- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
الفحم والبترول والغاز والطاقة النووية: المخاطر التي تهدد تلبية الطلب المتزايد على الطاقة في تركيا
من دون مزيد من التنويع في مصادر التوريد، وتوسيع القدرات في مجال الطاقة المتجددة، والاستثمارات الاستراتيجية في الغاز الطبيعي المسال، وإقامة شراكات نووية خارج نطاق روسيا، ستواجه تركيا خطر استبدال شكل من أشكال الاعتماد على الطاقة بشكل آخر.
من المتوقع أن يشهد الطلب على الطاقة في تركيا ارتفاعاً كبيراً خلال العقود المقبلة، حيث يقدر المسؤولون الأتراك أن احتياجات البلاد من الكهرباء ستزداد من 353 إلى 1000 تيراواط في الساعة على مدى الثلاثين عاماً القادمة. وفى السياق ذاته، تشير تقارير حديثة إلى أنه في حال تحققت توقعات الحكومة التركية بشأن أسطول المركبات، فقد يرتفع الطلب التركي على النفط إلى أكثر من الضعف بحلول عام 2050. ولهذا الطلب المتنامي آثار بالغة على الاقتصاد التركي بقدر تأثيره في السياسة الخارجية للبلاد.
لا تزال تركيا تعتمد بشكل كبير على الموردين الأجانب في الفحم والغاز الطبيعي والنفط. وفقاً لتقرير "المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية" الصادر عن معهد الطاقة، في عام 2024، أنتجت تركيا 34٪ من طاقتها من النفط، و26٪ من الغاز، و26٪ من الفحم، و11٪ من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، و4٪ من الطاقة الكهرومائية. ونظراً لعدم كفاية الإنتاج المحلي من الفحم في تركيا لتلبية احتياجات محطات الطاقة، فقد استوردت البلاد 26.5 مليون طن متري من الفحم الحراري في عام 2024، وهو ما يعادل 61٪ من إجمالي استهلاكها من الفحم.
لم يلب إنتاج تركيا المحلي من الغاز سوى 4٪ من احتياجات الاستهلاك في عام 2024. أما الباقي فجاء من الخارج: 42٪ من روسيا، و22٪ من أذربيجان، و14٪ من إيران. وقد أثارت الحقول البحرية التركية التي تم اكتشافها في البحر الأسود في عام 2020 آمال أنقرة، ولكن حتى التقديرات المتفائلة تشير إلى أنها لن تغطي سوى حوالي 30٪ من الطلب الوطني خلال العقد المقبل.
لطالما كان إنتاج تركيا المحلي من النفط الخام غير كاف لتلبية الطلب. في عام 2024، بلغ متوسط إنتاجها من النفط نحو 127 ألف برميل في اليوم. ونتيجة لذلك، اضطرت البلاد إلى استيراد ما يقرب من مليون برميل يومياً من النفط الخام والمنتجات المكررة. وجاءت هذه الواردات من عدد محدود من الموردين، حيث استحوذت روسيا على 56.4٪، والعراق على 16٪، وكازاخستان على 10٪. وفي جميع السيناريوهات، من المرجح أن تستمر واردات النفط الخام في الارتفاع بشكل مطرد.
وبدون تغييرات كبيرة، تخاطر تركيا بربط مستقبلها بشبكة ضيقة من الموردين الخارجيين. تستحوذ روسيا وإيران والعراق وأذربيجان بالفعل على الحصة الأكبر من هيدروكربوناتها. فيما يواجه الموردون البديلين قيود هيكلية خاصة بهم. وفى الوقت عينه، يفتقر العراق إلى البنية التحتية اللازمة للتصدير لتلبية مزيد من الاحتياجات التركية ويعاني من عدم الاستقرار السياسي. لا تزال تركمانستان محاصرة جراء النزاعات القانونية غير المحسومة في بحر قزوين. وأصبحت مصر مستورداً صافياً من جديد. كما تُعد العلاقات التركية ـ الإسرائيلية غير مستقرة بالقدر الكافي الذي يسمح بإطلاق مشروعات طاقة ضخمة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.
بين عامي 2014 و2024، ارتفع إنتاج تركيا من الكهرباء من 252 إلى 353 تيراواط/ساعة. في مزيج الطاقة لعام 2024، استحوذ الفحم على 36% والغاز على 19%، في حين استحوذت المصادر المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية على 18% والطاقة الكهرومائية على 22% من إجمالي إنتاج الكهرباء. ورغم أن التحول إلى السيارات الكهربائية قد يخفف من وتيرة نمو الطلب على النفط الخام في تركيا، إلا أنه لا يؤدي تلقائياً إلى تعزيز أمن الطاقة، إذ إن حاجة البلاد إلى الكهرباء ستزداد بشكل كبير.
تعتزم الحكومة التركية الاعتماد على الطاقة النووية لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الكهرباء. من اللافت أن 78% من قدرات توليد الكهرباء قيد الإنشاء حاليا تعتمد على الطاقة النووية، بينما تعتمد 15٪ على الغاز. ولكن هنا أيضاً، تبدو الصورة أكثر تعقيداً، فالمشروع النووي الوحيد النشط في تركيا، وهو محطة أكويو للطاقة النووية، جرى تمويله وبناؤه من جانب شركة "روساتوم" الروسية، وستتولى الأخيرة تشغيله. وبمجرد أن تصبح المحطة جاهزة للتشغيل الكامل، يتوقع أن تلبي حوالي 10٪ من الطلب الوطني على الكهرباء. ثمة خطط لإنشاء ثلاث محطات طاقة نووية إضافية في مدينتي سينوب وتراقيا، بالشراكة مع ثلاث شركاء محتملين، هم: الولايات المتحدة، واليابان، وكوريا الجنوبية والصين. ومع ذلك، لم يتم الانتهاء من أي من هذه الاتفاقيات.
في الأثناء، قد تجد تركيا نفسها مضطرة لبناء محطات توليد طاقة إضافية تعمل بالغاز والفحم لتلبية الطلب. سابقا، أدى تزايد الطلب على الكهرباء إلى زيادة الاعتماد على الهيدروكربونات المستوردة، لا سيما من روسيا. ويغدو هذا الخطر أكثر حدة إن كان نمو قطاع الطاقة المتجددة في تركيا بطيئا للغاية. وربما لا تترك نقاط الضعف الهيكلية هذه مساحة كبيرة لتركيا للمناورة. ولضمان استمرار تدفق الغاز والوقود النووي من دون انقطاع، ستكون أنقرة بحاجة إلى الحفاظ على علاقات وثيقة مع جيرانها الأغنياء بالطاقة، وغالبيتهم حكومات استبدادية. وبعبارة أخرى، فإن سياسة الاعتماد ليست مشكلة اقتصادية فحسب، بل سياسية أيضا.
يجب أن تكون الاستجابة السياسية متعددة الأوجه:
توسيع قدرة التوليد، لاسيما من مصادر الطاقة المتجددة. شكلت طاقة الرياح والطاقة الشمسية مجتمعين أقل من 20٪ من توليد الكهرباء في عام 2024. وسيتطلب دمج مزيد من مصادر الطاقة المتجددة في الشبكة استثمارات كبيرة في النقل والتخزين وإدارة الشبكة.
إجراء تحسينات متواضعة في الكفاءة، مثل الموصلات المتطورة وأجهزة استشعار الشبكة وإدارة الطاقة الموزعة، التي أثبتت فاعليتها في توفير طاقة تعادل إنتاج محطات توليد جديدة.
تنويع الشراكات. إن الاعتماد على مورد واحد، سواء في أنابيب الغاز أو المفاعلات النووية، ينطوي على مخاطر استراتيجية طويلة الأجل. تحتاج تركيا إلى مجموعة أوسع من الموردين والشركاء الاستثماريين إذا أرادت الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي. وهذا يعني ضرورة أن تعمل مع دول أخرى غير روسيا في مشروعات محطات الطاقة النووية المستقبلية. ومن ثم، وفي ظل استمرار التوسع النووي من دون تنويع الشركاء، قد تجد تركيا نفسها تستبدل تبعية بأخرى. ومع ذلك، يمثل عزم تركيا على التعاون مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في محطتها الثانية للطاقة النووية، خطوة في الاتجاه الصحيح نحو تنويع موردي الطاقة.
بناء مزيد من محطات الغاز الطبيعي المسال (LNG) وتوسيع سعة التخزين. تمضي تركيا فعلاً في الاتجاه الصحيح في هذا الصدد. بحلول عام 2028، تخطط البلاد لزيادة سعة تخزين الغاز الطبيعي إلى 14.4 مليار متر مكعب من خلال توسيع مرافقها الحالية. وبالمثل، تماشياً مع توصيات وكالة الطاقة الدولية بشأن تأمين إمدادات الغاز، وفرت تركيا خمس محطات استيراد الغاز الطبيعي المسال في أنقرة ما يقرب من خمس واردات الغاز في البلاد في عام 2024، حيث استحوذت الجزائر على 10.3٪ والولايات المتحدة على 10٪. علاوة على ذلك، وقعت شركة "بوتاس"، المشغلة الحكومية للأنابيب في تركيا، اتفاقية جديدة في أيلول/سبتمبر مع شركة الطاقة الأمريكية" ميركوريا" لتوريد 70 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال على مدى العشرين عاماً القادمة.
ومع ذلك، لا يزال التسعير يمثل مصدر قلق رئيسي. إذ إن الغاز المنقول عبر خطوط الأنابيب على المدى الطويل أرخص بكثير من الغاز الطبيعي المسال، ولذلك واجهت أحدث اتفاقية للغاز الطبيعي المسال مع الولايات المتحدة لانتقادات شديدة من المعارضة التركية. بيد أنه، على الرغم من التكلفة المرتفعة، تمنح قدرة تركيا على استيراد الغاز الطبيعي المسال ورقة ضغط في مفاوضات الأسعار مع روسيا، إضافة إلى مستوى أعلى من أمن الطاقة من خلال تنويع الإمدادات.
لا ينحصر التحدي الذي تواجهه تركيا في مجال الطاقة فيما إذا كان الطلب سيزداد أم لا، فمن المؤكد أنه سيزداد. السؤال هو ما إن كان بوسع البلاد تلبية هذا الطلب على الطاقة من دون أن تجعل نفسها أكثر عرضة للمخاطر. تمثل كهربة المركبات فرصة للتحول، لكن إن أسيء إدارتها، فقد تعيد إنتاج نموذج الاعتماد على الهيدروكربونات، وإن بشكل مختلف، وعلى شركاء أجانب محدودين. من هنا، تبرز ضرورة تبني استراتيجية مدروسة للتنويع والاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة ومحطات الغاز الطبيعي المسال وقدرات تخزين الغاز وتحديث الشبكة.