
- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التصدعات المتزايدة في عبادة شخصية خامنئي

حتى الآن، كان المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، راضياً عن المقارنات التي يجريها أنصاره المتشددون بينه وبين علي بن أبي طالب، الإمام الشيعي المقدس الأول. ومن المفارقات أن الإصرار على عصمة خامنئي، إلى جانب رضاه الحالي عن المرونة الاستراتيجية والتنازلات السياسية، قد يسهم في تقويض ثقة قاعدته الأساسية من المتشددين.
علي بن أبي طالب (المعروف أيضاً بالإمام علي)، صهرُ النبي محمد، كان الخليفةَ الرابع في الإسلام، وقد حكم من عام 656 إلى عام 661م. منذ البداية، اعتقد الإمام علي وأنصاره أنه الأحقّ بخلافة النبي محمد، ورأوا أن من الظلم أن ينتظر حتى تنتهي ولاية ثلاثة من خلفائه قبل أن يتولى القيادة. وقد أدى الاعتقاد بأن النبي محمد أوصى لعلي بقيادة الأمة بعد وفاته إلى بروز الانقسام الأول في المجتمع الإسلامي، ولا يزال هذا الاعتقاد يشكل الركائزِ الأساسية للمذهب الشيعي حتى يومنا.
في عام 657م، اندلع الصراع بين علي ومعاوية، حاكم الشام من بني أمية، الذي رفض الاعتراف بخلافة علي، واتهمه بعدم تقديم المسؤولين عن اغتيال الخليفة السابق، عثمان بن عفان، إلى العدالة. وعندما وافق الإمام علي على التحكيم مع خصمه، انقلب عليه بعض أنصاره الأكثر تطرفا -الذين عرفوا لاحقا باسم الخوارج - واعتبروا هذا القرار خيانة لما رأوه من مبادئ الإسلام النقية. وفي النهاية، اغتاله أحد هؤلاء، (عبد الرحمن بن ملجم)، في عام 661م، معتقدا أنه قد خان قضية العدالة الإلهية.
وفى الوقت الراهن، أمضى علي خامنئي، المرشد الأعلى للنظام الإيراني، الذي يقدم نفسه بوصفه الزعيم الشرعي للعالم الإسلامي، أكثر من أربعة عقود يروج فيها لصورته كنظير للإمام علي، وقد حقق قبولا متزايدا لدى شريحة من الإيرانيين. وتزعم آلة الدعاية التابعة لخامنئي أنه يقتدي بجميع جوانب حكم الإمام علي، بما في ذلك منهجه في إدارة الدولة الإسلامية.
كما نشر خامنئي هذه الرسالة داخل مختلف وحدات القوات المسلحة الإيرانية، وسعى إلى ترسيخ التقاليد العسكرية العامة لإيران ضمن عقيدة تُنسب إلى علي بن أبي طالب، تبرر القتال ضد مسلمين يُعتقد أنهم انحرفوا عن "الإسلام الحقيقي". علاوة على ذلك، حرص المرشد الأعلى على أن تقوم دعاية "الحرس الثوري الإسلامي"-الميليشيا شبه العسكرية والأيديولوجية لخامنئي – بمقارنته علناً بالإمام الشيعي الأول. كما أبدى خامنئي ترحيبا بتشبيه أنصاره له بالإمام علي، على الرغم من اعتراض بعض الجماعات الدينية التي تعد ذلك تجديفا منافيا للإسلام.
وقد بلغ هذا التركيز ذروته بدءا من عام 2010، حين بدأ خامنئي في ترسيخ عبادة شخصية تقوم على فكرة أنه شبه معصوم، مثل الإمام علي. وادعى بعض أتباعه أنه قد نال "العصمة" - أي أنه لا يُخطأ بفضل العناية الإلهية-وهي مرتبة يُقال إنه بلغها بسبب تدينه وزهده الاستثنائيين. ومرة أخرى، رفض معظم علماء الشيعة هذا الادعاء واعتبروه تجديفا. ومع ذلك، أفضى هذا الزعم إلى صدور أمر بأن تطلق جميع القوات المسلحة الإيرانية على خامنئي لقب "الإمام"، وهو لقب مقدس في العقيدة الشيعية، مقصور حصريا على أحفاد النبي محمد الاثني عشر الذين يُعتقد أنهم منصبون من قبل الله.
وبينما رفض معظمُ الإيرانيين هذا الوصف، تبنت نواة أيديولوجية صغيرة، ولكن متطرفة داخل النظام – لا سيما في صفوف "الحرس الثوري الإيراني"- هذا الاعتقاد. وبدأ أتباع هذه العبادة الشخصية يُقدمون خامنئي على أنه امتداد شبه إلهي وشبه معصوم لتقليد الأئمة الشيعة، كما يتضح من المصطلحات المستخدمة في الحديث عنه وعن مقربيه. لم يكتف هؤلاء المتشددون بالإشارة إلى قائد قوة القدس التابعة لـ"لحرس الثوري الإيراني" الراحل قاسم سليماني باسم "مالك أشتر علي" (وهو قائد عسكري محترم وأحد أبرز وأوفى أصحاب الإمام علي)، بل إن رجال الدين الموالين لـ"لحرس الثوري الإيراني" ادعوا أن أول كلمات خامنئي عند ولادته كانت "يا إمام علي".
كما تُفسر عبادة الشخصية هذه حرب خامنئي على إسرائيل وشغفه بالقضاء على الدولة اليهودية الوحيدة في العالم من خلال معركة خيبر التاريخية عام 628 م، عندما دمر الإمام علي حصناً يهودياً في خيبر وقتل لاحقاً السكان اليهود في المدينة المنورة. وقد صرحت دعاية "الحرس الثوري الإيراني" صراحةً أن "سيف علي سيغزو خيبر مرة أخرى".
ومع ذلك، أصبح الاعتقاد بعصمة آية الله خامنئي، محل تحد متزايد بسبب المتغيرات الجيوسياسية. فقد بدأت حسابات خامنئي الخاطئة المستمرة، وأحكامه المتذبذبة، وتقلبات توجهاته المتكررة، تُضعف الهالة المحيطة بعبادة شخصيته المتطرفة، متحدية بشكل متكرر الاعتقاد السائد بأن "سيدهم" ( (أو المراد بالفارسية) لا يمكن أن يخطئ بسبب علاقته الإلهية الخاصة.
وقد تعمقت هذه الشقوق في قاعدة خامنئي المتشددة بشكل كبير إثر سلسلة من الخيانات الأيديولوجية البارزة منذ هجمات السابع من أكتوبر على إسرائيل. ومن بين هذه الخيانات الفشل في منع تدمير "حزب الله" و"حماس"، وخسارة سوريا لصالح الإسلاميين السنة، ومنح خامنئي الضوء الأخضر لتمكين ما يُسمّى بالإصلاحي مسعود بيزشكيان من الفوز بالرئاسة بدلاً من المتشدد سعيد جليلي، وهو تدخل اعتبره المتشددون خيانة كبيرة.
لكن الخيانة الأيديولوجية الأخيرة أثبتت أهميتها الكبرى في تأجيج التوترات. فبعد قضاء شهرين في رفض المحادثات مع الولايات المتحدة، أثارت أنباءٌ تفيد بأن النظام الإيراني سيتفاوض مباشرةً مع ترامب - الذي يتذكره المتشددون باعتباره قاتل السليماني، الذي يعتبرونه مسيحهم المنتظر -ردود فعل عنيفة بين هذه الفئة السكانية. وبعد إدانته العلنية للمفاوضات مع الولايات المتحدة باعتبارها "غير حكيمة، وغير ذكية، وغير مشرفة"، فإن قبول خامنئي الشخصي بالمحادثات مع ترامب كشف تذبذبه على الملأ.
ورداً على ذلك، لجأ المتشددون إلى وسائل التواصل الاجتماعي، معبرين عن غضبهم من أن خامنئي "يُهين" دماء سليماني، بعد أن تعهد مراراً بـ"الانتقام الشديد" من الرئيس الأمريكي. كما أكد سعيد قاسمي، القائد السابق للحرس الثوري الإيراني وأحد أكثر القادة تطرفا في جماعة شبه عسكرية تابعة للحرس، مؤخرا: "من كان ليتصور أن هذا النظام سوف يدوس على دماء الجنرال ويتفاوض مع قاتل سليماني". ويثير غضب أتباع خامنئي المتطرفين من انخراطه في مفاوضات مع العدو اللدود للنظام، تشابهات تاريخية قوية مع التمرد الذي واجهه الإمام علي حين سعى إلى التوصل لتسوية مع معاوية.
وإدراكاً منه لذلك، وفي محاولة لتهدئة أتباعه المتطرفين، ألقى خامنئي خطاباً مهماً في 24 نيسان/أبريل، قارن فيه محادثات نظامه مع ترامب بمفاوضات الإمام الحسن مع عدوه اللدود معاوية. وقال خامنئي إن الإمام الحسن تمكن من تهدئة أتباعه الغاضبين بإبلاغهم أن الاتفاق مع معاوية كان" مؤقتاً" و"تأخيراً" ضرورياً في الحرب النهائية والانتصار على العدو.
في حين أن هذه الدائرة المتشددة من أنصاره لا تزال تتصارع مع آثار هذه المفاوضات على نظرتها للعالم، فإن خامنئي قد يشهد انهيار عبادة شخصيته إذا أسفرت المفاوضات مع ترامب عن اتفاق لتفكيك البرنامج النووي الإيراني. وفى حين قد تبقى مجموعة من أنصار خامنئي المتشددين موالية له، وستسعى إلى تبرير تنازله عبر إلقاء اللوم على حكومة مسعود بيزشكيان والضغوط الاجتماعية المحيطة بهذه النتيجة، فإن خيبة الأمل الناتجة عن خيانة أيديولوجية أخرى متوقعة، ومن المرجح أن تؤدي إلى تخلي أعضاء القاعدة المتشددة عن عبادة شخصية خامنئي ودعمهم لآية الله.
سيؤدي هذا الانقسام إلى إضعاف نظام خامنئي القمعي، حيث يُعد هؤلاء الأفراد المتشددين محور عمله الأساسي. ورغم أن خامنئي قد أنشأ نظاماً شاملاً لحماية نفسه والحفاظ على سلطته، إلا أن هذا النظام يتكون من أكثر الأتباع تلقيناً وتطرفاً في عبادة شخصيته، ما يجعلهم الأكثر عُرضة لتقبل ما يعتبرونه خيانة. بعبارة أخرى، لم يعد من المستبعد أن ينقلب المتعصبون المحيطون بخامنئي عليه بطريقة لا تختلف كثيراً عن انقلاب أتباع الإمام علي المتطرفين عليه.
نظراً للطريقة التي شخصن بها خامنئي السلطة في الجمهورية الإسلامية وتقويضه لاستقلالية مؤسسات النظام، فقد عرض نفسه لاتهامات بالنفاق حتى من أكثر أتباعه ولاءً في السابق، الأمر الذي زعزع استقرار بنية الجمهورية الإسلامية بشكل متزايد.
وبغض النظر عن نتيجة المفاوضات مع ترامب، يبدو أن خامنئي قد خسر بالفعل. فمن المرجح أن تؤدي تعاملات آية الله مع قاتل سليماني إلى تقويض عبادة شخصيته وتدمير إرثه الوحيد الملموس: منارة معاداة أمريكا في أعين الإسلاميين والمناهضين للإمبريالية حول العالم.