- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
آفاق التعاون الأمني بين العراق وسوريا في مرحلة ما بعد الأسد
تفرض تهديدات تنظيم الدولة الاسلامية في المناطق الحدودية ضرورة تكثيف الجهود المشتركة بين بغداد والقيادة الجديدة في سوريا في ظل انسحاب قوات التحالف الدولي، غير ان الانتخابات البرلمانية العراقية المقررة في 11 تشرين الثاني / نوفمبر، الى جانب الانقسامات الداخلية بشأن الية التعامل مع دمشق، ما تزال تعيق احراز تقدم ملموس في هذا المجال.
تفرض التهديدات المستمرة التي يشكلها "تنظيم الدولة الإسلامية" في المناطق الحدودية بين البلدين ضرورة تنسيق الجهود الأمنية بين بغداد والقيادة السورية الجديدة، لا سيما في ظل الانسحاب التدريجي لقوات التحالف الدولي. غير أن نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية التي أُجريت في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، فضلا عن الانقسامات الداخلية حول كيفية التعامل مع دمشق، تحول دون إحراز تقدم ملموس في هذا الاتجاه.
تشهد الساحة حالياً مناقشات مكثفة حول سبل تعزيز التعاون الأمني بين العراق وسوريا بعد سقوط نظام الأسد، مدفوعة بالتحديات المشتركة التي يتصدرها خطر "تنظيم الدولة الإسلامية". فعلى الرغم من الخسائر الميدانية التي مُني بها التنظيم، لا يزال يشكل تهديداً كبيراً، لا سيما في المناطق الصحراوية الممتدة عبر الحدود بين البلدين. يدفع هذا الواقع الحكومتين إلى دراسة مقاربات أمنية مشتركة، في وقت يتراجع فيه الدور المباشر للتحالف الدولي في العراق.
بيد أن هذا التقارب المحتمل يواجه عقبات متعددة، أبرزها الانقسام داخل العراق بشأن مدى شرعية الانفتاح على النظام السوري، إلى جانب التعقيدات الإقليمية المتشابكة التي قد تعرقل أي مساع جادة لإرساء تعاون أمني مستدام بين الجانبين.
التهديدات الأمنية
استمرت التوترات على طول الحدود العراقية السورية منذ عام 2003، حين تحولت المنطقة إلى ممر لعبور المسلحين والأسلحة. وتفاقمت الأوضاع مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، إذ بدأ المقاتلون الأجانب والجماعات المتطرفة بالتنقل بحرية عبر الحدود نحو الأراضي السورية.
بعد تولي المعارضة السورية السلطة في عام 2024، كشفالنائب العراقي مختار الموسوي أن عدداً من المسؤولين العراقيين قاموا بزيارات سرية إلى دمشق لبحث التهديدات الأمنية المشتركة. ومهدت هذه اللقاءات الطريق لسلسلة من الزيارات التي أجراها رئيس جهاز المخابرات العراقي حامد الشطري إلى العاصمة السورية، حيث التقى بالرئيس السوري أحمد الشرع في شباط/فبراير ونيسان/أبريل وآب/أغسطس. كما التقى رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بالشرع في العاصمة القطرية الدوحة، في إطار مبادرة قطرية لتعزيز التعاون بين بغداد ودمشق.
تعكس هذه الاجتماعات إدراكاً متبادلاً لأهمية التعاون الأمني في ترسيخ الاستقرار الداخلي. وتخشى بغداد من استغلال الفراغ الأمني الناجم عن سقوط نظام الأسد، لا سيما من قبل آلاف مقاتلي "تنظيم الدولة الإسلامية" وعائلاتهم المقيمين حالياً في مخيم الهول شمال شرقي سوريا. ويؤكد المسؤولون العراقيون ضرورة التنسيق المباشر مع دمشق وتكثيف جهود مكافحة الإرهاب لاحتواء التهديد وتعزيز الثقة المتبادلة بين البلدين.
كما تحرص بغداد على تعزيز التعاون في تأمين ومراقبة المناطق الصحراوية الواسعة التي أصبحت ممراً رئيسياً لتهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود. وتشير التقارير إلى أن كميات كبيرة من الحبوب المخدرة والأسلحة الخفيفة تُهرب بين محافظة دير الزور السورية ومحافظة الأنبار العراقية.
في المقابل، تتعامل دمشق بحذر، خشية أن يؤدي أي اتفاق أمني مع بغداد إلى تمكين الميليشيات العراقية من استعادة نفوذها داخل سوريا عبر دعم الجماعات الشيعية السورية في المنطقة الساحلية. فمنذ عام 2013، شاركت الفصائل العراقية، وعلى رأسها "كتائب حزب الله" و"حركة النجباء"، في القتال إلى جانب نظام الأسد تحت ذريعة حماية الأضرحة الدينية. وبالتنسيق مع "فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني"، ساهمت هذه الفصائل في تعزيز النفوذ الإيراني في مناطق مثل دير الزور وأبو كمال والقصير، ضمن مشروع تأمين "الهلال الشيعي"، وهو ممر بري يمتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق.
انسحاب التحالف الدولي وخيارات التعاون
يمثل الانسحاب المرتقب لقوات التحالف الدولي من العراق، بما في ذلك القوات الأمريكية، نقطة تحول مفصلية تطرح تساؤلا محوريا حول قدرة العراق على مواجهة التهديدات الإرهابية عبر الحدود دون الدعم الجوي والاستخباراتي الذي وفره التحالف منذ عام 2014 على طول الحدود العراقية-السورية الممتدة على نحو 600 كيلومتر.
والجواب أن ذلك سيكون بالغ الصعوبة. فلا زال "تنظيم الدولة الإسلامية" يشكل تهديداً خطيراً في الصحارى الواسعة لمحافظتي الأنبار ونينوى. وبالتالي، لم يعد التعاون مع دمشق مجرد خيار دبلوماسي أو سياسي، بل ضرورة أمنية ملحة لمنع تجدد الهجمات الإرهابية.
كما أن انسحاب التحالف يمنح بغداد فرصة لإعادة صياغة علاقاتها وتحالفاتها الإقليمية. ففي ظل غياب الوجود الغربي المباشر، قد يشكل الانفتاح على القيادة السورية الجديدة مخرجاً للعراق من عزلته الجيوسياسية، شريطة أن يتمكن من تحقيق توازن دقيق بين الكتل الإقليمية المتنافسة.
وترى بعض الفصائل السياسية العراقية في مغادرة التحالف الدولي فرصة لإرساء إطار أمني إقليمي جديد بين بغداد ودمشق خال من الإملاءات الأجنبية. لكن، على الرغم من جاذبية هذه الرؤية، إلا أنها تصطدم بواقع معقد، يتجلى في انعدام الثقة العميق بين المؤسستين الأمنيتين في البلدين، واختلاف أولوياتهما، وتضارب تحالفاتهما الإقليمية.
الدوافع الإقليمية
لا يمكن فهم التعاون الأمني بين العراق وسوريا بمعزل عن تأثير القوى الإقليمية التي تسهم في تشكيله، سواء بدعمه أو بإعاقته. فعلى سبيل المثال، تراقب تركيا عن كثب أي تنسيق بين بغداد ودمشق، خشية أن يفسح المجال أمام إيران لاستعادة نفوذها في الساحة السورية. كما تبدي أنقرة قلقاً من أن يؤدي التقارب بين البلدين إلى إعادة تشغيل خط أنابيب النفط كركوك– بانياس، المغلق منذ عام 2003، بما قد يشكل تهديداً لخط كركوك-جيحان، الذي توليه تركيا أهمية اقتصادية واستراتيجية كبرى.
في هذا السياق، استأنفت سوريا والعراق مؤخراً محادثات في بغداد حول إمكانية إحياء خط كركوك– بانياس، الذي يراه العراق خياراً استراتيجياً بديلاً لخط كركوك-جيحان لتصدير النفط، بهدف تقليل الاعتماد على الخليج العربي وتركيا وتعزيز نفوذه الاقتصادي. وقد اكتسبت هذه الفكرة زخماً بعد إغلاق خط كركوك-جيحان في آذار/مارس 2023، قبل أن يُعاد تشغيله لاحقاً.
غير أن إعادة تشغيل خط بانياس تواجه عقبات متعددة، أبرزها تدهور البنية التحتية التي تتطلب استثمارات ضخمة لإعادة تأهيلها. إضافة إلى ذلك، يمر الخط عبر مناطق خاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" في دير الزور، وأخرى تقع ضمن نطاق نفوذ الميليشيات الشيعية في الساحل السوري، مما يستوجب إبرام تفاهمات أمنية تضمن سلامة الخط واستمرارية تشغيله.
أما بالنسبة لتركيا، فقد تزايدت مخاوفها في ظل التطورات الأخيرة، إذ تخشى أنقرة أن تستغل "قوات سوريا الديمقراطية"، التي تصنفها كمنظمة إرهابية، أي مشروع اقتصادي أو أمني لتعزيز وجودها في شمال شرق سوريا. ولذلك، تعمل أنقرة بنشاط عبر حلفائها السياسيين في كل من العراق وسوريا على إحباط أي تقارب أمني أو اقتصادي بين البلدين.
وفي الوقت ذاته، تشارك دول الخليج - التي تقدم نفسها عادة كأطراف محايدة - تركيا مخاوفها من عودة النفوذ الإيراني إلى دمشق عبر البوابة العراقية. وفي هذا السياق، تسعى قطر إلى تقديم بدائل في مجال الطاقة لسوريا، بهدف تقليل اعتمادها على النفط العراقي، بينما تحاول السعودية والإمارات جذب دمشق نحو محور عربي مستقل عن طهران. وبالنسبة لتركيا ودول الخليج، يبقى التعاون بين بغداد ودمشق ملفاً بالغ الحساسية سياسياً، ما لم تُقدم ضمانات واضحة بعدم تمكين إيران من لعب دور محوري فيه.
أما الولايات المتحدة، فقد أبدت اهتماماً محدوداً بالملف الأمني العراقي - السوري. وتشير تقارير متعددة إلى أن واشنطن تشجع بهدوء عملية التطبيع بين الجانبين، ولا سيما في مجالي مكافحة الإرهاب وضبط الحدود، للحد من النفوذ الإيراني في العراق. ومع ذلك، لا تزال واشنطن حذرة إزاء أي ترتيبات قد تعزز موطئ قدم لإيران داخل سوريا.
وفي المقابل، تسعى إيران - التي لا تزال تواجه تراجعاً في مواقعها الاستراتيجية داخل سوريا بعد انهيار نفوذها المتراكم منذ عام 2011 - إلى إعادة تموضعها الإقليمي. وتتمثل إحدى وسائلها لتحقيق ذلك في تعزيز آلية تنسيق ثلاثية تجمع بين طهران وبغداد ودمشق، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب عبر الحدود. ومن خلال هذا الإطار، تأمل إيران في إعادة بناء الممر البري الذي يربط طهران ببيروت، وهو عنصر محوري في مشروع "الهلال الشيعي". وقد أدلى عدد من المسؤولين الإيرانيين بتصريحات علنيةشددوا فيها على ضرورة الحفاظ على التوازن الإقليمي للقوى في أي ترتيبات أمنية جديدة، في إشارة ضمنيةبعدم إلى رفض تهميش دور طهران في الساحة السورية. وتشير مصادر مختلفة إلى أن إيران تستخدم نفوذها السياسي داخل العراق لضمان حصة مؤثرة لها في أي تعاون مستقبلي بين بغداد ودمشق.
التعاون بين بغداد ودمشق والانقسامات الداخلية
لم يكن سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024 حدثاً داخلياً فحسب، بل شكّل منعطفاً حاسماً في ديناميات القوى الإقليمية. فلا تزال إيران تنظر إلى سوريا بوصفها البوابة الأساسية لنفوذها في بلاد الشام والرابط الأهم فيما يُعرف بـ"محور المقاومة". في المقابل، تسعى القوى العربية والغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول الخليج، إلى منع أي عودة للنفوذ الإيراني في سوريا ما بعد الأسد.
امتد هذا الصراع الإقليمي ليطال الساحة السياسية العراقية، حيث تجد بغداد نفسها مرة أخرى ميداناً لتجاذب المحاور الإقليمية المتنافسة بدلاً من أن تتخذ قراراتها بشأن التعاون مع دمشق على أساس المصلحة الوطنية البحتة.
ينقسم المشهد السياسي العراقي حالياً إلى معسكرين رئيسيين: الأول مرتبط ارتباطاً وثيقاً بطهران، ويعد أي تعامل مع سوريا الجديدة خيانة لحليفها التاريخي، نظام الأسد المدعوم من إيران. ويرى هذا المعسكر أن أي انفتاح على القيادة السورية الجديدة يمثل شرعنه لمشروعٍ غربي - خليجي فُرض بعد سقوط الأسد، وخضوعاً عراقياً لضغوط خارجية تهدف إلى تقليص النفوذ الإيراني.
أما المعسكر الآخر، الأكثر براغماتية، فيدعو إلى التعامل مع دمشق انطلاقاً من اعتبارات الأمن القومي العراقي، ويرى أن استقرار سوريا يشكّل شرطاً أساسياً لأمن العراق، وأن قطع العلاقات سيؤدي إلى فراغٍ حدودي خطير قد يتيح لـ"تنظيم الدولة الإسلامية" إعادة بناء قدراته، فضلاً عن الإضرار بالمصالح الاقتصادية العراقية..
ومن المفارقات أن المعسكر الموالي لإيران يتهم منافسيه بالرضوخ لإملاءات الغرب، في حين يتجاهل الاعتراف بتوافقه مع أجندة طهران. وقد برزت مظاهر هذا التوتر بوضوح عندما رفضرئيس الوزراء السابق نوري المالكي مقترح دعوة الرئيس السوري لحضور قمة الجامعة العربية التي عقدت في بغداد في أيار/مايو. فقد جادلالمالكي بأن الحكومة العراقية "ينبغي ألّا تستضيف أشخاصاً متورطين في سفك دماء العراقيين"، ووصفالرئيس أحمد الشرع بأنه مطلوب من قبل المحاكم العراقية بتهم الإرهاب ودعم الجماعات المسلحة.
انطوت تصريحات المالكي على رسائل سياسية متعددة المستويات؛ فعلى الصعيد الداخلي، أراد التأكيد أن الشرع شخص غير مرغوب فيه، بينما وجّه في الوقت نفسه رسالة خارجية مفادها أن تياره السياسي لن يقبل بتطبيع العلاقات مع أي جهة لا تنال رضا طهران.
وأثار موقفه انتقادات لافتة، فقد صرحالسياسي العراقي عزت الشباندر أن الشرع نفى هذه الاتهامات وتحدى من لديهم أدلة أن يقدموها إلى المحكمة بدلاً من إطلاق مزاعم ليس لها أساس قانوني. وفي السياق ذاته، أكدعضو البرلمان شعلان الكريم أنه لا توجد مذكرة توقيف بحق الشرع صادرة عن المحاكم العراقية أو الإنتربول، متهماً المالكي بـ"تسييس القضاء وإقحامه في صراع سياسي" لا يخدم المصلحة الوطنية للعراق.
في المقابل، شدد السوداني على أهمية مشاركة سوريا في قمة جامعة الدول العربية التي استضافتها بغداد، موضحاً أن حضور الشرع كان ضرورياً لتقديم رؤية متكاملة حول ملامح سوريا الجديدة. وأضاف أن غالبية الدول العربية باتت اليوم أكثر حرصاً على تجاوز الأزمة السورية وفتح صفحة جديدة من العلاقات مع دمشق.
سيناريوهات مستقبلية
ثمة سيناريوهات عديدة محتملة لمستقبل العلاقات العراقية - السورية. يقوم السيناريو الأول على قدرة بغداد على تجاوز الضغوط الإقليمية والانقسامات الداخلية. فإذا تمكنت من ذلك، فقد يُمهد هذا النجاح الطريق نحو توسيع مجالات الشراكة بين بغداد ودمشق، بما في ذلك إنشاء مراكز تنسيق حدودية مشتركة، وتنفيذ عمليات أمنية منسقة ضد "تنظيم الدولة الإسلامية"، إضافةً إلى إعادة تأهيل خط أنابيب كركوك - بانياس وإطلاق مشاريع اقتصادية وتنموية مشتركة أخرى. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا السيناريو يستلزم وجود مظلة سياسية عراقية قوية ومتماسكة، قادرة على إرساء توازن فعال في علاقاتها الإقليمية والدولية.
نظراً للتعقيدات الإقليمية، فإن السيناريو الثاني - وهو الأكثر ترجيحاً على المدى القريب - يتمثل في استمرار التعاون الأمني المحدود بين الجانبين، بما يشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنفيذ عمليات ميدانية مشتركة ولكن ضمن نطاقٍ سري، لا يصل إلى مستوى الشراكة الرسمية أو التطبيع الكامل للعلاقات. أما إذا تدهورت العلاقات مجدداً، فقد يشهد البلدان عودة إلى التوترات والأزمات الحدودية التي ميّزت المرحلة السابقة لعام 2014، بما في ذلك تصاعد الفوضى الأمنية وتنامي التهديدات الاقتصادية في المناطق الحدودية المشتركة.