كان مشروع منطقة التجارة الحرة الإيرانية يرمى الى خلق فرص عمل جديدة، وزيادة الاستثمارات، ودمج الاقتصاد الإيراني بالاقتصاد العالمي. لكن عوضا عن ذلك، أدى الافتقار للبنية التحتية وفساد المسؤولين الى تحويل المناطق الحرة إلى أسواق محتكرة تضر بالناس أكثر مما تنفعهم.
بعد عقود قليلة على الثورة الإسلامية، سعت جمهورية إيران الإسلامية إلى التحول من نموذج اقتصادي مركزي يتسم بيروقراطية واسعة النطاق إلى نموذج يقلّص حجم الحكومة واقتصاد السوق. وتماشياً مع هذه الرؤية الجديدة، أطلقت إيران مشروع مناطق التجارة الحرة في أوائل تسعينيات القرن الماضي، الذي رمى إلى تعزيز الصادرات عبر الموانئ الاستراتيجية الإيرانية وخطوط التجارة الأخرى. وأقر البرلمان الإيراني قانون مناطق التجارة الحرة في عام 1992 وحدد ثلاث مناطق بالقرب من الخليج العربي: جزيرة كيش وجزيرة قشم، وكذلك ميناء تشابهار.
تلك إيران حاليًا حوالي سبع مناطق تجارة حرة في جميع أنحاء البلاد، ولكن المناطق الثلاث الأولى، ولا سيّما تشابهار، تحظى بأهمية استراتيجية كبيرة. واعتمدت إيران أيضًا بعد بضع سنوات بعد من إطلاق المشروع مفهومًا مشابهًا يُشار إليه باسم "المناطق الاقتصادية الخاصة" التي أُنشئت لتحسين شبكات التوريد والتوزيع في البلاد ولتُستخدَم كخطوط وقنوات توصيل للسلع العابرة. بيد أن فعالية المناطق الاقتصادية الخاصة اعتمدت على نجاح مناطق التجارة الحرة التي كانت جزءًا من استراتيجية الاقتصاد السياسي هذه، إلاّ أنه منذ البداية لم تتوافق الأهداف المحددة لهذه المناطق مع الواقع.
السياسة الوطنية تُهيئ الأجواء
ظهرت الصياغة الأولية لمناطق التجارة الحرة مع انتخاب أكبر هاشمي رفسنجاني، وهو سياسي يميني يتطلع إلى التحرير الاقتصادي، رئيسًا للجمهورية الإسلامية. وبتصويته، استلم اليمينيون الحكم. وسرعان ما استعدت الحكومة للتغيير ووضعت الخصخصة ورفع القيود وتحرير الأسعار على قائمة جدول أعمالها. فقد ولّت الحكومة التي سعت، في السنوات السابقة، إلى السيطرة على الاقتصاد وتأميم الصناعات وتوفير الخدمات الاجتماعية ومواصلة الدعم الحكومي.
ورحّب أيضًا الغربيون بالسياسات الاقتصادية الجريئة لحكومة هاشمي المشكلة حديثًا. فمع توجه الأنظمة الشيوعية السابقة في أوروبا الشرقية والديكتاتوريين السابقين في أمريكا اللاتينية وأفريقيا نحو تحرير أسواقهم، بدا أن إيران تسير في هذا الاتجاه العالمي للإصلاحات الجذرية. وقد جسّد رفسنجاني شخصيًا هذه الفكرة. فنجل المزارع الذي يعمل في حقول الفستق ورجل الدين المؤيد للسوق الحرة، كان مصرًّا على النظام الاقتصادي الذي يقوم على الملكية الخاصة وعلى خفض الدعم.
وبناءً على طلبه، أعادت الحكومة خصخصة عدد من الشركات التي تم تأميمها بعد الثورة، وأحيت سوق الأوراق المالية، هذا ونجحت في الحصول على قروض بملايين الدولارات من البلدان الغربية - بما في ذلك تلك التي أدانتها طهران ذات مرة - ومن البنك الدولي. كما عدّلت قوانين الاستثمار الأجنبي بشكل تدريجي، وباتت هذه القوانين تخدم اليوم مصالح الأجانب أكثر مما كانت في الماضي.
وأبدى بعض المحللين الغربيين تفاؤلاً بأنه إذا لم يتم إدماج إيران في النظام العالمي من خلال سياساتها الإيديولوجية، فسوف يتم إدماجها من خلال تنفيذ السياسات الاقتصادية. وفي الواقع، اتبعت سياسات حكومة رفسنجاني خطة البنك الدولي المحددة بدقة. وكانت خصخصة الشركات المملوكة للدولة التي تفتقر إلى الكفاءة، وإلغاء أو خفض القيود المفروضة على الأسعار والدعم، والتجارة الحرة، وإنهاء نظام العملات المتعددة، ودعم الاستثمار الخاص والأجنبي، هي التوصيات نفسها التي تم تضمينها في برامج الإصلاح التي اقترحها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ووفقا لأرشيف البرلمان (د مذاکرات نمایندگان مجلس شورای اسلامی 1372-1368 22 تشرين الثاني/نوفمبر (1989، دافع محمد باقر نوبخت، أحد أوائل مؤيدي خطة المنطقة الحرة، عن النموذج باعتباره متوافقًا مع أهداف السوق الحرة الأوسع نطاقًا: "تولّد الموانئ الحرة فرص العمل وتدر أرباحًا عالية بالعملات الأجنبية وتزيد الصادرات وتخفف السيولة النقدية وتستوعب التكنولوجيا بسرعة وتزيد الإنتاج المحلي والازدهار النسبي... إنها تنشئ نظام تسويق وعشرات المنافع الأخرى التي نحتاج إليها الآن كثيرًا وتسهلها". وبعبارات أخرى، دافع مؤيدو المنطقة الحرة عن مشروع القانون من خلال ثلاثة محاور رئيسية: أولاً، توفير فرص العمل بإلغاء أحكام قانون العمل وإلغاء الضوابط الرقابية على القوانين الأخرى، وثانيًا، جذب المستثمرين الأجانب، وثالثًا، زيادة الصادرات. ولخّصوا الأهداف في ما بعد كالتالي: "كان الهدف الرئيسي للبرلمان في إقرار هذا القانون هو زيادة صادرات البلاد غير النفطية، حيث أن صادرات إيران غير النفطية بين عامي 1983-1988 لم تتجاوز 3.8 مليار دولار، وذلك لم يكن كافيًا للمساعدة في توفير الأموال اللازمة للواردات".
يجب أيضًا فهم سياسة استحداث وإنشاء منطقة حرة على أنها محاولة لتعزيز إدماج الاقتصاد الإيراني في قلب الاقتصاد العالمي. فمع إنشاء ميناءين للتجارة الحرة في الخليج العربي وعدد من مناطق التجارة الحرة الأخرى في الشمال والشرق وجنوب شرق البلاد، بدأت عملية تدويل الاقتصاد الإيراني وزادت مشاركة الصناعات في الاقتصاد العالمي. وأدت التشريعات الاقتصادية إلى تحرير هذه المناطق الحرة بشكل كبير، وإلغاء الضرائب وخفضها، وتسويف عقود العمل، وإزالة الأنظمة البيئية، والحد من الرقابة القانونية والتشريعات الأخرى التي تصب في مصلحة المستثمرين.
واقع التنفيذ
تمحورت الأهداف الأساسية للمناطق الحرة حول توفير فرص العمل، وتعزيز الصادرات، وجذب المستثمرين الأجانب والمحليين من خلال توفير بيئة اقتصادية ملاءمة عن طريق رفع القيود والامتيازات. وفي حالة ميناء تشابهار، سعى النظام أيضًا إلى تحقيق الاستقرار في بلوشستان من خلال توفير فرص عمل للسكان البلوش المحليين الذين تم إهمالهم بصورة منهجية. غير أن هذه الامتيازات لم تعالج التحدي الرئيسي الذي واجهه المستثمرون المحليون. فبمعزل عن القيود والأنظمة القانونية، لم تكن البرجوازية الصناعية الإيرانية قادرة على التنافس مع منافسيها الأجانب. ويعزى هذا العجز إلى واقع النظام الاقتصادي الإيراني ضعف أسس الرأسمالية الصناعية فيه مقارنة بالقوى الإقليمية الأخرى.
وعلاوة على ذلك، لم تمتلك المناطق المختارة للمناطق الحرة في إيران، أي جزيرتيْ كيش وقشم الواقعتين في الخليج العربي، البنية التحتية الكافية لتصبح صناعية، كما أن التضاريس المحيطة في تشابهار حدت من وصولها إلى طرق العبور المناسبة. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال هذه الشركات تواجه مشاكل تشغيلية كبيرة داخل إيران بسبب العقوبات والمشاكل الإيديولوجية، حتى بعد مرور ثلاثة عقود على إقرار قانون المناطق الحرة.
وبعد أن أصبحت هذه العوائق جلية، ما عادت التوقعات السابقة المتوخاة من مشروع المناطق الحرة هي نفسها، وتحولت هذه المناطق إلى أسواق استهلاكية ووجهات استيراد. وبدلاً من تحويل هذه المناطق إلى مناطق صناعية لزيادة التصنيع والصادرات، تم إنشاء مجمعات تجارية كبيرة ومراكز تسوق ومعالم سياحية أخرى، ما أدى بدوره إلى تحويل البنية الحضرية المحلية. وبالنظر إلى رفع القيود وتمتع تلك المناطق بالاستقلالية الاقتصادية، سُمح للشركات الكبرى التي تربطها علاقة وثيقة بالإدارات المحلية للمناطق الحرة باستيراد السلع من دون دفع ضرائب جمركية عالية، فاحتكرت السوق في نهاية المطاف. تجدر الإشارة إلى أن التركيز المتزايد على الواردات أدى إلى تغيير الاتجاه الاقتصادي للمناطق الحرة وإنتاج مدن جديدة. فقد أدى هذا التحول الناجم عن الافتقار إلى البنية التحتية الصناعية في المناطق الحرة، إلى زيادة تدفق السلع الأجنبية الأرخص ثمنًا داخل إيران، وقضى بالتالي على الشركات الإيرانية التي لم تستطع مجاراة الأسعار.
ودفعت أيضًا عملية إنشاء المناطق الحرة صانعي القرار الفاسدين إلى اكتشاف سلعة أخرى: الأراضي. فقد كانت الطبيعة المستقلة للمناطق تعني أن إدارة المنطقة الحرة المحلية تملك سلطة مصادرة الأراضي لبيعها للمطورين. وهكذا أصبحت المنطقة الحرة الجهة الفاعلة الرئيسية في مصادرة الأراضي، لا سيّما في تشابهار. وبما أن هذه المناطق الحرة كانت مستثناة من الكثير من الأنظمة المحلية، فُسح المجال أمام الشبكات الكليبتوقراطية لاستخدام وسائل فاسدة لإخراج السكان المحليين من المنطقة.
يُشار إلى أن منطقة التجارة الحرة في كيش هي أول تجربة لإيران في الأنشطة الاقتصادية للتجارة الحرة. وقد تم تصميم هذه المنطقة، مثل مناطق التجارة الحرة الأخرى حول العالم، لجذب الاستثمار المحلي والأجنبي في القطاعات الصناعية وغير الصناعية، إذ تتمتع بإعفاءات ضريبية على الدخل وإعفاءات جمركية ودعم للخدمات وتكاليف النقل والخدمات العامة الأخرى التي تُعنى برفاه السكان.
ولكن، حتى مع شروع إيران في تطبيق سياسات منطقة التجارة الحرة الخاصة بها، أدركت الحكومة أنها تواجه منافسًا إقليميًا رئيسيًا في دبي. فميناء جبل علي وبورصة دبي التي يُحسد عليها قد تفوّقا على كل من قشم وكيش وتشابهار الإيرانية بحلول أوائل تسعينيات القرن الماضي. وكثيرًا ما تساءل صانعو السياسة الإيرانيون كيف تتفوق دولة لا تملك موارد مائية كبيرة، أو أرض واسعة أو عدد سكان كبير، على جميع المستويات. وفي هذا الصدد، صرّح نائب مدير البرنامج والميزانية محمد جعفر إسلامي: "يُحتمل أن دبي ما كانت لتصل إلى هذه المرحلة لولا التسهيلات الإيرانية والمطالب الإيرانية بشراء سلعها، لذا نرى أنه بدلاً من إعطاء هذه الفرصة للأجانب والدول الأخرى، يجب أن نكون قادرين على اقتناص الفرصة لتلبية احتياجاتنا المحلية".
ومع ذلك، لم يتحقق الكثير من الأهداف المحلية للمناطق الحرة. فقد جاءت المناطق الحرة مع وعد بتطوير عدد من المناطق الإيرانية المتأثرة بالكساد، ولا سيّما في سيستان وبلوشستان. وأكّد المدافعون عن هذه الخطة، مثل محمد جعفر إسلامي، أن توفير فرص العمل كان أحد الأسباب الرئيسية لإنشاء مناطق التجارة الحرة: "نحن بحاجة في إيران إلى هذه الآلية لتطوير بعض مناطقنا المحرومة، مثل محافظة بلوشستان وتشابهار [وهي إحدى مقاطعاتها]، لتصبح منطقة تجارة حرة."
يُشار إلى أن توفير فرص العمل في منطقة تشابهار هدف إلى القضاء على التهريب الحاصل في مينائها. في الواقع، شكل فرق الأسعار بين تشابهار والخارج جزءًا من مصدر عيش عدد كبير من سكان تشابهار المحليين. ولأن معظمهم لا يدفع الرسوم الجمركية، شكّل هذا الفرق بين سعر استيراد البضائع والسعر الداخلي مصدرًا جيدًا للدخل بالنسبة إليهم، بيد أن اليوم بات جزء من الإيرادات الجمركية يخصص للمنطقة الحرة.
كان من المفترض أن تجتذب المنطقة الحرة المستثمرين الإيرانيين من خلال رفع القيود وتوفير الامتيازات، وذلك بهدف تعزيز صادرات السلع المصنعة. وعلى الرغم من ذلك، شكّلت القوانين والأنظمة الاقتصادية الهاجس الأساسي بالنسبة إلى المستثمرين. فقد تمثّل التحدي الرئيسي في عجز البرجوازية الصناعية الإيرانية عن منافسة منافسيها الأجانب. وحتى لو افترضنا أن بعض الشركات الإيرانية تملك القدرة على منافسة المنتجات الأجنبية، فإن جزيرتيْ كيش وقشم لا تمتلكان المتطلبات الأساسية والبنية التحتية اللازمة للتصنيع، ولا يمكن تحويل تشابهار إلى منطقة صناعية لعدم وجود طرق عبور مناسبة. ففي ما يتعلق بتوفير فرص العمل، كان الهدف المبدئي هو توظيف السكان المحليين بمجرد أن تصبح المنطقة صناعية.
لم يتوافق الواقع مع الأهداف التي وضعها صانعو السياسات. فعلى الرغم من تحول البنية التحتية الحضرية في المنطقة، لم يتم إنشاء مصانع أو مؤسسات صناعية. وبدلاً من ذلك، تحولت المناطق الحرة إلى مراكز تسوق راقية تقدم سلعًا فاخرة بسعر أرخص من المقاطعات الأخرى. هذا وقامت الشركات الكبيرة التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بإدارات المناطق الحرة المحلية باحتكار السوق من خلال الواردات غير الخاضعة للرقابة والمعفاة من الضرائب، وهو أمر لم يؤدِّ إلى غياب فرص العمل بالنسبة إلى الإيرانيين فحسب، بل قضى أيضًا على الشركات المحلية التي لم تكن قادرة على منافسة الأسعار المنخفضة.
وعلى الرغم من أن الجمهورية الإسلامية سعت إلى إدماج اقتصادها مع بقية العالم في أوائل تسعينيات القرن الماضي في عهد الرئيس رفسنجاني، وذلك من خلال إنشاء مناطق التجارة الحرة، إلا أن الحسابات الخاطئة للمسؤولين الإيرانيين حالت دون أن تصبح هذه الأهداف حقيقة واقعة، فمع الافتقار للبنية التحتية و عدم وجود سوق مستهدفة للسلع الإيرانية صارت المناطق الصناعية بالنسبة للمسؤولين الكليبتوقراطيون مصدرًا آخر للربح، وهو ما أدى بدوره إلى تغذية نظام الفساد المستمر في إيران.