- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
التعداد السكاني في العراق: تنمية مستقبلية أم صراع سياسي مرتقب؟
أصبح التعداد السكاني الجديد الذي أُجري الأسبوع الماضي، الأول من نوعه منذ ما يقرب من ثلاثة عقود.
منذ عقود، جرت العادة أن تجري الحكومة العراقية تعدادها السكاني كل 10 سنوات، وقد أُجري أخر تعداد سكاني في زمن النظام السابق عام 1997، لم يشمل إقليم كردستان العراق (أربيل وسليمانية ودهوك)، ومنذ وقتذاك، لم تنجح الحكومات اللاحقة (ما بعد 2003) من إجراء عمليات التعداد لأسباب منها أمنية والتوتر الطائفي، وأخرى بسبب الصراع السياسي بين القوى الكبرى والخلافات على المناطق المتنازع عليها بين حكومة المركز والإقليم، تبعتها التهديدات الإرهابية واحتلال تنظيم "داعش" لثلث مساحة البلاد عام 2014، حتى طرد بالكامل من الأراضي العراقية في عام 2017. بعد ذلك، حدثت تأخيرات أخرى بسبب عدم وجود تخصيصات مالية، ومن ثم تفشي وباء كورونا، حالت دون إجراء التعداد الذي طال انتظاره.
عوضا عن الاعتماد على بيانات إحصائية دقيقة مستمدة من التعداد السكاني الذي جرى خلال هذه الفترة، اعتمدت الحكومة العراقية على الإحصاءات التخمينية الموجودة لدى وزارة التخطيط ووزارة التجارة والدوائر القريبة من المواطنين. ومن الجدير بالذكر أن هذه التقديرات تُخلّف آثارًا كبيرة على مخصصات الإنفاق الحكومي. على وجه الخصوص، تنفق الحكومة العراقية ما يقرب من 1.5 مليار دولار سنويًا لتوزيع المواد الغذائية على أكثر من 39 مليون عراقي من خلال القسائم الغذائية. وفي حين يُفترض أن يوفر هذا التوزيع للحكومة تقديرّا دقيقًا لعدد السكان العراقيين من الناحية النظرية، إلا أن إخفاقها في توزيع القسائم الغذائية بانتظام أدى إلى عزوف ملايين العراقيين عن الاستفادة من هذه المخصصات. بالإضافة إلى ذلك، بدأت الحكومة العراقية تقليص المواد الغذائية المتاحة ضمن هذه القسائم. وقد ترتب على هذه المشكلات خللًا في دقة بيانات نظام القسائم الغذائية، إذ توفي العديد من الأشخاص أو وُلد آخرون دون أن يتم تحديث معلوماتهم. وفى حين يعتبر العديد من المواطنين الذين يتقاضون راتبًا شهريًا يقارب 1000 دولار أو أكثر غير مؤهلين للحصول على هذه القسائم الغذائية، إلا أن الكثير منهم يتحايلون على النظام للاستفادة منها.
علاوة على ذلك، يمكن الاستفادة من بيانات التعداد السكاني الحديثة لضمان تقديم هذه المساعدات بشكل أكثر فعالية، علاوة على معالجة القيود التي تعوق الاعتماد على التقديرات المستندة إلى هذا النوع من البيانات. وعلى هذا النحو، جاء التعداد الحالي وفقًا لما تبناه منهاج رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، والذي أكد في بيان متلفز، نشره الموقع الرسمي لمجلس الوزراء، قال فيه: "أن التعداد ليس مجرد أرقام تتراكم، بل هو الحدُ الفاصلُ بين التخمين والحقائق، ووسيلة حاسمة لتحديد القرارات الحيوية والفعالة."
وهكذا، أصبح التعداد السكاني الجديد الذي أُجري الأسبوع الماضي، الأول من نوعه منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، إذ تم تنفيذه على مدار يومين متتاليين (20-21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، سبقه تحضيرات لتدريب نحو 120 ألف من الباحثين الجوّالين المسؤولين عن تعداد السكّان والمساكن. وفرضت السلطات الأمنية حظر التجوال، فيما سمحت للفرق الطبية والفرق الإعلامية، وبعض الحالات الإنسانية، من الحركة في المدينة.
وأعلنت وزارة التخطيط العراقية بأن النتائج النهائية التفصيلية التعداد السكاني ستعلن خلال شهرين من إنتهاء التعداد، بعد تجميع وتصنيف وتبويب البيانات ومن ثم الإعلان عنها كجداول ومؤشرات عامة لحالة السكان في العراق. أما النتائج الأولية، فأعلنت يوم الاثنين الموافق 25 نوفمبر/تشرين الثاني، إذ بلغ عدد السكان في العراق نحو 45.4 مليون نسمة، بضمنهم الأجانب واللاجئين. وكانت نسبة الذكور 50.18% ونسبة الإناث 49.82%، ومعدل النمو السنوي 2.33، إضافة إلى مؤشرات أخرى تتعلق بحجم الأسرة، والأعمار، وسكان الريف، والحضر.
حذف "القومية" والعراقيين في الخارج: تغيير للتركيبة السكانية
زادَ الجدلُ حول حذف مفردة "القومية" من اسئلة التعداد السكاني، وطالبت جهات سياسية من تضمين القومية لضمان حقوق المكونات كافة، واعتبروه تعداد منقوص المضمون، ولا يعطي معلومات دقيقة على هوية من يعيش في تلك المنطقة وتعددهم العرقي والقومي، فيما يرى آخرون أن تضمين القومية في التعداد قد يؤدي إلى حساسية سياسية، خصوصًا أن للبلد تاريخ طويل مع الصراعات ما بعد عام 2003. فيما يشعر مواطنون يسكنون في مناطق غير مستقرة أمنيًا، بالقلق من إمكانية إساءة استخدام معلوماتهم الشخصية من أجل غايات سياسية وأمنية.
وقال المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية عبد الزهرة الهنداوي إلى الكاتب: "بخصوص القومية، كانت سببًا في فشل مشروع التعداد السكاني خلال الأعوام الماضية، هناك مخاوف تراود كثير من الأطراف في حالة وجود هذا السؤال، ولذلك صار التوافق والاتفاق على حذف هذا السؤال من أسئلة استمارة التعداد كضمانة لتنفيذ المشروع، وليس هناك اقصاء لأي مكون بحذفها، نحن لا نتحدث عن مكونات بقدر ما نتحدث عن مواطن عراقي." وأضاف: "عندما يكون المواطن بحاجة إلى مستشفى، أو مدرسة، أو طريق، أو ماء شرب أو كهرباء، أو خدمات أخرى، بالتأكيد هنا ستذوب قضية المكون. نعم قد ينتج عن حذف القومية خلل بيانات بشأن واقع المكونات في العراق كقوميات، ولكن في نهاية المطاف أن نربح 95% ونخسر 5% هذا منطق أفضل من أن نخسر 100% وأقصد هنا أن نسبة البيانات المتعلقة بسؤال القومية كمقاربة للأسئلة العامة تمثل 5%."
لا يتفق الباحث الاقتصادي والسياسي عمر الحلبوسي، مع الهنداوي، فقال خلال مقابلة أجراها الكاتب معه: "أن عدم ذكر مفردة القومية في التعداد السكاني هو أمر مقصود من أجل تغيير تركيبة المناطق سكانية، خصوصا في كركوك ونينوى، وكذلك يتاح (للأحزاب) لهم تسجيل المجنسين (الأجانب) لأن وجود القومية يفتضح المجنسين، لذلك غُيّبَ حقل القومية من التعداد وهو ما سيؤثر سلبًا على البلد بسبب توطين الشعوب المستوردة الموالية لإيران.
وأشار الحلبوسي إلى وجهة نظر وردت في عدة برامج تلفزيونية تزعم أن الأحزاب المتحالفة مع إيران كانت قد عارضت وبشدة في سنوات سابقة إجراء التعداد السكاني في العراق، لكنها نجحت في التغلب على معارضيها بعد استقطاب الآلاف من الإيرانيين والباكستانيين والأفغان واللبنانيين ومنحهم الجنسية العراقية، مما أتاح للائتلاف الحاكم أدخال هؤلاء المجنسين ضمن العراقيين ليتم استخدامهم سياسيًا وأمنيًا لصالح هذه الاحزاب".
ويرى الحلبوسي أن لا علاقة للتعداد السكاني بتحسين وضع المواطن ولا من أجل توزيع عادل للثروة، بل هو هدفه سياسي أمني واقتصادي. سياسي من أجل زيادة مقاعد الأحزاب الموالية لإيران بداخل البرلمان، وأمني بأنه سيتم إدخال المجنسين ضمن الأجهزة الأمنية، واقتصاديا هو من أجل استيلاء الأحزاب على أموال البلاد، من خلال إعادة توزيع نسب الموازنة بين المحافظات العراقية مما يتيح لهم نهب هذه الاموال وتمويل بها المجنسين.
وفيما إذا فعلًا، تم اعتماد نتائج التعداد واستخدمت سياسيًا في الانتخابات، فيُتوقع أن يتغير عدد مقاعد البرلمان من 329 إلى 450، الأمر الذي يزيد القلق من حدوث صراعات مرتقبة قبيل الانتخابات البرلمانية القادمة، وخلافات على تقاسم المناصب بين القوى السياسية. يتوقع المراقبون أن يلعب التعداد السكاني دورًا مهمًا في تشكيل الانتخابات المقبلة في البلاد، حيث يمكن أن يسهم في تمكين بعض الأحزاب من الحصول على مقاعد برلمانية إضافية نتيجة للتحولات الديموغرافية. ووفقًا لدستور العراق لعام 2005، يُخصص مقعد برلماني واحد لكل 100 ألف مواطن، مما يعني أن إضافة مقاعد برلمانية جديدة قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة في التركيبة السياسية الحالية للبرلمان.
من الجديد بالإشارة إليه، أن التعداد السكاني الحالي لم يشمل العراقيون في خارج العراق، وليس هناك أي خطة معلنة حول ذلك، ما أثار استياء المواطنين في المهجر من عدم شمولهم بالتعداد وعدم استطاعة الحكومة التنسيق لإجراء التعداد من خلال السفارات العراقية أو عبر روابط إلكترونية أو آلية آخري. فيما قال بعض العراقيين المغتربين ممن تحدث إليهم الكاتب أنهم أوعزوا إلى أسرهم في العراق بتسجيلهم كغائبين مؤقتًا، مدعين أنهم في سفرة قصيرة خارج البلاد لضمان إدراجهم في التعداد السكاني.
وأكد الحلبوسي: "أن حرمان ملايين العراقيين المهجرين في الخارج من التعداد هو ظلم وإجحاف بحقهم، مما يعني أن الحكومة العراقية التي تهيمن عليها الفصائل الموالية لإيران، تستغل سيطرتها لإحداث تغيير في التركيبة الديموغرافية في العراق لخدمة مصالحها الخاصة.
وفيما يتعلق بإمكانية إجراء تعداد للعراقيين في خارج البلاد، صرح الهنداوي: "هناك فكرة لأن يتم إجراء تعداد آخر للعراقيين في الخارج بقدر المستطاع من خلال الاستفادة من الأجهزة اللوحية المتوفرة لدينا الان من خلال توزيعها على السفارات العراقية بمختلف دول العالم وهذه السفارات تتواصل مع عراقي المهجر لإجراء التعداد لهم." يواجه تعداد العراقيين المقيمين في الخارج العديد من التحديات، أبرزها قلة عدد السفارات العراقية في مختلف دول العالم وبعد المسافة بينها وبين تجمعات العراقيين. هذه العوامل مجتمعة تجعل من الصعب على العراقيين الوصول إلى السفارات لإجراءات التعداد، مما يستدعي البحث عن حلول بديلة.
مشاكل تقنية.. وحرمان من التسجيل
اشتكى العديد من المواطنين من عدم قدوم موظفو التعداد إلى منازلهم خلال فترة التعداد السكاني، كما أنهم لم يتمكنوا من تأمين الاتصال بالخط المخصص لهذا الغرض، وقد أظهرت فيديوهات على مواقع التواصل قيام المواطنين بالاتصال لكن الرقم مغلق. فيما أعلنت هيئة الإحصاء، الأحد 24 تشرين الثاني/نوفمبر، بدء المرحلة الثالثة والأخيرة للتعداد السكاني، وأن الفرق الميدانية ستصل إلى جميع الأسر التي لم يصلها العدادون في المرحلة السابقة. ومع ذلك، ادت المشاكل التقنية المستمرة إلى تأخير تنفيذ المرحلة الأخيرة من التعداد، حيث يواجه الباحثين المسؤولين عن التعداد السكاني مشاكل تقنية في الأجهزة اللوحية الالكترونية وصعوبة تحديث الأجهزة لبدء المرحلة الثالثة والأخيرة من التعداد، فيما طالبوا بالوقت نفسه، الحكومة بصرف مستحقاهم المالية المستحقة.
مع ذلك، هناك تساؤلات عن الآلية المتبعة في إجراء التعداد السكاني مقارنة بـطرق أخرى قد تكون أكثر فعالية للحصول على بيانات سكانية دقيقة. فقد كلفت عملية التعداد السكاني الدولة ملايين الدولارات، في حين أن دولًا أخرى تمكنت من اعتماد وسائل أكثر كفاءة من حيث التكلفة للحصول على هذه المعلومات. على سبيل المثال، كان بالإمكان أن يسهم استخدام أرقام الهوية الوطنية المرتبطة بنظام الهوية الموحد في العراق في تبسيط العملية، وهو النظام الذي اعتمدته دول أخرى لتجنب الإجراءات المرهقة مثل التعداد اليدوي والمسح من خلال طرق الابواب. ومع ذلك، أدى عدم امتلاك شريحة كبيرة من المواطنين للبطاقة الوطنية إلى عرقلة تحقيق ذلك، حيث يتردد عدد كبير منهم من مراجعة دوائر الدولة لإصدار البطاقة بسبب الروتين الممل والمتطلبات، ما يُجبر البعض على دفع رشاوي مقابل إنجاز معاملاتهم.
بالرغم من كل التحديات التي تواجه العراق، فأن التعداد السكاني يمثل فرصة ثمينة نحو مستقبل أفضل للعراقيين، من خلال فهم التركيبة السكانية للبلاد، وما يحتاجه المواطنون وتلبية احتياجاتهم التي تكفل لهم العيش الكريم وفرص العمل والتوزيع العامل للثروات التي طالما حرموا منها منذ سنين، وهم يعيشون في بلدٍ ينعم بالخيرات.