- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
المجتمع المدني العراقي وأزمة التمويل
يشكل الدعم المالي للمنظمات غير الحكومية شريان حياة لبقاء تلك المنظمات واستمرارها. ويجب أن تدرك الحكومة العراقية أن قوة المجتمع المدني من قوتها حيث يمكن للمنظمات غير الحكومية أن تساهم بشكل أساسي في تعزيز جهود الحوكمة والدعم المجتمعي.
بعد فترة وجيزة من سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، تم تأسيس المئات من المنظمات غير الحكومية في جميع أنحاء العراق، ولعبت المنظمات الدولية دورا محوريا في تقديم المساعدة والتمويل لتلك المنظمات، وهو ما ساهم بشكل كبير في نموها وانتشارها. ومن ثم، استطاعت المنظمات غير الحكومية أن تقدم خدمات مهمة للبلاد تضمنت تقديم المساعدات لضحايا الحرب وأعمال العنف وتوفير الدعم القانوني للفئات المهمشة ونشر ودعم مبادئ السلام والتعايش السلمي وحقوق الإنسان وتمكين المرأة ومكافحة الفساد ومراقبة الانتخابات وغيرها من القضايا المهمة الكثيرة.
اعتمد التمويل في العراق بعد تسعينيات القرن العشرين وتحرر البلاد من قبضة حزب البعث، كليا على المنظمات الدولية المانحة، وكانت المشاريع تركز بشكل عام على البعد الإغاثي عوضا عن البعد التنموي والمشروعات التدريبية نظرا لأن الوضع كان يستدعي الكثير من المساعدات الإنسانية المباشرة. وبعد الانسحاب الرسمي للقوات الامريكية من العراق في عام 2012، واجهت المنظمات غير الحكومية في العراق تحديا كبيرا، وكانت مرحلة خانقة لتلك المنظمات التي كانت تخشى من فقدان مصادر تمويلها. وفي محاولة لتبديد تلك المخاوف، بدأت مجموعة من المنظمات الامريكية بالتمهيد لتحضير المنظمات المحلية للاستدامة وللاعتماد على ذاتها استعدادا للمرحلة القادمة.
ومع ذلك، شكل الدور التاريخي الذى لعبته المنظمات غير الحكومية العراقية عقبة كبيرة أمامها وذلك في وقت تسعى فيه لإيجاد موطئ قدم في العراق اليوم. ورغم أن المنظمات غير الحكومية غالبا ما تركز أنشطتها المعلنة على ملف التنمية المستدامة، باتت الصورة النمطية لها هي أنها إغاثية وليست مثل المنظمات غير الحكومية التي تحتاج للدعم المحلي والدولي. وفى حين تواجه تلك المنظمات العديد من التحديات، فإن تأمين التمويل في ظل الوضع السياسي المتغير قد يشكل التحدي الأكبر الذي تواجهه تلك المنظمات.
أشكال التمويل وتحدياته
تنقسم المنح المقدمة للمنظمات غير الحكومية الى قسمين: المنح المقدمة من الجهات الدولية التي ليس لها برنامج عمل ولا ومكاتب في البلاد ويطلق عليها منح عبر البحار. وغالبا ما تأتى تلك المنح من منظمات خارجية (أوروبا وأمريكا تحديدا)، وتقوم تلك المنظمات بعمل زيارات دورية للتواصل مع المنظمات المحلية العراقية بشكل مباشر. وفى كثير من الأحيان تقوم المنظمات المحلية بالتواصل مع المنظمات الدولية من خلال موقعها الإلكتروني أو عن طريق فتح قنوات للتواصل معها من خلال المشاركة في بعض الدورات التدريبية والمؤتمرات في الخارج. ومع ذلك، يشكل الافتقار لمهارات التواصل الفعال مع الجهات الدولية المانحة أحد أهم عقبات التمويل التي تواجه المنظمات غير الحكومية العراقية.
أما بالنسبة للمنح التي توفرها المنظمات العاملة على الساحة مثل المعهد الديمقراطي الوطني (NDI) والمعهد الجمهوري الدولي (IRI)، والمنظمة الدولية للهجرة (IOM)، ووكالات الأمم المتحدة، فهي تنقسم إلى نوعين أساسيين: النوع الأول – وهو الغالب– حيث تأتى الجهات الدولية ببرامج عمل محددة وتبحث عن شركاء من المنظمات المحلية للتعاقد معهم لتنفيذ برنامج أو مشروع بعينه. ورغم أن هذا النوع من البرامج قد يشكل فرصة جيدة للمنظمات العراقية للعمل والنشاط وبناء القدرات، إلا أنه لا يعكس الاحتياجات الفعلية للمجتمع كونه مدفوعا من الخارج.
كما أن هذا النوع من المنح لا يساهم في تعزيز استقلالية المنظمات غير الحكومية المحلية حيث أن دور المنظمة المحلية في هذه الحالة سيكون سلبى وقاصر على التنفيذ فقط. ومن سلبيات هذه النوع من التمويل أيضا انه قد يجعل بعض المنظمات تعمل في اختصاص غير اختصاصها وتتوجه الى اختصاص الجهة التي تمنح أو تجلب المنحة.
أما في النوع الثاني من المنح، فهو يأتي من قبل منظمات دولية توفر منح استجابة لمقترحات المشاريع التي تصممها المنظمات المحلية وفقا لاحتياجاتها. ويعد هذا النوع من التمويل الأفضل على الإطلاق حيث يوفر للمنظمات المحلية مساحات كبيرة لطرح أفكار وحلول تتوافق مع احتياجات المجتمع المحلى الذى تعمل فيه.
ومع ذلك، ما زالت المنظمات غير الحكومية العراقية تعتمد بشكل كبير على مصادر التمويل الخارجية، فبخلاف الوضع في باقي الدول الأخرى، لا تحصل المنظمات غير الحكومية العراقية على أي دعم من الحكومة العراقية، كما تزداد إجراءات دائرة المنظمات غير الحكومية في بغداد وأربيل تعسفا في التضييق على تمويل المنظمات غير الحكومية بإجراءات معقدة وشبه مخابراتية والبدء بغلق في بعض المنظمات بحجج متنوعة.
علاوة على ذلك، لا يبدو الوضع افضل بكثير خاصة عندما يتعلق الأمر بالقطاع الخاص، ففي حين يشكل القطاع الخاص أحد أهم مصادر تمويل المنظمات غير الحكومية في العديد من الدول، إلا أنه يكاد يكون شبه معدوم في العراق. لذلك، يتعين على القطاع الخاص أن يدرك أن مشاركته في دعم المجتمع المدني وإضافة المسحة الإنسانية لعمله وممارسة دورا اجتماعيا وقياديا في المجتمع هو امر ضروري لغرض تحقيق الحوكمة في المجتمع.
وفى نهاية المطاف، يشكل الدعم المالي للمنظمات غير الحكومية شريان حياة لبقاء تلك المنظمات واستمرارها. ومن ثم، يمكن للهيئات الدولية أن تقوم بدورها من خلال توفير المزيد من المنح بشكل يسمح للمنظمات غير الحكومية بتحديد أولويات تخصصاتها واحتياجاتها المحددة على أرض الواقع. ومن جانبها، يمكن للمنظمات المحلية المشاركة في معالجة قضايا التمويل من خلال العمل على بناء قدراتها وتحسين مهاراتها خاصة في مجالات الاتصال والتواصل حتى يتسنى لها التعامل مع الجهات الدولية المانحة بشكل أكثر فاعلية يساهم في جلب التمويل واستدامة تلك المنظمات.
يجب أيضا أن تدرك الحكومة أن قوة المجتمع المدني من قوتها حيث يمكن للمنظمات غير الحكومية أن تساهم بشكل أساسي في تعزيز جهود الحوكمة والدعم المجتمعي. ومن ثم، يجب أن تعمل الحكومة على إنشاء صندوق يخصص من ميزانية الدولة لدعم مشاريع المجتمع المدني التي تتماشى مع خطط التنمية في البلد باليات دعم شفافة وعادلة تعتمد على المنافسة.
يتوجب أيضا على القطاع الخاص أن يتحمل مسئوليته الاجتماعية وان ينخرط بشكل فعال في دعم برامج المجتمع المدني، كما يتعين على الدولة أن تعمل على تعزيز مشاركة القطاع الخاص من خلال سن التشريعات الداعمة والمشجعة لذلك، كتخفيض الضرائب أو اعتبار الدعم المقدم في هذا المجال يدخل ضمن النظام الضريبي المفروض على الشركات. ومن ثم، سيساهم هذا النهج في تحفيز القطاع الخاص على المساهمة الفاعلة في التنمية المستدامة في العراق، ويعزز من نمو المنظمات غير الحكومية واستدامتها.