
- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الحزم العسكري الإسرائيلي يوفر بعض المنافع المُقنعة لأردوغان

بغض النظر عن خطابه، يستفيد أردوغان بهدوء من الصراعات، مثل الحرب الأخيرة التي استمرت اثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران، سواء لتعزيز مكانة أنقرة في المنطقة أو لصرف الانتباه عن القضايا الداخلية.
لا يخفى أن أردوغان يحتقر حكومة نتنياهو، وغالباً ما يستخدم خطاباً حاداً ضد العمليات العسكرية الإسرائيلية. فقد وصف نتنياهو مؤخراً بأنه "أكبر عقبة أمام السلام الإقليمي" وشبه سلوك إسرائيل بـ"اللصوصية السافرة". خلال الحرب التي أُطلق عليها مؤخراً اسم "حرب الاثني عشر يوماً" بين إسرائيل وإيران، أدان أردوغان الغارات الجوية الإسرائيلية وطالب باستئناف المفاوضات النووية، مع تجنب الإشارة المباشرة إلى الولايات المتحدة في خطاباته. وفي خطوة موازية، أعرب بهدوء عن معارضته لامتلاك إيران سلاحاً نووياً خلال مكالمة هاتفية مع المستشار الألماني فريدريش ميرز، وذلك وفقاً لتغريدة نشرها ميرز لاحقاً، رغم أن هذه التصريحات لم ترد في البيان الرسمي الصادر عن مديرية الاتصالات التابعة لأردوغان.
في ظاهر الأمر، لدى تركيا أسباب وجيهة للقلق بشأن التبعات الأوسع نطاقاً للضربات العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على إيران. فأنقرة، التي تعاني بالفعل من عبء ثقيل يتمثل في استضافة أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئٍ سوري وأفغاني، إضافةً إلى التضخم المستمر، تخشى أن يؤدي تجدد الصراع وزعزعة الاستقرار داخل إيران إلى ارتفاع أسعار الطاقة وإشعال موجة جديدة من الهجرة، مما قد يفاقم السخط الداخلي ضد حكومة أردوغان.
ومع ذلك، فإن إسرائيل، بفضل نفوذها الإقليمي، تُوفر لأنقرة عدداً من المكاسب الإيجابية، حتى وإن كان أردوغان لا يفوت فرصة لإدانتها. وعلى الساحة الدولية، ترى تركيا في التصعيد العسكري الأخير بين إسرائيل وإيران فرصة لتعزيز أهميتها الدبلوماسية. وبحسب التقارير، سعى أردوغان إلى استضافة محادثات مباشرة بين كبار المسؤولين الأمريكيين والإيرانيين في اسطنبول، غير أن هذه المساعي باءت بالفشل. ومع ذلك، وكما حدث أثناء الغزو الروسي لأوكرانيا، تحركت تركيا بسرعة لتعزيز صورتها كوسيط وعضو مستقر في حلف الناتو ضروري للوصول الإقليمي للحلف. ويسمح هذا الدور الدبلوماسي لأنقرة بإدارة علاقاتها مع الغرب، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بحوار مفتوح مع أطراف إقليمية غالباً ما تكون على خلاف مع الحلف.
ومع ذلك، قد يكمن الأثر بعيد المدى في تداعيات الصراع على مكانة أنقرة الإقليمية والتحديات التي تواجهها داخلياً. ومن المرجح أن تواصل أنقرة جني المكاسب من الحملات العسكرية الإسرائيلية التي قوضت بشكل منهجي وكلاء إيران وبنيتها العسكرية في المنطقة، على غرار ما حدث خلال فترة تراجع نظام الأسد. وربما الأهم بالنسبة لأردوغان، أن هذا النوع من الصراعات الإقليمية يمنحه فرصة لصرف أنظار الرأي العام عن أزمة التضخم الحاد في بلاده، وعن القمع المستمر للمعارضة، مما يُتيح له حشد قاعدته الانتخابية القومية والإسلامية عبر خطابٍ لا يكلّفه شيئاً فعلياً.
شبكات وكلاء تركيا وإيران
يُعد التصاعد المستمر في توتر العلاقات بين أنقرة وطهران أبرز دليل على المكاسب الاستراتيجية التي تجنيها تركيا من الحزم العسكري الإسرائيلي. فبوصفهما قوتين إقليميتين طموحتين، حافظت إيران وتركيا طوال سنوات على توازن معقد بين التنافس والشراكة. وغالباً ما وجدت الدولتان نفسيهما على طرفي نقيض بسبب تضارب مصالحهما الإقليمية. ففي العراق، أصدرت فصائل مرتبطة بـ "المقاومة الإسلامية" المدعومة من إيران ضمن "قوات الحشد الشعبي"، تهديدات صريحة ضد القواعد العسكرية التركية في الشمال، وأطلقت أحياناً هجمات صاروخية للضغط على أنقرة كي تنسحب من المنطقة. وفي سوريا، دعمت تركيا قوات المعارضة ودربتها، بينما حشدت إيران ميليشيات للدفاع عن نظام الأسد. وفي إقليم ناغورنو- كاراباخ ، قوبل دعم تركيا الواضح لأذربيجان بتقارب استراتيجي بين إيران وأرمينيا.
وتماشياً مع مسار الصراع الإقليمي، دخلت العلاقات التركية - الإيرانية في عام 2025 مرحلة من التوتر الشديد. ففي كانون الثاني/يناير، أفادت وسائل إعلام تركية موالية لأردوغان بأن قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، التقى بمظلوم عبدي، زعيم "قوات سوريا الديمقراطية". وتُعد أنقرة هذه الجماعة فرعاً سورياً لـ"حزب العمال الكردستاني"، المصنف كمنظمة إرهابية من قبل تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. تصاعد التوتر أكثر في شباط/فبراير، عندما وصف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان " السياسة الخارجية الإيرانية القائمة على الميليشيات" بأنها خطيرة، مما تسبب في نشوب أزمة دبلوماسية دفعت البلدين إلى استدعاء سفيريهما. وبعد مرور شهر، اتهمت صحيفة تركية موالية لأردوغان إيران بتزويد "حزب الاتحاد الديمقراطي" في سوريا بطائرات مسيرة، مما زاد من حدة التوتر بين البلدين. وفي الوقت ذاته، نفّذت وكالة الاستخبارات الوطنية التركية اعتقالات استهدفت عددًا من المشتبه في ارتباطهم بالمخابرات الإيرانية، في ثلاث مدن تركية كبرى.
ويضاف إلى هذه التوترات في العلاقات الثنائية استياء المسؤولين الأتراك من علاقات إيران مع "حزب العمال الكردستاني". ففي مقابلة أجريت العام الماضي، انتقد وزير الدفاع التركي غولر إيران لعدم اتخاذها إجراءات ضد أعضاء الحزب المتوارين في الأراضي الإيرانية، رغم تزويد تركيا لها بمعلومات استخباراتية دقيقة. ووفقاً لتقرير المفتش العام لوزارة الدفاع الأمريكية لعام 2022، تلقت و"حدات مقاومة سنجار"- وهي جماعة مسلحة تعتبرها تركيا امتداداً لـ"حزب العمال الكردستاني" في العراق - دعماً وحافظت على علاقات مع بعض وكلاء إيران الرئيسيين في المنطقة، بما في ذلك كتائب "حزب الله". ومع ذلك، امتنعت تركيا عن استهداف وكلاء إيران في المنطقة بشكل مباشر حتى بعد أن استهدفت ميليشيات موالية لإيران القنصلية التركية في الموصل بصواريخ في عام 2022. واستمرت هذه السياسة خلال الهجمات اللاحقة التي نفذتها ميليشيات مدعومة من قبل إيران ضد القاعدة ذاتها، وكان آخر هجوم معروف في كانون الأول/ديسمبر 2024.
إن الضربات المباشرة التي وجهتها إسرائيل للبنية التحتية العسكرية الإيرانية خلال المواجهة الأخيرة، إلى جانب القضاء على قادة مهمين في الحرس الثوري الإيراني والأضرار التي لحقت بالوكلاء الإيرانيين منذ السابع من أكتوبر، ستحد حتماً من قدرة طهران على بسط نفوذها في العراق وسوريا في المستقبل القريب. وستواجه إيران، المنشغلة بالتهديدات الخارجية الوشيكة والحاجة الملحة إلى تحصين النظام، تحديات داخلية جسيمة. وقد يدفع ذلك طهران إلى إعطاء الأولوية لتعزيز سيطرتها الداخلية وحماية أصولها العسكرية الحيوية على حساب الحفاظ على عملياتها العدوانية في المنطقة أو توسيع نطاق وعمليات ميليشياتها وخلاياها السرية في الخارج، بما في ذلك تلك التي تستهدف تركيا.
من ناحية أخرى، قد تتلاشى مخاوف تركيا بشأن العلاقات بين إيران و"حزب العمال الكردستاني" بسرعة إذا تقدمت عملية السلام المتجددة في البلاد كما هو مخطط لها ونزع "حزب العمال الكردستاني" سلاحه وفقاً لذلك. ومع ذلك، لا يزال من المبكر في هذه المرحلة الجزم بما إذا كانت العملية ستُفضي إلى نتائج ملموسة تُمهد لحل دائم للحزب، لا سيما في ضوء فشل محاولات سابقة للتسوية مع "حزب العمال الكردستاني" قبل عقد من الزمن. وفي الوقت نفسه، أوضحت بيمان فيان، الرئيسة المشتركة لـ"حزب الحياة الحرة الكردستاني"، أن الجماعة ستواصل كفاحها المسلح في إيران، مشيرة إلى أن أي تسوية محتملة بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني" قد لا تُترجم إلى انخفاض النشاط المسلح على طول الحدود الإيرانية، ولا إلى نزع سلاح الفروع الإقليمية الأخرى لـ"حزب العمال الكردستاني". يبقى هناك خطر على تركيا من أن عناصر "حزب العمال الكردستاني" الذين تم نزع سلاحهم ، فقد ينضمون إلى "حزب الحياة الحرة الكردستاني"، الذي بدوره قد يوجه تركيزه نحو تركيا في حالة انهيار عملية السلام. وفي كلتا الحالتين، تبقى إيران عنصراً محورياً في معادلات الأمن القومي لأنقرة، حتى في ظل تركيز السلطات التركية على القضايا الأمنية الداخلية.
الصراع كوسيلة لتشتيت الانتباه عن الازمات الداخلية
فيما يتعلق بالمخاوف الانتخابية الداخلية، يوفر تصعيد التوتر بين إسرائيل وإيران، إلى جانب احداث مماثلة، أداة خطابية مفيدة لأردوغان لصرف انتباه الرأي العام عن التحديات الداخلية المتزايدة. كما تتيح الصراعات الإقليمية في محيط تركيا لأردوغان فرصة تعزيز صورته بوصفه زعيم قوي يدافع عن المصالح الوطنية دون إقحام البلاد في صراع نشط. ويمثل الصراع الأخير في هذا السياق فرصة لأردوغان لصد المعارضة المتنامية في الداخل وتوطيد قاعدته الانتخابية الهشة بشكل متزايد من خلال الاستفادة من خطاب التهديد الإسرائيلي.
تتخلف الحكومة التركية حالياً عن حزب المعارضة الرئيسي في معظم الاستطلاعات الرئيسية، حيث تظهر بعض الاستطلاعات أن تأييدها انخفض إلى أقل من 30% للمرة الأولى منذ وصولها إلى السلطة في عام 2002. ولم يؤد القمع المستمر لرئيس بلدية اسطنبول المعارض إلا إلى تفاقم الإحباط العام، مما جعل الحكومة تعتمد بشكل متزايد على القضايا الخارجية لصرف الرأي العام عن الصعوبات الاقتصادية والقمع السياسي. وقد تجلى ذلك عندما صرح أردوغان على منصة "إكس" بأن دعوة زعيم المعارضة الرئيسي لمقاطعة الشركات الموالية للحكومة هي دعوة غير مسؤولة ولا معنى لها في الوقت الذي تشن فيه إسرائيل ضربات على إيران وتواجه المنطقة اضطرابات متصاعدة.
فكلما زاد اهتمام وسائل الإعلام بالصراعات الخارجية مثل الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، انخفض التركيز على القضايا الداخلية السياسية الحساسة مثل سجن رئيس بلدية إسطنبول أو أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة في البلاد. في أحد خطاباته الأخيرة أمام الكتلة البرلمانية لحزبه، شدّد أردوغان، أثناء انتقاده لإسرائيل، على قناعته بأن المناقشات والانقسامات والاستقطاب التي شهدتها تركيا على مدى عقود، لم تكن نتيجة ديناميات داخلية، بل انعكاساً لتأثير قوى خارجية. وتضمن الخطاب مقطع فيديو يسلط الضوء على الدور الدبلوماسي لأردوغان وجهوده الرامية إلى الحفاظ على استقرار الأوضاع في المنطقة، وعرض مقتطفات من لقاءاته مع قادة العالم، من ترامب وبوتين إلى بيزشكيان ومحمد بن سلمان، في محاولة واضحة لتصويره كقائد إقليمي وفاعل دبلوماسي رئيسي قادر على إدارة الأزمات الدولية المعقدة.
بالنسبة لأردوغان، المعركة الحالية ليست في غزة أو طهران أو تل أبيب، بل تكمن في الداخل، حيث تشكل التطورات الإقليمية خلفية ملائمة لتلك المعركة. وتشير بيانات حديثة صادرة عن شركة لاستطلاعات الرأي راقبت عن كثب الانتخابات التركية السابقة إلى أن "حزب العدالة والتنمية" الذي يقوده أردوغان تراجع مؤخراً بأكثر من خمس نقاط عن المعارضة الرئيسية. علاوة على ذلك، تمنع حدود الولاية الدستورية أردوغان من الترشح لولاية أخرى في عام 2028، إلا إذا حصل على أغلبية ثلاثة أخماس في البرلمان أو نجح في تعديل الدستور. ويحتاج ائتلافه الحاكم حالياً إلى ما لا يقل عن 36 صوتاً لإجراء انتخابات مبكرة.
وبالتالي، في مواجهة الضغوط السياسية الداخلية، توفر الأزمات الإقليمية لأردوغان فرصة للتشتيت ولتحقيق مكاسب استراتيجية. وطالما استمرت التوترات في الجوار القريب من تركيا، يمكنه الاستمرار في توظيف الصراعات الخارجية لتشتيت الانتقادات الداخلية وحشد قاعدته الشعبية. وفي الوقت نفسه، تمنح الأهمية الاستراتيجية لتركيا بالنسبة للقوى الإقليمية والعالمية أردوغان دوراً لا غنى عنه على الساحة الدولية، وهو دوراً يُحسن استغلاله لإبراز قوته والحفاظ على موقعه السياسي داخلياًً. وفي ظل هذه الديناميكية، يشكل عدم الاستقرار الإقليمي وسيلة لضمان البقاء السياسي تُمكن أردوغان من تعزيز قبضته على السلطة، رغم تفاقم الضعف الداخلي.