
- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
شعب تهامة في اليمن: قصة منسية تحت حكم الحوثيين

رغم مرور سنوات على سيطرة الحوثيين، لا تزال بعض القوى المحلية المقاومة تأمل في استعادة المنطقة من الجماعة التي أحكمت قبضتها على تهامة، سعياً للسيطرة على ميناء الحديدة الاستراتيجي وغيره من الموارد الحيوية في المنطقة.
في السادس من أيار/ مايو، أعلنت إدارة ترامب بشكل مفاجئ توصلها إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع قيادة الحوثيين في اليمن، بموجب اتفاق يقضي بوقف استهداف الحوثيين للممر التجاري الحيوي في البحر الأحمر. غير أن الصراعات داخل اليمن ما زالت مستمرة، لا سيما بين الحوثيين وسكان الحديدة والمناطق المحيطة بها. وقد أثبت إقليم تهامة، وعاصمته الحديدة، أنه يلعب دوراً حاسماً في تأمين الملاحة البحرية في البحر الأحمر، غير أن محنة سكان تهامة العالقين تحت سيطرة الحوثيين لم تحظ باهتمام دولي يذكر. وما زال سكان الإقليم عالقون تحت مظلة "اتفاقية ستوكهولم" التي لم تُنفذ حتى اليوم، وهي اتفاقية جرى التوصل إليها عام 2018 تحت ضغط دولي، وبموجبها ظلت مدينة الحديدة تحت سيطرة الحوثيين.
يقع إقليم تهامة على ساحل البحر الأحمر غرب اليمن، ويمتد من الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية شمالاً إلى مضيق باب المندب جنوباً، وهو ممر بحري استراتيجي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي. ويضم الإقليم، إلى جانب موقعه البحري المتميز، أهم معبر بري يربط اليمن بالسعودية وهو معبر (الطوال)، إضافة إلى موانئ رئيسية على البحر الأحمر، منها الحديدة والصليف ورأس عيسى وميدي والمخا، التي تدر مئات المليارات من الريالات سنوياً. ويجعل هذا الموقع الجغرافي الفريد لإقليم تهامة منه نقطة محورية في التجارة العالمية والاستقرار الإقليمي، نظراً لمرور نسبة كبيرة من حركة الشحن البحري الدولي عبره.
يضم إقليم تهامة ما بين ستة إلى سبعة ملايين نسمة، ينحدرون من قبائل ذات جذور تاريخية عميقة تمتد لأكثر من ألفي عام، مثل قبائل عك والأشاعرة والحكم، ويشتركون في نسيج اجتماعي وثقافي وفكري متماسك. وقد ساهمت الموارد المتنوعة في الإقليم - من موانئ ومصايد للأسماك وزراعة وتربية للماشية في دعم السوق المحلية وتعزيز الصادرات اليمنية. ومن اللافت أن ميناء المخا، إلى جانب موانئ أخرى مثل ميدي، قد شكل مركزاً تاريخياً لتجارة البن العربي، الأمر الذي جعل البن مصدراً رئيسياً للثروة في هذا الإقليم.
وقد جعلت هذه الأهمية إقليم تهامة هدفاً للعديد من القوى العظمى عبر التاريخ، مثل العثمانيين والبرتغاليين والإيطاليين والبريطانيين، الذين سعوا إلى السيطرة على الإقليم وموانئه لتعزيز قوتهم البحرية والتجارية في البحر الأحمر. وفي العصر الحديث، ازدادت القيمة الاستراتيجية للمنطقة، إذ لا يزال ممر البحر الأحمر أحد أبرز الشرايين البحرية في العالم، حيث يمر عبره ما بين 12٪ إلى 15٪ من التجارة العالمية، وما يصل إلى 30٪ من شحنات الحاويات سنويًا، وفقًا لبيانات عام 2023. ومن المتوقع أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي لمنطقة البحر الأحمر من 1.8 تريليون دولار إلى 6.1 تريليون دولار بحلول عام 2050 - أي أكثر من ثلاثة أضعاف - في حين يرتفع حجم التجارة من 881 مليار دولار إلى 4.7 تريليون دولار، أي ما يعادل زيادة بمقدار خمسة أضعاف، مدفوعة بقطاعي الطاقة والنفط. غير أن إقليم تهامة عانى على مدى عقود من التهميش والإقصاء، ويشعر سكانه بأن الحكومات المتعاقبة تتعامل معه كغنيمة حرب ومصدراً لتحصيل الجبايات والإتاوات، لا كمجتمع يستحق الاستثمار في موارده البشرية وبنيته التحتية. وقد أشار يمنيون من تهامة على وجه الخصوص، إلى الأكاديميات العسكرية والأمنية - بما في ذلك الأكاديمية البحرية في الحديدة - باعتبارها مؤسسات تُعتبر مخصصة إلى حد كبير لأبناء الطائفة الزيدية، دون وجود معايير عادلة في التوزيع.
وفي الآونة الأخيرة، أصبحت الثروة الجغرافية لتهامة هدفاً رئيسياً لميليشيات الحوثي المدعومة من قبل إيران. فمنذ استيلائهم المبكر على مدينة الحديدة في سياق النزاع، استخدم الحوثيون الميناء كمنفذ لتلقي شحنات من الأسلحة المهربة، عبر شبكة واسعة يشرف عليها "الحرس الثوري الإيراني."ومؤخراً، عمدوا إلى شل حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر - باستثناء السفن الروسية والصينية - الأمر الذي كبد الاقتصادات الغربية خسائر بمليارات الدولارات، وأدى إلى تراجع حاد في عائدات قناة السويس.
ومع ذلك، لا ينبغي الخلط بين الحوثيين والسكان المحليين في إقليم تهامة. فخلال الغزو الأول لميليشيات الحوثي لتهامة والحديدة في أواخر عام 2014، اندلعت احتجاجات واسعة النطاقرفضاً لهذا الاحتلال. وجاءت هذه الاحتجاجات انطلاقاً من التزام السكان بمخرجات الحوار الوطني- التي أُطيح بها على يد الحوثيين وحليفهم آنذاك، الرئيس السابق علي عبد الله صالح - والتي كانت ستمنح إقليم تهامة، لو نُفذت، مشاركة أكثر عدلاً في السلطة والثروة من خلال تشكيل نظام فيدرالي إقليمي. كما لعب التوتر الديني دورًا بارزًا في اندلاع الاحتجاجات، إذ عبر سكان تهامة، المنتمون إلى المذهب الشافعي المعتدل، عن رفضهم لمحاولات الحوثيين فرض هيمنتهم السياسية ورؤيتهم الخاصة للعقيدة الزيدية.
وعندما قابلت ميليشيات الحوثي تلك الاحتجاجات بالعنف والقمع المسلح، دفع ذلك السكان المحليين إلى حمل السلاح وتشكيل مقاومة شعبية للدفاع عن أراضيهم. واستمرت المقاومة في الإقليم حتى أواخر عام 2018، حين تقدمت قوات المقاومة التهامية، بالتعاون مع القوات الجنوبية وحراس الجمهورية، وبدعم من الجيش الإماراتي ضمن التحالف العربي، إلى مسافة قريبة من ميناء الحديدة. وقد حررت هذه المقاومة أجزاء واسعة من المدينة، وفرضت حصاراً على العناصر الحوثية المتبقية. وكانت القوات على وشك استعادة المدينة، إلا أن تدخل الضغوط الدولية - بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة - حال دون ذلك عبر فرض "اتفاقية ستوكهولم". وينص هذا الاتفاق، نظرياً، على انسحاب ميليشيا الحوثي من مدينة وميناء الحديدة، ومن باقي موانئ إقليم تهامة.
غير أن هذا الاتفاق، الذي تم التوصل إليه برعاية الأمم المتحدة، أوقف التقدم العسكري، ومنح الحوثيين فرصة لتعزيز سيطرتهم على المنطقة، ما أدى إلى إطالة أمد الأزمة دون التوصل إلى حل جذري. وعندما رفض الحوثيون الالتزام بمعايير "اتفاقية ستوكهولم"، ومن دون أن تعتمد المجموعة الرباعية آليةً فعالة لتنفيذ بنودها، شعر الحوثيون بأنهم قادرون على زيادة عمليات الإمداد والتهريب، التي تُسهّلها سيطرتهم على الحديدة وساحل تهامة، مما عزَّز من قدراتهم في الحصول على أسلحة متطورة تُمكّنهم اليوم من إسقاط طائرات بدون طيار من طراز MQ-9، بل ومحاولة إسقاط طائرة F-16 فوق البحر الأحمر.
ومن المفارقات أنَّ فرض "اتفاقية ستوكهولم" لـ “أسباب إنسانية"، رغم افتقادها لآلية ضغط فعالة على الحوثيين، أتاح استمرار قمع سكان تهامة الأصليين في غرب اليمن. وتأتي سيطرة الحوثيين على الممرات المائية في البحر الأحمر على حساب سكان الإقليم الأصليين، الذين اعتمدوا تاريخياً على هذه المياه للصيد، وليس لممارسة القرصنة التي يقوم بها الحوثيون، بالإضافة إلى ما يشكله ذلك من تهديد للأمن الوطني والإقليمي والدولي. وقد زادت الميليشيا من معاناة الإقليم من خلال نهب عائدات موانئ تهامة وفرض ضرائب ورسوم مختلفة على السكان، والمتاجرة بالخدمات مثل الكهرباء، في انتهاك صارخ لشروط "اتفاقية ستوكهولم."
كما قتل الحوثيون عدد من سكان تهامة الأصليين انتقاماً من الضربات الدولية التي استهدفت قياداتهم. في آب/أغسطس 2020، أصدرت ميليشيا الحوثي حكماً بالإعدام على الرئيس ترامب و61 متهماً آخرين، من بينهم 10 من سكان إقليم تهامة الذين تم إعدامهم ورقصوا على جثثهم، فيما جاء ترامب في المرتبة التالية على قائمة الإعدام، حسب ادعاء الحوثيين. وقد جاء ذلك رداً على اتهامات الحوثيين لهم بالمسؤولية عن مقتل الزعيم الحوثي صالح الصماد، رئيس المجلس السياسي للجماعة، الذي قُتل في غارة جوية في تهامة بالحديدة في 19 نيسان/أبريل 2018. وقد حدث ذلك قبل أن تقوم قوات الحكومة الشرعية، بما في ذلك قوات المقاومة التهامية، بحصار مدينة وميناء الحديدة من ثلاث اتجاهات، وكان ذلك بعد تحرير الشريط الساحلي الاستراتيجي في تهامة على طول البحر الأحمر، من باب المندب حتى الحديدة.
ففي الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر2021، نفذ الحوثيون عملية إعدام بحق تسعة من أبناء تهامة في صنعاء (الصورة أعلاه)، بينهم قاصر (وقُتل عاشر تحت التعذيب في سجون الحوثيين في وقت سابق)، بعد اتهامهم زوراً بالتورط في مقتل زعيم الحوثيين صالح الصمد، رئيس مجلسهم السياسي، الذي لقي حتفه في غارة جوية للتحالف. ويقول عبد المجيد صبرة، محامي الضحايا، إن الاعترافات انتُزعت جبراً تحت التعذيب الوحشي، وأن أحدهم توفي في السجن نتيجة لذلك. ورغم الإدانات الواسعة التي أطلقتها الدول الأجنبية ضد عمليات القتل هذه، لم تترجم تلك الإدانات إلى خطوات عملية ضد ميليشيا الحوثي، مما يبرز مرة أخرى نمطاً من الإفلات من العقاب لدى الحوثيين تجاه السكان المحليين.
في أيار/مايو 2024، اختطف الحوثيون 11 من سكان تهامة، واتهموهم زوراً بالتجسس لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، بينما اختطفوا أكثر من 60 آخرين في صنعاء بتهم مماثلة. وقد تعرض هؤلاء الأفراد لتعذيب شديد وإذلال علني، بما في ذلك عرضهم في الأماكن العامة وتشويه صورهم. وفقاً للمعلومات المتاحة وسجلات التحقيق، أنكر بعض المختطفين جميع التهم الموجهة إليهم أمام النيابة العامة التي يسيطر عليها الحوثيون، مشيرين إلى أن الاعترافات المسجلة بالفيديو قد انتُزعت تحت التعذيب الشديد. وفي الآونة الأخيرة، في 17 كانون الأول/ديسمبر 2024، اختطف الحوثيون امرأة تبلغ من العمر 45 عاماً من منطقة تهامة من مخيم النازحين في منطقة الدريهمي جنوب الحديدة؛ وفي 28 كانون الأول/ديسمبر، عثر مواطنون على جثتها ملقاة في منطقة صحراوية بالمدينة، تحمل آثار تعذيب .
وبخلاف الانتهاكات المباشرة ضد اليمنيين في تهامة، تودي الألغام التي زرعها الحوثيون بحياة العديد من المدنيين، معظمهم من الأطفال والنساء. ويشكل نمط العنف الطائفي والاختطاف والتعذيب والتشريد القسري الذي تمارسه جماعة الحوثي ضد سكان تهامة انتهاكاً صارخاً للمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ويشمل ذلك الفظائع الأخيرة في بني عباقة والدريهمي والقصرة والدقاونة في منطقة باجل شرق الحديدة وقريتي منظر وجنوب الجراحي.
واليوم، لا تزال ميليشيا الحوثي تسيطر على هذا الميناء البحري الاستراتيجي، مما يتيح لها نفوذاً واسعاً لاستئناف هجماتها ضد شبكات النقل البحري في أي وقت. وفي الوقت نفسه، تستمر مقاومة تهامة في الصمود، حيث تضم حالياً سبعة ألوية تهامية خالصة تتمركز جنوب الحديدة، إلى جانب القوات الجنوبية وحراس الجمهورية، والأخيرة تتألف ألويتها أيضاً في الغالب من ضباط وجنود من إقليم تهامة. ولإنهاء هيمنة الحوثيين ونفوذهم المتنامي بشكل مستدام، لا تكفي المقاربات العسكرية الخارجية وحدها؛ فاستمرار التهديد الذي يُشكّله الحوثيون على أمن التجارة العالمية واستقرار اليمن يتطلّب استراتيجية محلية شاملة ومستدامة لمواجهة الحوثيين.
إذا توفر اهتمام دولي بتأمين البحر الأحمر على المدى الطويل، فإن المقاومة المحلية في تهامة وشركاءها مستعدون، بدعم كاف، لخوض القتال من أجل تحرير الحديدة والمنطقة بأسرها من سيطرة الحوثيين. إن إنهاء سيطرة الحوثيين على أراضي الحديدة والصليف ورأس عيسى سيحرم الميليشيا من مصادر تمويل كبيرة وضرورية لجهودها الحربية، وسيعيد الحكم إلى السكان المحليين. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تعزيز دور سكان تهامة في قوات خفر السواحل اليمني لضمان السيطرة المحلية الفعالة على المياه الإقليمية. وكما يقول المثل العربي: "أهل مكة أدرى بشعابها"، فالسكان المحليون هم الأقدر على حماية أراضيهم ومصالحهم بفضل معرفتهم الدقيقة بتضاريسها واحتياجاتها.