- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
لا تنخدعوا بنسبة المشاركة الانتخابية المعلنة: تحليل الانتخابات العراقية بالأرقام
عند مقارنة نتائج الانتخابات الأخيرة في العراق مع الاتجاهات الديموغرافية للبلاد، يظهر فرق واضح بين نسبة العراقيين الذين تعكس أصواتهم تركيبة البرلمان الجديد ونسبة إجمالي السكان العراقيين.
شكلت الانتخابات العراقية البرلمانية التي جرت في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025 منعطفاً مفصلياً في تاريخ الدولة العراقية في حقبة ما بعد 2003. للوهلة الأولى، بدت هذه الانتخابات وكأنها تكسر مسار العزوف السياسي، مع تسجيل ارتفاع ملحوظ في عدد المرشحين للبرلمان مقارنة بالانتخابات السابقة، إذ زاد عدد المرشحين للبرلمان (7926 مرشح يتنافسون على 329 مقعد نيابي) زيادة كبيرة جداً مقارنة بكل الانتخابات السابقة. كما رافق ذلك زيادة هائلة في حجم الانفاق الذي قُدر بمليارات الدولارات، هذا فضلاً عن زيادة خالفت كل التوقعات في نسبة المشاركة في الانتخابات. ومع ذلك، فإن الاكتفاء بقراءة الأرقام الإجمالية الصادرة عن "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات" (IHEC)، دون التعمق في التفاصيل الجوهرية، قد يفضي إلى تكوين انطباعات مضللة واستنتاجات غير دقيقة بشأن دلالات الانتخابات الأخيرة في العراق على التفضيلات السياسية للعراقيين.
إعادة احتساب نسبة المشاركة في الانتخابات
يُظهر تحليل أدق للأرقام الفجوةَ الكبيرة بين عدد السكان البالغين في العراق وعدد الذين أدلوا بأصواتهم فعلياً، فقد اعتمدت الانتخابات العراقية لعام 2025، التصويت الإلكتروني فقط والذي يستلزم حصول كل الناخبين المؤهلين eligible voters) على بطاقة الناخب الالكترونية حتى يتسنى لهم المشاركة في الانتخابات. ومع ذلك، هناك ما يقرب من 7.8 مليون عراقي في سن التصويت لم يحصلوا على هذه البطاقة، إما نتيجة إخفاقات إدارية ولوجستية، أو بسبب عدم رغبتهم في المشاركة.
وبناء على ذلك، ورغم ارتفاع إقبال الناخبين المؤهلين الحاصلين على البطاقات البايومترية، فإن عدد الناخبين في هذه الانتخابات، البالغ 21.4 مليون ناخب، جاء أقل بشكل لافت من عدد الناخبين في انتخابات عام 2021، الذي تجاوز 22.1 مليون ناخب. ويُعد هذا الانخفاض أكثر وضوحاً في ضوء النمو السكاني الكبير الذي شهدته السنوات الأربع الماضية، إذ ارتفع عدد العراقيين الذين بلغوا سن التصويت اليوم بأكثر من أربعة ملايين شخص. ومن ثم، لم تتجاوز نسبة البالغين العراقيين المصنَّفين كناخبين مؤهلين والحاصلين على بطاقات بايومترية 73%، مقارنة بـ 88% في عام 2021. وفي حين أعلنت "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات" عن نسبة مشاركة تقارب 56% استناداً إلى تعريفها للناخبين المؤهَّلين، فإن نسبة المشاركة الانتخابية قياساً إلى إجمالي العراقيين الذين تبلغ أعمارهم 18 عاماً فأكثر لا تتجاوز 41% فقط.
ومن المؤشرات الأخرى على حالة التشاؤم السياسي ارتفاع عدد الأصوات الباطلة هذا العام. لقد وصل عدد الأصوات الباطلة هذه المرة إلى حوالي 730 ألف صوت أي 6% من مجمل أصوات الناخبين، وهو ما يعكس ليس مجرد أخطاء في ملء بطاقة الاقتراع وانما رغبة مقصودة في مقاطعة الانتخابات من قبل أولئك الذين أُجبروا على ما يبدو للتوجه لصناديق الاقتراع ولا سيما في إطار التصويت الخاص الذي يشمل أفراد القوات المسلحة العراقية، والنازحين داخلياً، والسجناء. وإذا احتسبنا نسبة المشاركة بحسب الأصوات الصحيحة فقط مقارنة بعدد العراقيين الكلي (أكبر من 18 سنة) فان نسبة المشاركة ستنخفض الى 38.5% وهي قريبة جداً من نسبة المشاركة في الانتخابات السابقة والتي اعتمدت ايضاً التصويت بالبطاقة البايومترية.
لقد شهد يوم الانتخابات حدثين رئيسين قد يكونا اثرا بشكل واضح في سلوك الناخبين ودفعهم للمشاركة بشكل متزايد خاصة في مناطق بغداد وجنوبها. تمثل الحدث الأول بفيديو قديم تم نشره والترويج له يظهر فيه ممثل المرجعية العليا في النجف الشيخ عبد المهدي الكربلائي وهو يدلي بصوته في الانتخابات مما اعتُبر من قبل الكثيرين على أنه دعوة من القيادات الدينية الشيعية للمشاركة في الانتخابات. وعلى الرغم من ان الفيديو كان قديماً الا ان الكثيرين تداولوه وصدّقوه حتى ان السيد مقتدى الصدر رد عليه مخاطباً الشيخ الكربلائي: (كنا نأمل منك الأفضل لإنقاذ العراق). ان ما يدلل على أهمية الفيديو بشكل واضح هو تلك القفزة الكبيرة في أعداد الناخبين والتي حصلت في النصف الثاني من يوم الانتخابات. ففي بعض المحافظات والمناطق بخاصة في بغداد وجنوبها مثل ميسان والنجف وذي قار وبغداد الرصافة، تضاعفت نسبة المشاركة في الساعات الستة الأخيرة من يوم الانتخابات بنسبة تصل إلى حوالي 150. %
أما الحدث الثاني المهم جداً فتمثل في الزيادة الفلكية بعدد مراقبي الكيانات داخل مراكز الاقتراع، إذ بلغ عددهم نحو مليوني مراقب، وهو ما يعني، عملياً، وجود مليوني صوت مُسبق في صناديق الانتخاب، بحكم طبيعة عمل هؤلاء المراقبين المدفوع الأجر.
كل هذه العوامل تشير إلى أن رغبة العراقيين في المشاركة قد انخفضت فعلاً حتى وأن زادت نسبة المشاركة وهو ما يعكس مزاج شعبي أكثر سلبية تجاه الانتخابات خصوصاً، وتجاه العملية الديموقراطية عموماً وهو الامر الذي ينعكس بوضوح في استطلاعات الرأي المستمرة منذ 23 سنة للآن والتي تجريها المجموعة المستقلة للأبحاث.
الأصوات المفقودة والتوازن الطائفي غير المتكافئ
تزداد الصورة تعقيداً عند مقارنة عدد الأصوات الكلية التي حصلت عليها الأحزاب التي يمكن تصنيفها "شيعية او سنية او كوردية" مع التقديرات الخاصة بأصوات كل طائفة استنادا إلى عدد السكان في كل محافظة وقضاء وناحية وفق الإحصاء السكاني الأخير لعام 2024، فضلاً عن آلاف استطلاعات الرأي الميدانية التي أجرتها الفرق البحثية في "المجموعة المستقلة للأبحاث" على مدى 22 سنة الماضية. لقد حصد أعضاء البرلمان الذين يمكن تصنيفهم بأنهم تابعين لأحزاب وقوى (شيعية) أكثر من 5.5 مليون صوت مشكلين ما مجموعه 188 مقعداً تقريباً تمثل 58% وهو اقل بثمان مقاعد مما حصلت عليه الأحزاب الشيعية في الانتخابات الماضية. أما الأحزاب والكتل التي يمكن تصنيفها بأنها سنية فقد حصدت بحدود 2,750,000 صوت انتجت لها 77 مقعداً في الانتخابات (23% من مقاعد البرلمان). في حين جمعت الأحزاب الكوردية ما مجموعه 2.16مليون صوت أمنت لها 54 مقعداً (16% من مجمل مقاعد البرلمان).
وبمقارنة هذه النتائج بالتقديرات الديموغرافية للبلاد، يتجلى لنا الاختلاف في وزن كل مقعد في البرلمان. ففي حين ان كل 29 ألف صوت (شيعي) استطاع ان يؤمن مقعد واحد في البرلمان، فأن كل مقعد (سني) احتاج إلى 35 ألف صوت. أما الكورد فأن كل 40 ألف مصوت منهم استطاعوا تأمين مقعد واحد فقط. ومن ثم، تشير تلك الأرقام إلى أن 45% فقط من الناخبين (يمثلون الشيعة) حددوا مصير 58% من مقاعد البرلمان الكلية، في حين ان 55% من مجموع الناخبين (يمثلون السنة والكورد والأقليات) لم يتمكنوا سوى حسم مصير 42% من مقاعد البرلمان.
علاوة على ذلك، تعكس هذه التباينات اختلاف معدلات المشاركة في المناطق التي تشكل فيها كل مجموعة أغلبية؛ إذ جاءت نسب المشاركة أدنى في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، وأعلى في المناطق الكردية والسنية، وهو ما رفع "كلفة" كل مقعد بالنسبة لأحزاب المكوّنات الأخيرة. كما ان هذا التباين قد يعكس تبايناً في عدد المقاعد المخصصة لكل محافظة او داخل كل محافظة مقارنةً بالتركيبة السكانية الراهنة للعراق. وتشير هذه النتائج إلى أن هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في توزيع المقاعد على المحافظات طبقاً لمعطيات التعداد السكاني الأخير لعام 2025.
علاوة على ذلك، أسهم قانون الانتخابات العراقي الحالي في "اهدار" جزء كبير من الأصوات لصالح المرشحين الخاسرين. فقد حصل أعضاء البرلمان الشيعة الفائزون على نحو 1.89 مليون صوت) مقابل -5.5 و5.7 مليون صوت)، فيما حاز النواب الفائزون من (السنة) على 960 ألف صوت (مقابل 2.65– 2.85 مليون صوت)، وحاز النواب الكورد على 1.1 مليون صوت تقريباً (مقابل 2.1– 2.2 مليون صوت). هذا يعني ان كل النواب (الشيعة) لا يمثلون سوى حوالي 34% من مجمل المصوتين الشيعة، في حين ان النواب الجدد من (السنة) يمثلون حوالي 35% من مجمل المصوتين السنة. اما النواب (الكورد) فيمثلون حوالي 50% من مجمل أصوات ناخبيهم.
وهنا، مرة أخرى، يتبين أنه رغم ارتفاع معدل المشاركة المُعلن، فإن مجموع الأصوات التي حصل عليها النواب الفائزون جاء أقل من مجموع أصوات البرلمان السابق، إذ بلغ 3,976,450 صوتاً مقابل 4,066,000 صوتاً. ويبرز هذا التباين الفروق بين القانون الانتخابي السابق، القائم على نظام التصويت الفردي غير القابل للتحويل (SNTV)، حيث يدلي كل ناخب بصوت واحد لمرشح واحد مع وجود أكثر من مقعد يُشغل في كل دائرة انتخابية، وبين القانون الانتخابي الحالي القائم على النظام النسبي، الذي تُوزع فيه المقاعد بين المرشحين بصورة نسبية. مع ذلك، فإن زيادة أعداد الناخبين لم يتم ترجمتها إلى تمثيل أفضل للناخبين في البرلمان وهو الهدف الأساس من وراء أي استحقاق انتخابي.
في الواقع، كان من الممكن أن يؤدي العدد الكبير من الأصوات التي خسرتها بعض الكتل الانتخابية- نتيجة قانون الانتخاب الجديد- إلى تغيير المعادلة الانتخابية بالكامل. لكن، تمكنت كتلتين فقط من تجاوز حاجز المليون صوت هما "الاعمار والتنمية" (1.3 مليون) و"الديموقراطي الكوردستاني" (1.04 مليون). مع ذلك فقد كانت هاتين الكتلتين هما الخاسر الأكبر من آلية احتساب المقاعد الفائزة. فبمقارنة عدد أصوات "الفائزين فقط بمقعد انتخابي" مع عدد الأصوات الكلية التي حازت عليها الكتلة، يتضح ان كتلة "الاعمار والتنمية" خسرت 734 ألف صوت تمثل 57% من مجمل اصواتها الكلية. بالمقابل فقد خسرت كتلة "الديموقراطي الكوردستاني" 544 ألف صوت تمثل 52% من مجمل أصوات ناخبيها. ولم يكن حظ كتلة "صادقون" أفضل اذ خسرت 68% من مجمل اصواتها الكلية في حين خسر "تقدم" 500 ألف صوت (54%) من مجمل اصواته.
وفي ضوء هذه التطورات مجتمعة، لا يمثّل البرلمان الحالي سوى نحو ثلث العراقيين البالغ عددهم 21 مليون شخص ممن أدلوا بأصواتهم في الانتخابات، أي ما يعادل نحو 13% فقط من إجمالي السكان العراقيين البالغين. وهنا ينبغي تحذير السياسيين المنتشين بزيادة عدد المشاركين في الاستحقاقات الانتخابية. وبالنظر إلى النسبة الضئيلة من العراقيين الذين بلغوا سن التصويت والذين يُمثلون فعلياً في البرلمان الجديد، من المرجح أن يواجه البرلمانيين مهمة شاقة لإقناع العراقيين بأن هذه الانتخابات قد جلبت لهم أفضل السياسيين الممكنين.
ما هي الأحزاب التي استفادت من الانتخابات الجديدة؟
أسهم كل من الإرادة السياسية العراقية والنظام الانتخابي الجديد في إحداث تغيّر ملحوظ في تركيبة البرلمان الحالي. فحتى وقت قريب، كانت الأحزاب الإسلامية تحقق نتائج أفضل في الانتخابات التي أعقبت عام 2003 مقارنةً بالأحزاب المدنية، مع الإشارة إلى أن وصف هذه الأخيرة بـ"العلمانية" يظل غير دقيق إلى حد ما، نظراً إلى غياب طابع علماني واضح في برامجها وهويتها السياسية. شكل الاسلاميون حوالي ثلثي أول دورة برلمانية، وشكلوا 54% من الدورة البرلمانية الثانية. ثم عادوا ليصعدوا إلى 61% من مقاعد الدورة الثالثة. وقد بلغت قوة هذه الأحزاب في مرحلة ما بعد عام 2003 حدا دفع بعض العراقيين إلى اتهام الولايات المتحدة بالتآمر من أجل "أسلمة" العراق، وهو ما يعكس حجم الدور المحوري الذي كان يُنظر إلى هذه الأحزاب على أنها تؤديه خلال تلك الفترة.
مع ذلك يلاحظ أن الناخب العراقي قد أنقلب على القوى الاسلامية في دورة 2018 بعد ان حملها مسؤولية الفشل الذي عانى منه العراق منذ 2003، عندما شكلت الأحزاب المدنية أغلبية بسيطة في البرلمان (52%). واستمر الإحباط من النظام السياسي، ليتجلى لاحقاً في انتفاضة تشرين عام 2019، ثم واصل هذا المسار حضوره في انتخابات عام 2021، التي مثلت ما يشبه "انقلاباً أرجوانياً" ضد الطبقة السياسية الحاكمة. وقد حققت الحركات المدنية آنذاك نجاحاً غير مسبوق بحصولها على 57% من مقاعد البرلمان، مقابل 40% فقط للجماعات الإسلامية. وجاء هذا التحول على الرغم من مقاطعة معظم الأحزاب المدنية للانتخابات، في حين شاركت جميع الجماعات الإسلامية السياسية، الشيعية والسنية والكردية، في الاستحقاق الانتخابي.
ومع ذلك، غيرت الانتخابات الأخيرة هذا المسار، حيث إن مقاطعة القوى المدنية للانتخابات والتي ترافقت مع حملة كبيرة قادها المؤثرون والمثقفون العراقيون لأقناع الناخبين بالمقاطعة من جهة، وفشل ممثلي القوى المدنية (والتشرينية) في برلمان 2021 من جهة ثانية، ونجاح قوى الإسلام السياسي الحاكمة والمتمرسة في شن حملة لشيطنة تشرين وقواها المدنية من جهة ثالثة أدى إلى خسارة مكاسب برلمان 2021 بالنسبة للقوى المدنية والتي تراجعت نسبتها من 57% في البرلمان السابق إلى 44.6% في البرلمان القادم.
لكن هذا التراجع في وزن القوى المدنية لم ينتج عنه صعود كبير لقوى الإسلام السياسي التي حصلت على 39% من المقاعد. كما انخفض إجمالي الأصوات؛ فوفقاً لأرقام "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات"، حصلت جميع الجماعات الإسلامية مجتمعة في هذه الانتخابات على نحو 3.5 ملايين صوت، أي ما يعادل 33% من إجمالي الأصوات (انظر الشكل 3)، وهو تراجع طفيف مقارنة بنسبة 34% المسجّلة في عام 2021. ويعكس هذا المستوى من التنظيم قدرة الحركات الإسلامية على تعبئة قواعدها الشعبية والاستفادة منها بفاعلية، حتى مع تراجع مستوى الدعم العام لها. علاوة على ذلك، فإن الغالبية العظمى من الإسلاميين الذين ما زالوا في البرلمان هم من الشيعة، إذ لم يشارك "الحزب الإسلامي السني" في الانتخابات، بينما حصلت الأحزاب الإسلامية الكردية على خمسة مقاعد فقط. ومع ذلك، يعاني الإسلاميون الشيعة أيضاً من خسائر انتخابية مع مرور الوقت، حيث يمثلون الآن 66٪ فقط من إجمالي المقاعد المخصصة للشيعة في جميع أنحاء العراق. وبناءً على ذلك، يتضح أن خسائر غير الإسلاميين لم تتحول إلى مكاسب انتخابية للإسلاميين في انتخابات عام 2025 - فماذا حصل فعلاً؟
شهدت ظاهرة الأحزاب والتكتلات المختلطة او غير واضحة المعالم -التي تضم سياسيين يدعون إلى إقامة دول دينية ومدنية في آن واحد - نمواً كبيراً في هذه الانتخابات، إذ باتت تمثّل الآن 19% من المقاعد، بعد أن كانت لا تشغل سوى 2– 4% من المقاعد في البرلمانات الثلاثة السابقة (2014 و2018 و2021). وبشكل عام، تفتقد هذه الحركات عموماً لايدلوجية فكرية واضحة ومبنية غالباً على تحالفات انتخابية مؤقتة. لعل تكتل الاعمار والتنمية الذي فاز بأكثر مقاعد برلمانية من بين الكتل المتنافسة أفضل مثال على هذا التصنيف الذي شمل "حزب جند" الامام بقيادة احمد الاسدي و"تحالف الوطنية" بقيادة علاوي(العلماني). وتمثّل هذه التكتلات مزيجاً جاذباً لكثير من العراقيين، إذ تجمع بين خطاب مدني أو شبه علماني، وقيم دينية راسخة وواضحة.
ومع ذلك، لم يتراجع تأثير الإسلام السياسي على المشهد السياسي العراقي عموماً بالقدر نفسه. فالإسلام السياسي، ولا سيما في شقه الشيعي، لا يزال يهيمن على مفاتيح الحكم، ليس في السلطة التنفيذية فحسب، بل في مجمل مؤسسات الدولة. ولعل أبرز دليل على ذلك أن "الإطار التنسيقي الشيعي"- الذي يشكل الإسلام السياسي أكثر من ثلثَي مكوناته-أضحى الطرف المهيمن الذي لا يحدد رئيس الوزراء فحسب، بل يشارك أيضاً في اختيار رئيسي الجمهورية والبرلمان.
تمثيل الجماعات المسلحة في برلمان عام 2025
حصلت الجماعات المسلحة على نسبة من المقاعد تفوق حجم قاعدتها الانتخابية في البرلمان الأخير. فعلى الرغم من ان الدستور العراقي نص صراحة في مادته التاسعة على رفض تأسيس جماعات مسلحة خارج نطاق الدولة فضلاً عن انه منع افراد القوات المسلحة عموماً من الترشيح للانتخابات فأن ظاهرة مشاركة افراد تلك الجماعات في الانتخابات ليست جديدة، إذ ان "قوات بدر" و"جيش المهدي" اشتركا في أول انتخابات عراقية جرت في عام 2005 ضمن قائمة الائتلاف العراقي الموحد التي حصدت المركز الأول وشكلت الحكومة آنذاك.
مع هذا فقد شهدت انتخابات 2018 دخول جماعات مسلحة جديدة (أغلبها شيعية) تحت قبة البرلمان بعد مساهمة تلك الجماعات في مقاتلة "داعش"، وصدور "قانون الحشد الشعبي" رقم 40 لسنة 2016 والذي أتاح لبعض تلك الجماعات الانضواء تحت مظلة القوات الأمنية الرسمية العراقية (كلياً او جزئياً). بالتالي نشأ في العراق تصنيفان لتلك الجماعات. الأول هو تصنيفها (العسكري) طبقاً لموقعها ضمن القوات المسلحة للدولة العراقية اذ تصنف إلى:
1. جماعات مسلحة (مدمجة) Merged تم استيعابها بالكامل ضمن مؤسسة الحشد الشعبي.
2. جماعات مسلحة (هجينة) Hybrid وهي جماعات لديها قوات مسلحة داخل منظومة الحشد، وأذرع مسلحة خارج سيطرة الدولة.
3. جماعات مسلحة مستقلة ولا ترتبط بالدولة في العراق وتعمل بمعزل عنها.
ويتعلق التصنيف الثاني بمدى وجود هذه الجماعات في المشهد الانتخابي العراقي من عدمه. فهناك جماعات مسلحة معظمها من الجماعات الهجينة ممثلة في البرلمان. في حين ان هناك جماعات أخرى، لم تدخل للآن في المعترك الانتخابي. يوضح الشكل (4) ان عدد المقاعد البرلمانية للجماعات المسلحة في 2018 بلغ 99 مقعداً (97 منها للشيعة) يمثلون 30% من مقاعد البرلمان الكلية. اما في 2021 فقد انخفض عددهم إلى 96 مقعد (92 منها للشيعة) يمثلون 29% من مجموع مقاعد البرلمان. وقد انخفضت هذه النسبة بشكلٍ كبير عقب انسحاب التيار الصدري - الذي لديه ذراع مسلح، وحاز على المرتبة الأولى في الانتخابات السابقة (73 مقعد نيابي) - من العملية السياسية. اما الانتخابات الأخيرة فقد انخفض عدد مقاعد الجماعات المسلحة إلى 61 مقعداً (56 منها للشيعة) يمثلون 18.5% من برلمان العراق القادم/ مما يعني ان الوزن النسبي لمقاعد الجماعات المسلحة قد تقلص كثيراً
لكن وعلى الرغم من مقاطعة التيار الصدري لهذه الانتخابات فان عدد الأصوات التي حازت عليها الجماعات المسلحة زاد من حوالي 1.4 مليون صوت في عام 2021 (بما في ذلك أصوات الحركة الصدرية)، إلى 1.627 مليون صوت تقريباً في هذه الانتخابات. على الجهة المقابلة فقد تضاعف مجموع عدد مقاعد "تنظيم بدر" المسلح و"عصائب اهل الحق" من 17 مقعد في عام 2021 إلى 45 مقعد في الانتخابات الأخيرة. كما زاد عدد مقاعد "كتائب حزب الله" من مقعد واحد في 2021 إلى 6 مقاعد في هذه الانتخابات فضلاً عن دخول جديد لـ "كتائب الامام علي" (بقيادة شبل الزيدي) والتي حصدت 5 مقاعد. كما يجب ملاحظة ان جميع الفصائل المسلحة التي لديها أذرع سياسية داخل برلمان 2026 مرتبطة بإيران سواءً بشكل مباشر او غير مباشر مما يزيد من حجم النفوذ الإيراني داخل البرلمان القادم.
لقد بلغ مجموع الأصوات التي حازت عليها الجماعات المسلحة في انتخابات 2025 أكثر من 1.627 مليون صوت اجمالاً مثلت ما نسبته 16% من اجمالي الأصوات الصحيحة منها ما يقارب 450 ألف صوت تمثل ما نسبته 11% من مجمل أصوات الفائزين في البرلمان. وإذا اخذنا بعين الاعتبار نسبة المشاركة الفعلية في هذه الانتخابات فضلاً عن نسبة المقاطعة في المناطق الجنوبية التي تنتمي لها تلك الجماعات فأن من الواضح ان نسبة جمهور تلك الجماعات هو اقل بكثير من 10% من اجمالي الناخبين الشيعة. مع ذلك فأن تواجد ممثلي هذه الجماعات في أهم مؤسسة تشريعية في العراق وارتباطاتهم العقائدية (واحياناً التنظيمية) بخارج العراق يجعل وزنهم السياسي وتأثيرهم في مستقبل العراق أكبر بكثير من وزنهم الجماهيري المنخفض.
على الرغم من الزيادة الواضحة في نسبة المشاركة في الانتخابات العراقية الأخيرة إلا أن ذلك لا يعكس حقيقةً رضا الشارع العراقي عن العملية السياسية والديموقراطية في العراق. فزيادة نسبة العزوف عن المشاركة وكثرة أوراق الاقتراع الباطلة، وكثرة المال السياسي الذي تم ضخه في هذه المرة بخاصة من خلال توظيف الأحزاب الثرية لعدد هائل من "المراقبين" للانتخابات كلها مؤشرات على وجود خلل هيكلي ووظيفي في عملية الانتخابات العراقية.
علاوة على ذلك، يُشيرالعدد الكبير من الأصوات الباطلة لأولئك الذين أدلوا بأصواتهم إلى وجود مشكلة أخرى. فعلى الرغم من التغيير المستمر لقانون الانتخابات العراقية في كل دورة تقريباً إلا أن تطبيق القانون الحالي "النسبي" بحاجة لمراجعة حقيقية ليس من جهة آلياته وانما طريقة احتساب المقاعد الفائزة وعدد الدوائر الانتخابية. وعند المقارنة بالقانون السابق (قانون 2021) فأن القانون السابق يبدو انه كان أقرب تمثيلا ًللشارع العراقي ومكوناته المختلفة. وهنا يجب الاخذ بنظر الاعتبار معطيات التعداد السكاني الأخير الذي اجري في عام 2024، إذ ان مقارنة أرقامه بعدد المقاعد المخصصة لكل محافظة يبدو بحاجة جدية للمراجعة لضمان تمثيل نسبي أكثر عدالة.
وقد أثرت هذه القضايا على تشكيل البرلمان العراقي الجديد؛ حيث أظهرت ارقام الانتخابات فشلاً واضحاً للتيارين العلماني (المدني) والإسلامي في حيازة ثقة الناخب العراقي الذي يبدو أكثر ميلاً لأحزاب غير عقائدية تجمع بين الايمان بالإسلام وبين دولة مدنية تقوم على أساس معايير المواطنة. وعلى الرغم من الانخفاض النسبي لعدد المقاعد، ناهيك عن عدد الأصوات التي حاز عليها ممثلو الجماعات المسلحة في العراق مقارنةً بكل الانتخابات السابقة والذي يدل على قلة تفضيلهم من قبل الناخب العراقي - بخاصة في جنوب العراق - إلا أن التأثير السياسي المحتمل لهذه الجماعات داخل البرلمان العراق، وبالتالي على الحكومة العراقية التي سيتم تشكيلها، يبدو أكبر هذه المرة.
وستواجه الحكومة القادمة بلا شك خيارات صعبة جداً في كيفية ادامة توازن حرج بين رضا تلك الجماعات عنها من جهة، وإرضاء الشارع العراقي الرافض عموماً لهذه الجماعات من جهة ثانية، فضلاً عن الاستجابة للضغوط الامريكية والدولية وحتى الإقليمية لحل تلك الجماعات واستبعادها من المشهد السياسي العراقي من جهة ثالثة. وفي هذا الخصوص تحديداً ستكشف لنا الأيام القادمة حجم التأثير السياسي لتلك الجماعات في عملية تشكيل الحكومة الجديدة ومدى تأثيرها في اختيار المناصب القيادية الرئيسية التي تجري مناقشتها حالياً.