللجوء في أوروبا، وخاصة في ألمانيا.
قد يتمكن مقاتلو "حزب العمال الكردستاني" السابقون أيضاً من لعب دور في معالجة بعض التحديات التي سيخلفها هذا الصراع في المنطقة. فقد أدت الحرب بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني" إلى تشكيل حقول ألغام تقدر مساحتها بـ 96 ميلاً مربعاً في كردستان العراق، غالباً على بعد بضع مئات من الأمتار من القرى. ويمكن أيضاً توظيف مقاتلي "حزب العمال الكردستاني" السابقين للمساهمة في جهود إزالة الألغام. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى الدكتور سايت تشوروكايا (المعروف بالدكتور سليمان)، الذي يُعد من أبرز خبراء إزالة الألغام خلال حرب قوات البيشمركة ضد تنظيم "داعش"، ومقاتلاً سابقًا في "حزب العمال الكردستاني". فقد ساهم في إنقاذ حياة مئات من عناصر البيشمركة من خلال تفكيك الألغام، قبل أن يتوفى في مستشفى عام 2016 متأثرًا بجراح أُصيب بها نتيجة انفجار وقع في قرية تيشيراب. ومن بين الوكالات الأخرى التي يمكن أن تلعب دوراً في إزالة الألغام وكالة إجراءات الألغام في إقليم كردستان (IKMAA) و (MAG International)، وخبراء إزالة الألغام من قوات البيشمركة.
كما يجب إيجاد حل لمخيم اللاجئين الأكراد في مخمور، الذي يؤوي أكثر من 12 ألف كردي فروا من تركيا في التسعينيات، ويضم مقاتلين من "حزب العمال الكردستاني"، ويتعرض لقصف تركي منتظم. وقد يتمكن "الحزب الديمقراطي الكردستاني" من توظيف علاقته مع تركيا لتوفير خيار عودة آمنة للاجئين إلى تركيا، أو السماح لهم بالاستقرار في إقليم كردستان، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى إغلاق المخيم.
يأمل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" أيضاً أن تسهل عملية السلام تنفيذ اتفاق سنجار لعام 2020، المدعوم من الأمم المتحدة والذي تدعمه أيضاً الولايات المتحدة، لتطبيع الوضع في سنجار وإبعاد الجماعات المرتبطة بـ "حزب العمال الكردستاني"، أو دمج المقاتلين الأفراد في الشرطة المحلية. وقد وفّر وجود "حزب العمال الكردستاني" وتحالفه مع جماعات مرتبطة بـ"قوات الحشد الشعبي" المدعومة من إيران في سنجار مدخلاً إضافياً لإيران إلى العراق، وأسهم في توتر العلاقات بين العراق وتركيا. كما اتهمت تركيا إيران في السابق بدعم "حزب العمال الكردستاني ". وقد نشطت "وحدات مقاومة سنجار"، التي يُعتقدأنها تابعة لـ"حزب العمال الكردستاني"، في سنجار منذ عام 2014 خلال القتال ضد تنظيم "داعش" ودافعت عن الطائفة اليزيدية في هناك. وقامت تركيا بشكل منتظمباستهداف وقتل عدد من قادتها البارزين. ويمكن أن تسهم عملية سلام ناجحة في تهيئة الظروف لتنفيذ اتفاق سنجار، الذي يسعى إلى وضع إطار إداري واضح لهذه المنطقة المتنازع عليها بين أربيل وبغداد.
توفر عملية السلام الجارية في تركيا فرصة لترسيخ قدر أكبر من الاستقرار، ليس في تركيا فحسب، بل أيضاً في إقليم كردستان العراق، الذي تحمّل العبء الأكبر من القتال بين "حزب العمال الكردستاني" وتركيا منذ عام 2019. ويمكن أن تفتح هذه العملية الباب أمام حلول لسلسلة من القضايا هناك، بما في ذلك ملف اللاجئين الأكراد الفارين من تركيا والعالقين في مخيم مخمور، الذي يشكّل نقطة توتر مزمنة بين العراق وتركيا، إضافة إلى تنفيذ اتفاق سنجار. كما يمكن للأحزاب الكردية في العراق أن تضطلع بدور رئيسي في تسهيل عملية نزع سلاح مقاتلي "حزب العمال الكردستاني"، والمساعدة في إعادة دمجهم من خلال منحهم بطاقات هوية وإتاحة فرص الوصول إلى سوق العمل المحلي. وتدعم الأحزاب الكردية العراقية هذه المحادثات لأنها ترى في عملية السلام فرصة لإنعاش الاقتصاد المحلي وتنشيط السياحة، وإنهاء سيطرة "حزب العمال الكردستاني" على أراضٍ في كردستان العراق. ويمكن تعزيز هذا الزخم من خلال دعم وتشجيع الجهات المعنية الأخرى، بما في ذلك الفاعلين الدوليين مثل بعثة الأمم المتحدة في العراق، لضمان توفير البنية التحتية اللازمة في كردستان العراق، ووضع نهاية دائمة لهذا الصراع الذي امتد لعقود.
فلاديمير فان ويلجنبرغ هو المؤلّف المشارك في الكتاب الذي نُشر مؤخرًا "أكراد شمالي سوريا: الحكم والتنوع والصراعات."